ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب جوشوا ووكر، سلمى بارداكجي
منذ حوالي أسبوع، انفجرت التوترات الكامنة منذ وقت طويل بين الولايات المتحدة وتركيا لتتخذ شكل أزمة دبلوماسية شاملة في أعقاب تعليق السفارة الأمريكية في أنقرة يوم الأحد الماضي لجميع خدمات التأشيرة لغير المهاجرين في منشآتها الدبلوماسية في تركيا. ويعود السبب المباشر في ذلك إلى اعتقال موظف قنصلية في إسطنبول لصلته المزعومة بفتح الله غولن.
في رد فعل فوري على هذه الخطوة، علّقت تركيا خدمات التأشيرة الخاصة بها في الولايات المتحدة حيث حظرت بشكل فعال السفر على جميع السياح أو المواطنين الذين لا يمتلكون تأشيرة مسبقا. وعلى الرغم من الاختلافات الشديدة بينها، أشادت كافة الأطياف السياسية في تركيا بالاستجابة السريعة للحكومة التركية، في لفتة نادرة للوحدة ضمن مشهد سياسي متعدد الأقطاب.
بعد مرور أسبوع، لا يزال تعليق التأشيرات قائما، على الرغم من أن الطرفان أصبحا أكثر هدوءا. ولسوء الحظ، يحيل الانقسام الدبلوماسي الرسمي الأخير، الذي يعد سابقة بين حلفيْ الناتو المقربيْن تاريخيا، إلى أن كل يوم يمضي من دون حل هذه القضية يعمق الضرر الذي لحق بالعلاقات الثنائية.
في الواقع، لم يتم الحديث رسميا عن الإعلانات على موقع تويتر التي فجرت النزاع المفاجئ خلال الأسبوع الماضي، مما أدى إلى توتر العلاقات التي بلغت أوجها مؤخرا بين الرئيسين رجب طيب أردوغان ودونالد ترامب. والجدير بالذكر أن البلدان كانا يركزان على مصالحهما العملية المشتركة في الوقت الذي حاولا فيه تجاهل اختلافاتهما بإخفائها تحت البساط الذي يبدو أنه يتسع للكثير منها.
من هذا المنطلق، يبدو أن تعليق خدمات التأشيرة في الاتجاهين يعد الحدث الأكثر بروزا من بين العديد من الخلافات طويلة الأمد ومتعددة الأوجه. وعلى المدى القصير، تعد هذه الأزمة تذكيرا، وإن كان مؤلما، لحدود الصداقة الشخصية بين ترامب وأردوغان. أما على المدى الطويل، فتُعتبر تحذيرا قويا لما سيحمله المستقبل من تحالف متغير بشكل سريع في منطقة جيوسياسية جديدة.
ألقى أردوغان باللوم على السفير الأمريكي في أنقرة، جون باس، بشأن أزمة التأشيرات، حيث يمثل السفير كبش فداء ملائم نظرا لأنه في طريقه ليصبح السفير الأمريكي القادم لدى أفغانستان
جعل المسألة (غير) شخصية
على الرغم من الشكوك المتزايدة من قبل واشنطن تجاه أنقرة، إلا أن ترامب يعتمد نبرة إيجابية في سياسته إزاء تركيا. وخلال الشهر المنصرم، اختتم ترامب اجتماعه مع أردوغان في نيويورك بقوله “إننا نتمتع بصداقة متينة كدولتان. كما أعتقد أننا في الوقت الحالي مقربان أكثر من أي وقت مضى”. وفي الأثناء، حذا أردوغان حذو الرئيس الأمريكي مشيرا إليه “بصديقي العزيز دونالد”، فضلا عن معاملته لترامب بشكل مختلف عن معاملته لأوباما. ومن جهة أخرى، تجنب أردوغان الاتهامات الشخصية على الرغم من سلسلة التحديات القائمة بما في ذلك أزمة التأشيرة الحالية.
مع ذلك، بدأ الاحترام الذي كان يكنه أنصار أردوغان لترامب بالتضاؤل، حيث يشعر الكثيرون منهم بتعرضهم للخداع من تصريحاته السابقة التي يعتبرونها الآن مجرد كلام أجوف، خاصة مع مغادرة الحلفاء الواضحين، من قبيل الجنرال مايكل فلين، لإدارة ترامب. ومن جانب آخر، ألقى أردوغان باللوم على السفير الأمريكي في أنقرة، جون باس، بشأن أزمة التأشيرات، حيث يمثل السفير كبش فداء ملائم نظرا لأنه في طريقه ليصبح السفير الأمريكي القادم لدى أفغانستان.
من خلال تجنب ذكر اسم ترامب، أظهر أردوغان عدم رغبته في إلحاق الضرر بالعلاقة الإيجابية التي تجمعه بالرئيس الأمريكي الجديد. وعوضا عن ذلك، اتهمت مجموعة مقربة من الحكومة التركية البيروقراطية الأمريكية بمعاداتها لتركيا معتبرة إياها جزءا من “الدولة العميقة” التي كانوا قد اتهموها بضلوعها، أو على الأقل بإبداء تعاطفها، مع غولن وشبكته.
