فيما كان الاحتلال يحصي عدد جنوده القتلى والمرضى النفسيين والمصابين بإعاقات دائمة، وتعرُّض آلياته الأكثر من 1500 للتدمير الكلّي والجزئي، كانت السلطة الفلسطينية المراقبة الصامتة لإبادة شعبها في قطاع غزة، ترى في حرب الإبادة فرصة أخرى لإثبات دورها الوظيفي كحارس لأمن الاحتلال، بعدما خسرته قبل الحرب في مخيمات شمال الضفة الغربية في جنين وطولكرم ونابلس.
السلطة الفلسطينية التي أدان عدد من مسؤوليها، على رأسهم رئيسها محمود عباس، عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ورأت أن على حماس الانصياع لها والانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية تحت جناح السلطة، وترك المجال لمسؤولي رام الله لإدارة قطاع غزة، وفق العقيدة الأمنية للجنرال الأمريكي كيث دايتون، التي ترى في المقاومة إرهابًا يجب التخلص منه.
عند الحديث عن التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال الإسرائيلي، فإن شخصَين يتصدران المشهد أكثر من رئيسها حتى، هما أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج، اللذان انطلقا في رحلات مكوكية إلى مصر والأردن لبحث ملف إدارة غزة بعد الحرب، ووضع السلطة الفلسطينية، وبينما تبدو الكعكة الرئاسية ووضع السلطة في قطع غزة رست عند الشيخ، يبدو أن حصة الأخير كانت قطاع غزة وإدارتها.
وبينما كان يواجه الفلسطينيون في قطاع غزة قصفًا مدمّرًا مخلفًا أكثر من 100 ألف شهيد وجريح ومفقود، ورصاصًا إسرائيليًّا من جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية، لم يصبر ماجد فرج كثيرًا على الحصول على حصته من كعكة التنسيق الأمني، فاجتمع مع رئيس مجلس الأمن الإسرائيلي، تساحي هنغبي، لبحث كيفية إدارته للحصة.
ماجد فرج: جهة الثقة لدى الاحتلال
ليس أن ماجد فرج يريد قطاع غزة فحسب، بل إن الاحتلال الإسرائيلي يرى في موظفه في السلطة الفلسطينية، ورئيس جهاز المخابرات منذ أكثر من 15 عامًا، الجهة الثقة لتولي إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وفق توصية وزير حرب الاحتلال يوآف غالانت.
تحدثت مصادر عبرية قبل أسابيع أن “إسرائيل” تدرس استخدام رئيس المخابرات الفلسطينية، لبناء بديل لحكم حركة حماس في اليوم التالي للحرب، وأن يتولى ماجد فرج إدارة غزة، بمساعدة شخصيات ليس بينها عضو في حركة حماس.
وصف زعيم المعارضة لدى الاحتلال، يائير لبيد، أنه “من الطبيعي أن نذكر اسم فرج، فهو في السلطة الفلسطينية من أكثر الشخصيات التي عملت معنا ضد حماس”، مضيفًا أن التعاون مع فرج أو مسؤولين من السلطة هدفه “أمن إسرائيل”، وليس ثقة من الاحتلال في السلطة للقضاء على حماس.
ووفق تقارير الصحافة العبرية، فإن ماجد فرج هو أقوى وأكبر شخصية أمنية في السلطة الفلسطينية، ويعتبر مقرّبًا من عباس، وله علاقات ممتازة مع كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، وسبق أن طُرح كخليف للرئيس محمود عباس، وينسّق نيابة عن السلطة مع كل من الشاباك، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، ووكالات الاستخبارات العربية والغربية.
مايكل فينرل: دايتون قطاع غزة الجديد
قالت “القناة 14” العبرية إن مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بدأ العمل على بناء قوة مسلحة جنوب قطاع غزة، وبحسب تفاصيل نشرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فإن الخطة التي عرضتها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لسيطرة السلطة على قطاع غزة، وافق عليها ماجد فرج ووزير حرب الاحتلال يوآف غالانت، ورفضها رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو.
تشير بنود الخطة إلى إشراف رئيس جهاز المخابرات في السلطة الفلسطينية ماجد فرج على إعادة تأهيل 4 آلاف إلى 7 آلاف عنصر أمن سابق للسلطة في غزة، وتسليم قائمة عناصر الأمن الممكن إعادة تأهيلهم للاحتلال الإسرائيلي، لفحصهم أمنيًّا والتأكد من عدم ارتباطهم بالمقاومة.
وبحسب “يديعوت أحرونوت”، فإن أمريكا سوف تتولى التدريب العسكري لهذه العناصر بعد إخراجهم من القطاع، تحت إشراف الجنرال الأمريكي مايكل فينزل، وبعد تلقيهم التدريب اللازم تعود هذه العناصر إلى قطاع غزة ويسهّل الاحتلال مهامهم بالتنسيق الأمني.
يأتي ذلك توازيًا مع ما نشرته صحيفة “التايمز” البريطانية في وقت سابق، أن فريقًا عسكريًّا بريطانيًّا يعمل في الضفة الغربية على إعداد السلطة الفلسطينية لتولي إدارة قطاع غزة، تمامًا في إعادة للذاكرة إلى مارس/ آذار 2005، حين شكّلت الولايات المتحدة مجلسًا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة و”إسرائيل” بقيادة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي تولّى شخصيًّا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية، لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة.
حينها، حرص دايتون على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرُّب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى “صناعة الفلسطيني الجديد”، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له.
