بالتزامن مع الفرحة التي عمّت السودان حكومةً وشعبًا بعد قرار رفع العقوبات الأمريكية مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، توجّس الإسلاميون من تبعات تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، خصوصًا أن الحركة الإسلامية أصبحت مهمشة فعليًا منذ سنوات ماضية، فلم يعد لها تأثير على اتخاذ القرار الذي يتحكم به الرئيس عمر البشير بصورة شبه منفردة ويستشير أحيانًا بعض المقربين منه مثل نائبه الأول بكري حسن صالح الذي يشغل أيضًا منصب رئيس الوزراء.
إلغاء المؤتمر العام للحركة الإسلامية يعزز مخاوف الإسلاميين
ازدادت مخاوف إسلاميي السودان من وجود مخطط وشروط سرية لتصفية مشروعهم ضمن صفقة رفع العقوبات الأمريكية عن البلاد، بعد أن نشرت صحيفة التيار السودانية قبل يومين، خبرًا يؤكد إلغاء المؤتمر العام التاسع للحركة الإسلامية المُزمع انعقاده في نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أيام فقط، حيث كان المؤتمر ينعقد بصورة دورية كل خمس سنوات ليختار الأمين العام للحركة التي تعتبر كيانًا خاصًا لمنسوبي الحزب الحاكم.
انشقاقات عديدة ضربت الإسلاميين في السودان
تاريخيًا.. من المعلوم أن جماعة الإخوان المسلمين في السودان تقزمت إلى أحزاب وجماعات عدة منذ تأسيسها على يد طلاب جامعة الخرطوم في فترة ما قبل استقلال السودان (1/1/1956)، لعل أبرز تلك الانشقاقات ما حدث عام 1969 عند انتخاب حسن الترابي رئيسًا للجماعة فقد خرج منها كل من محمد صالح عمر ومحمد الشيخ سبال وجعفر شيخ إدريس، وهم الذين كانوا نواةً لجماعة الإخوان المسلمين التي لا تزال موجودة بالاسم ذاته بعد أن انضم إليهم صادق عبد الله عبد الماجد والحبر نور الدائم عام 1979، وبالمناسبة هذه هي المجموعة السودانية التي يعترف بها رسميًا الإخوان المسلمون خارج السودان.
توالت الانشقاقات التي ضربت إسلاميي السودان، ومن أهمها خروج مجموعة حسن عبد الله الترابي عرّاب ومفكر “ثورة الإنقاذ الوطني” التي تولى بموجبها عمر البشير حُكم السودان منذ 30 من يونيو/حزيران 1989، إذ انشق الترابي ومعه مجموعة مقدرة من الإسلاميين وكونوا حزب المؤتمر الشعبي 1999 فيما يُعرف بعملية (المفاصلة) التي قسّمت إخوان الأمس إلى مؤتمر وطني حاكم وآخر شعبي معارِض.
تصريحات مفاجئة أدلى بها الرئيس عمر البشير لصحيفة الاتحاد الإماراتية بتاريخ 24 من فبراير/شباط 2015، اعتبر فيها “أن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان يهدد استقرار الدول العربية
تخفيف الشعارات المعادية لأمريكا بعد اتفاقية السلام
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل خرجت ثُلّة أخرى يقودها الطيب مصطفى “خال الرئيس البشير” عقب توقيع الحكومة اتفاقية السلام مع المتمردين الجنوبيين (2005)، إذ رأت تلك المجموعة التي كوّنت “منبر السلام العادل أن الحكومة قدمت تنازلات غير مستحقة للمتمردين، اللافت أن النظام الحاكم آنذاك استثنى مواطني الجنوب من تطبيق الشريعة الإسلامية، وخفف حينها من حدة الخطاب الإعلامي المعادي للولايات المتحدة على شاكلة “أمريكا روسيا قد دنا عذابها”، و”لن نذل ولن نهان ولن نطيع الأميركان”، إلا أن الشعارات الإسلامية البراقة كانت لا تزال حاضرة، وكانت علاقات الخرطوم مزدهرة مع إيران وحركة حماس وحزب الله وغيرهم.
بداية إبعاد الإسلاميين بنائب البشير علي عثمان طه
زلزال آخر أصاب حكومة البشير عند خروج نائب الرئيس السابق علي عثمان محمد طه، ومساعده نافع علي نافع حيث إن الأول قاد عملية السلام مع الحركة الشعبية المعارِضة والثاني الرجل القوي الذي يدير الحزب وملفات التنظيم السرية والأمنية، فسّرت الحكومة، استقالة الرجلين (2013) بأنها تأتي في إطار التجديد وضخ دماء جديدة، الأمر الذي لم يقنع كثيرين في ظل استمرار البشير رئيسًا للبلاد منذ ما يزيد على ربع قرن! إذ اعتبر هؤلاء أن هناك حملة ممنهجة لاستهداف وإبعاد عناصر الإسلاميين وانفراد العسكريين بتولي مقاليد الحكم.