في حين تبدو محاولة تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع ترامب أمرا مفهوما نظرا لسمعته كخصم عنيد، تجاوزت أزمة التأشيرة مجرد كونها سوء فهم دبلوماسي بسيط أو قضية قنصلية تقنية. فضلا عن ذلك، تأتي هذه الأزمة كإثبات على الحاجة إلى إعادة ضبط العلاقات الثنائية على نطاق أوسع.
صرّح المتحدث باسم البنتاغون، الكولونيل روبرت مانينغ، للصحفيين أن “قاعدة القوات الجوية التركية في إنجرليك لا تزال تلعب دورا هاما في دعم الناتو وجهود الائتلاف”
منذ الانتخابات الأمريكية الأخيرة، تفاءل كل من أردوغان وإدارته بشأن علاقتهما مع الولايات المتحدة على الرغم من الخلافات بين الطرفين حول القضايا الرئيسية، على غرار دور الفصائل الكردية في سوريا والعراق. من جانبه، اعتبر حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان انتخاب الرئيس ترامب كفرصة لإنعاش العلاقات بعد خيبة الأمل التي أصابته في عهد أوباما.
علاوة على ذلك، تعزز كلتا الحكومتان التزامهما القوي بمقاتلة تنظيم الدولة في المنطقة، ولكن اختلفت مواقفهما إزاء قضية غولن أوشبكته، التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية،فيما لف الغموض موقف واشنطن تجاهها.ويمكن لهذه المواجهة الدبلوماسية الأخيرة أن تحدد ما إذا كان تفاؤل أردوغان الأولي تجاه إدارة ترامب سيستمر أو ينقلب إلى شعور بالمرارة بعد شهر العسل الذي طال انتظاره.
أمر معقّد
تعتبر القضايا التي أدت إلى تعليق خدمات التأشيرة أوسع نطاقا وأكثر تعقيدا من مجرد علاقة بين رجلين. من جهتهم، يؤيد المعلقون في تركيا إغلاق قاعدة إنجرليك الجوية الأمريكية انتقاما للخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة. وفي المقابل، يشير منتقدو هذه الفكرة إلى أن إغلاق القاعدة الجوية لن يعيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية بشكل كبير، ذلك أن الولايات المتحدة تستطيع إيجاد مساحة لقاعدتها في بلدآخر من قبيل ألمانيا.
في الوقت الراهن، لم تمس الأزمة الدبلوماسية من التعاون القائم بين البلدين في إنجرليك. وفي هذا الصدد، صرّح المتحدث باسم البنتاغون، الكولونيل روبرت مانينغ، للصحفيين أن “قاعدة القوات الجوية التركية في إنجرليك لا تزال تلعب دورا هاما في دعم الناتو وجهود الائتلاف”. كما أكد مانينغ على تعاون تركيا والتزامها كحليف للناتو، وعلى مواصلة الولايات المتحدة لتنسيق الأنشطة العسكرية مع أنقرة.
يتطلع أردوغان إلى ترامب باعتباره المشرف ما قبل الأخير على تركيا ما لم يتم تعيين زعيم آخر رفيع المستوى يثير المزيد من الإحباط في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية
من وجهة نظر الولايات المتحدة، تشهد آلة السياسة الخارجية في واشنطن طريقة عمل جديدة كليا تحت إدارة ترامب. وبالنسبة للكثيرين، بما في ذلك أطرافا في أنقرة، يبدو أن البنتاغون له تأثير أكبر على قرارات السياسة الخارجية عوضا عن وزارة الخارجية. ويزيد ذلك من تأزيمالعلاقة الصعبة بالفعل،التي تتسم بصراعات معقدة بين الوكالات.
وتجدر الإشارة إلى أن الجيش التركي قد تم إخضاعه للحكم المدني في الوقت الذي لا تزال فيه وزارة الخارجية تفتقر للقيادة السياسية نظرا لعدد المناصب الشاغرة والرسائل المختلطة بشأن تركيا حتى في أعقاب الأزمة الأخيرة. وفي الحقيقة،اعتادت أنقرة تلقي رسائل مختلطة ومقاربات مختلفة من قبل واشنطن مع تعاقب الإدارات الأمريكية.
بالتزامن مع بحث إدارة ترامب عن توازنها، لا تزال الطريقة التي ستتفاعل بها وزارة الخارجية مع بيت ترامب الأبيض غير واضحة، فضلا عمن سيكون له القدر الأكبر من السلطة في العلاقات الأمريكية تجاه تركيا والحكومات في جميع أنحاء العالم. وفي نهاية المطاف، يتطلع أردوغان إلى ترامب باعتباره المشرف ما قبل الأخير على تركيا ما لم يتم تعيين زعيم آخر رفيع المستوى يثير المزيد من الإحباط في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية.