خطة الاحتلال التعاون مع العشائر.. فرج ينفّذ
مع بداية عام 2024، كشفت قناة “كان” الرسمية العبرية عن خطة لجيش الاحتلال، تتضمّن تقسيم غزة إلى مناطق تحكمها العشائر، وتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، موضحة: “سيتم تقسيم القطاع إلى مناطق ونواحٍ، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية، وهذه العشائر المعروفة لدى الجيش وجهاز الأمن العام “شاباك” ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزة لفترة مؤقتة”.
ونشرت الأطراف العبرية هذا المخطط تزامنًا مع زيارات مكوكية عربية وإسرائيلية وأمريكية، للحديث عن مرحلة ما بعد قطاع غزة، والخلاف بشأن من سيديرها: السلطة الفلسطينية، أو عشائر محلية، أو إدارة مدنية جديدة، أو الاحتلال الإسرائيلي بعد إعادة سيطرته على القطاع.
أما بالنسبة إلى ماجد فرج، فنقلت “القناة 14” العبرية مؤخرًا، أن قوة فرج من العناصر الأمنية التي يعمل عليها تتكون من عائلات لا تؤيد حركة حماس، وستعمل على توزيع المساعدات من جنوب القطاع إلى شماله.
لكن أحلام فرج قد تصطدم بصفعة من قطاع غزة، الذي جرب مسبقًا السلطة الفلسطينية في القطاع وتوجّه إلى الحسم العسكري عام 2007، حين أخرجت حركة حماس وفصائل المقاومة السلطة من القطاع، لا سيما أن مصادر صحفية كشفت أن وجهاء العائلات في قطاع غزة أبدوا استعدادهم للتعاون في إدخال وتوزيع المساعدات، شرط التنسيق مع أجهزة الأمن بغزة.
وسيصطدم فرج مجددًا مع بيان تجمع القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية في قطاع غزة، الذين أكّدوا أن القبائل ليست بديلًا عن أي نظام سياسي فلسطيني، بل إنها مكوّن من المكوّنات الوطنية، وداعمة للمقاومة ولحماية الجبهة الداخلية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
قطاع غزة: الكعكة الأخيرة للتنسيق الأمني
في ديسمبر/ كانون الأول 2023، قال رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، إن السلطة الفلسطينية تعمل مع مسؤولين أمريكيين على خطة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، خلال مقابلة مع وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية.
وأكد اشتية إن النتيجة المفضلة للصراع هي أن تصبح حركة حماس التي تدير قطاع غزة حاليًّا شريكًا أصغر لمنظمة التحرير الفلسطينية، بما يساعد على تأسيس دولة مستقلة جديدة تشمل الضفة الغربية والقطاع والقدس الشرقية.
وحدّد اشتية “الفرصة” لحماس لدخول محادثات مع السلطة بشأن إدارة القطاع، في حال كانت حماس مستعدة للتوصّل إلى اتفاق وقبول المنهج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي ينص على الاعتراف بـ”إسرائيل” وتجريم المقاومة.
وفي نهاية يناير/ كانون الثاني 2024، شهدت العاصمة السعودية الرياض اجتماعًا سريًّا ضمَّ السعودية ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية، ناقش المواقف بشأن اليوم التالي للحرب على قطاع غزة، وضمّ مستشار الأمن الوطني السعودي الوزير مساعد بن محمد العيبان، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، ورئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل، ورئيس جهاز المخابرات الأردنية أحمد حسني.
ووفق ما نقله موقع “أكسيوس” الأمريكي حينها، فإن المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين اطلعوا على مجريات الاجتماع ومحتوياته من قبل بعض المشاركين، وأن رؤساء الأجهزة الأمنية السعودية والمصرية والأردنية أبلغوا نظيرهم الفلسطيني بأن السلطة الفلسطينية بحاجة إلى إجراء إصلاحات جدّية تمكنها من تنشيط قيادتها السياسية.
وبشكلٍ متسارع للتسريبات الإسرائيلية عن دور رئيس المخابرات ماجد فرج، سارعت السلطة الفلسطينية لإصدار بيان تحفظ فيه خط رجعتها لو فشلت الخطة، قالت فيه إن “آلية إدخال المساعدات وتوزيعها يجب أن تتم بالتنسيق الكامل مع القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني، ومن خلال الآليات الدولية المعتمدة وغير القابلة للاستبدال، كالأونروا والهلال الأحمر الفلسطيني والمؤسسات الدولية ذات الصلة”.
ورحّبت السلطة، من خلال وزارة خارجيتها، بالجهود الأمريكية -أمريكا ذاتها التي تؤيد الإبادة- والدولية الهادفة لكسر الحصار عن قطاع غزة، وتأمين إدخال المساعدات والاحتياجات الإنسانية والإغاثية بشكل مستدام للمدنيين الفلسطينيين بالطرق كافة، البحرية والبرية والجوية.
يمكن أن نفهم نظرة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وهي ترى في “طوفان الأقصى” وحركة حماس وفصائل المقاومة عمومًا، وتزايد الالتفاف الشعبي الفلسطيني والعربي حول فكرة المقاومة، تهديدًا لوجودها كسلطة هدفها الأساسي ودورها الوظيفي حماية أمن الاحتلال، والسلطة توقن بشكل جليّ أن أرض غزة تحديدًا لا تتسع للشيء وضده: إما تنسيق أمني وإما مقاومة.