تصريحات صادمة للبشير عن الإخوان
عزز ذلك الشعور تصريحات مفاجئة أدلى بها الرئيس عمر البشير لصحيفة الاتحاد الإماراتية بتاريخ 24 من فبراير/شباط 2015، اعتبر فيها “أن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان يهدد استقرار الدول العربية، وأكد البشير “رفض بلاده للطابع الدولي للإخوان، مشيرًا إلى حق الدول في اتخاذ ما تراه مناسبًا لخدمة أمنها واستقرارها بعد تنامي تأثير التنظيم الدولي للإخوان وتدخله في شؤون دول عربية،” بحسب ما نقلت الصحيفة. تصريحات البشير تلك، خلّفت امتعاضًا شديدًا لدى إخوان السودان وعدد من المفكرين مثل أستاذ العلوم السياسية عبد الوهاب الأفندي الذي اعتبرها حفلة من الإذلال والتذلل المخجل للرئيس، والمهين للسودان كوطن“، ورأى الأفندي أن البشير تهافت على إرضاء مضيّفيه غير المتحمسين بتملق لا يليق.
مخاوف المؤتمر الشعبي عبّر عنها بوضوح خليفة الترابي علي الحاج محمد، حيث تساءل عما أسماه الثمن الذي ينبغي على حكومة السودان دفعه مقابل انتزاع قرار برفعٍ نهائي للعقوبات الاقتصادية
توالت الأحداث بعدها وشارك السودان في عمليات عاصفة الحزم التي أطلقها التحالف العربي بقيادة السعودية، وهو ما أدى إلى تحسن العلاقات مع المملكة والإمارات، بعد توتر طويل عندما كانت حكومة البشير منخرطة في المحور الإيراني الذي يدعمه الإسلاميون، لكن حزب المؤتمر الوطني “الحاكم” بارك مشاركة السودان في الحرب وكذلك دعمه بحذر المؤتمر الشعبي الذي يشارك في السلطة حاليًا لكنه يتخوف من تبعات التقارب مع الولايات المتحدة.
ثمن رفع العقوبات الأمريكية!
مخاوف المؤتمر الشعبي عبّر عنها بوضوح خليفة الترابي علي الحاج محمد، حيث تساءل عما أسماه الثمن الذي ينبغي على حكومة السودان دفعه مقابل انتزاع قرار برفعٍ نهائي للعقوبات الاقتصادية، وهي المخاوف التي طرحها أيضًا غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح المنشقة عن حزب المؤتمر الوطني، والذي اعتبر القرار الأمريكي بمثابة تصفية للمشروع الإسلامي السوداني.
توجُس الإسلاميين يبدو في محله بالنظر إلى المعطيات التي سردناها أعلاه، خصوصًا أن السودان لا يزال ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب والتي تم إدراجه بها في أغسطس/آب 1993 كما لم يشمل قرار رفع العقوبات، قائمة الأشخاص المتورطين في النزاع في دارفور، والتي صدرت في 2006 بموجب الأمر التنفيذي 13400.
ولعل الجملة الغامضة التي صرّح بها القائم بالأعمال الأمريكي بالسودان ستيفن كوتسيس عندما قال: “حكومة السودان تعرف بالضبط المطلوب منها لإزالة اسمها من تلك قائمة الدول الرائع للإرهاب”، تُلمِّح إلى ضرورة إبعاد ما تبقى من الإسلاميين عن السلطة بعد أن تغيّر خطاب النظام المناهض لأمريكا والشعارات الجامحة التي كان يرددها منسوبوه والتي فُسِّرت على أنها شعارات إرهابية معادية، وربما تشمل الشروط كذلك، تخفيف أو قطع السودان علاقاته مع بعض الجماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي.
هل هناك ضغوط وراء إلغاء المؤتمر العام؟
إذا عدنا إلى خبر إلغاء مؤتمر الحركة الإسلامية الذي كان يعد تظاهرة سياسية عالمية ضخمة تجمع الإخوان المسلمين من كل مكان، فقد شهد آخر مؤتمر عام عُقد في 2012 مشاركة واسعة لقادة الحركة الإسلامية في تونس ومصر واليمن وليبيا، وفيه التقى قيادات الإسلاميين السودانيين ممن تبقى منهم على قيد الحياة بالأجيال الجديدة من الشباب، واستعادوا ذكرياتهم ثم انتخبوا الأمين العام الجديد الزبير أحمد الحسن. لذلك نعتقد أن قرار إلغاءه لم يكن ليتم بسهولة لولا وجود ضغوط قوية ترجح كفة ما ذكرناه عن إبعاد الإسلاميين، صحيح أن الحركة لم يبق لها تأثير حقيقي إلا أن انعقاد المؤتمر كان يشكل فعالية رمزية للإسلاميين ومنصة عالمية تجمعهم برصفائهم ليُنظّروا في القضايا العالمية، فضلًا عن طرح رؤيتهم لشؤون الدولة ويرفعوا توصياتهم حتى ولو لم تجد آذانًا صاغية.
كيف ستكون ردود فعل الكوادر الإسلامية؟
أخيرًا نتساءل: هل سيتم إبعاد كوادر الحركة الإسلامية المتغلغلين داخل مفاصل حكومة السودان في شتى القطاعات والأجهزة الحساسة مثل المناصب الدستورية والمخابرات، والخدمة المدنية وغيرها من أجل صدور قرار آخر يرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب؟ وهل ستقبل تلك الكوادر والقيادات بسهولة؟ خصوصًا أنها كانت تُلمّع وتُزين للرأي العام وللعقل الجمعي السوداني، الشعارات والأيدلوجيا المعادية لأمريكا بدعوى الاستقلالية ونصرة المستضعفين، وفي الوقت نفسه كان الحزب الحاكم يعتمد على الكوادر المذكورة في إدارة أجهزة الدولة وحماية مصالحه من أجل البقاء في السلطة.