عموما، وُصف قرار تقليص خدمات التأشيرة رسميا بأنه قد تم تنسيقه من جانب واحد بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي. ويبدو أن هذه الأطراف الفاعلة الهامة قد اتفقت جميعها على رفضها العام للإجراءات الأخيرة التي اتخذتها تركيا، بيد أنها قد تكون مختلفة على الثمن الذي كانت ترغب في دفعه مقابل المزيد من التصعيد.
إلحاق الضرر بالمواطنين العاديين في الولايات المتحدة وتركيا
يترتب عن قرار وقف إصدار التأشيرات الناتج عن قضايا معقدة بين الحكومتين انعكاسات حقيقية للغاية على المواطنين العاديين في تركيا والولايات المتحدة الذين مثلوا أول الضحايا في الأزمة الأخيرة. ويحرم تعليق خدمات التأشيرة لغير المهاجرين المواطنين، الأتراك والأمريكيين من فرص التفاعل وإقامة علاقات ثقافية واقتصادية وأكاديمية التي جمعت بين البلدين منذ وقت طويل، ويُشار إليها باستمرار على أنها مستقبل العلاقات الجيوستراتيجية بين البلدين.
لا تمثل الأزمة الحالية الأولى أو الأخيرة في تاريخ العلاقات الثنائية، لا سيما في ظل نظام عالمي غير مستقر واستمرار الكارثة في سوريا والديناميكيات المعقدة في المنطقة
بالإضافة إلى ذلك، يتفق الكثير من المستفيدين من التبادلات الثقافية والعلاقات بين الشعبين الأمريكي والتركي على أن استمرار الشراكة أمر لا غنى عنه. وفي الوقت الحالي، تدفع الجهات الفاعلة المختلفة التي تشكل العلاقة التركية الأمريكية، التي كانت تسمى سابقا “شراكة استراتيجية” أو “شراكة نموذجية”، ثمن الخلافات والتصعيدات الحكومية.
فضلا عن ذلك، قد يخلق الخلاف السياسي نمطا من معاداة الولايات المتحدة في تركيا وهو ما أثبتته إحصاءات مركز بيو للأبحاث، الذي أشار إلى أن 13 بالمائة فقط من الأتراك يمتلكون تصورا إيجابيا إزاء الأفكار الأمريكية، فيما يشعر 72 بالمائة منهم بأنهم مهددون من قبل السلطة والنفوذ الأمريكيْين. وفي أعقاب محاولة الانقلاب في تركيا، ارتفعت هذه النسب إلى أعلى مستوى، وفي الأثناء لن تزداد إلا سوءا.
عموما، لا تزال تراود الشكوك الأتراك بشأن تورط الولايات المتحدة في المحاولة الانقلابية، خاصة في ظل رفض واشنطن المتواصل للقبول بطلبات الحكومة التركية بتسليم غولن. وفي هذا الإطار، تتهم أنقرة غولن بتدبير محاولة الانقلاب. وبالنظر إلى هذا الشك السائد، إلى جانب تعليق خدمات التأشير مؤخرا، باتت سمعة الولايات المتحدة في الشوارع التركية في مواجهة خطر متصاعد.
على الرغم من أن تركيا غابت عن قائمة ترامب لحظر السفر المرتبطة بالبلدان ذات الأغلبية المسلمة، إلا أن الإخفاقات الأخيرة على غرار أزمة الحرس الشخصي في واشنطن تشير إلى أن صورة تركيا في العاصمة الأمريكية تواجه خطرا محدقا على حد السواء. وفي الواقع، اعتادت كل من الولايات المتحدة وتركيا على الصعود والنزول في تحالفهما الفريد من نوعه، ورغم أنها قد تكون في بعض الأحيان هشة أو حتى تصادمية، إلا أنها تظل مرنة.
لا تمثل الأزمة الحالية الأولى أو الأخيرة في تاريخ العلاقات الثنائية، لا سيما في ظل نظام عالمي غير مستقر واستمرار الكارثة في سوريا والديناميكيات المعقدة في المنطقة. ويسلط هذا الثقب الجديد في البساط الدبلوماسي الضوء على القضايا التي كانت تتجنبها كل من الولايات المتحدة وتركيا لبعض الوقت.
وفي الوقت الذي قد تسحب فيه إحدى الحكومتين البساط من قدمي الأخرى أحيانا، قد تكون المصالح المتبادلة والرؤى الاستراتيجية المشتركة كافية لتصحيح الأمور مجددا في الوقت الحالي. كما سيكون من الضروري إجراء إعادة تنظيم وتقييم أوسع نطاقالمعالجة السبب الجذري للخلاف الدبلوماسي الجاري.
المصدر: صحيفة ناشونال إنترست