“عندما أموت، يا آنا، ادفنيني هنا أو أينما تشائين، ولكن تذكري جيدًا، لا تدفنيني في مقبرة “فولكوفويه” ضمن مدافن الأدباء، لا أريد الرقود بين أعدائي، يكفيني أنني عانيت منهم الأمرين في حياتي”، وصية دوستويفسكي لزوجته آنا غريغوريفنا.
لعل العام الأخير من حياة الكاتب الروسي فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي (اللفظ الروسي: داستايفسكي)، كان العام الأهم في حياة الكاتب، ولحظة مفصلية في مصير روسيا القيصرية ككل، ويستعرض هذا المقال أحد أهم الكتب التي تناولت أسرار ذلك العام المثير، وقد اختار الكاتب الروسي إيغور فولغين أن يطلق على أحداث هذا العام “التأرجح على الهاوية”، ليسرد بأسلوب استقصائي شيق أحداث الجزء الثاني من رواية الإخوة كارامازوف (التي مات الكاتب دون أن يكمل روايتها)، وعلاقته الملتبسة بالسلطة والثورة، والرابط بين أسباب وفاته الغامضة وخطة اغتيال القيصر، والمعركة التي دارت حول قبر دوستويفسكي بين الدولة والثوار.
ما قرأناه كان المقدمة فقط ولم تكن الرواية!
لعل المعلومة الصادمة التي يعلمها جزء غير كبير من قراء دوستويفسكي، أن كل ما قرأوه من رواية الإخوة كارامازوف، والتي تجاوز تعداد صفحاتها الألف وخمسمئة صفحة (حسب الترجمة العربية للدكتور سامي الدروبي)، لم يكن غير مقدمة تعريفية للحياة السابقة لبطل الرواية “اليوشا كارامازوف”، وما دار من أحداث في صدر شبابه (أي قبل 13 عامًا)، كما أخبر دوستويفسكي بنفسه في التصدير الذي كتبه للرواية.
وأراد دوستويفسكي أن يكون لهذه الرواية جزء ثانٍ أسوة بباقي رواياته الخالدة (الأبله، الجريمة والعقاب، الشياطين وغيرها من الثنائيات التي كتبها)، ولكن جاءت وفاته في الـ9 من فبراير لعام 1881، ليتوقف هذا المشروع الكبير، والذي كان من المفترض أن تدور أحداثه في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، أي بعد 13 عامًا من مقتل الأب “فيودور كارامازوف”، وفي أثناء حكم القيصر الروسي ألكسندر الثاني، والذي تعرض قبل كتابة دوستويفسكي لرواية الأخوة كارامازوف لعدة محاولات اغتيال فاشلة، كان بطل إحداها طالبًا يدعى ديمتري كاراكازوف، ولعل القارئ هنا سينبهر من التشابه اللفظي بين كنيته وكنية بطل دوستويفسكي الأثير إليوشا كارامازوف.
لقد شهد العام الأخير من حياة دوستويفسكي موجة جبارة من الإرهاب المتبادل بين الحكومة القيصرية ومنظمة إرادة الشعب
ويورد إيغور فولغين هنا عددًا من المقالات التي نشرتها الصحف الروسية، وبعض ما سجلته أقلام زملاء دوستويفسكي في دفاتر يومياتهم، من أمثال “سوفريين” و”شتاكنشنايدر” و”ميكوليتش” (والتي كانت شبيهة بمنصات التواصل الاجتماعي في القرن التاسع عشر، حيث يسجل فيها الروس والأروبيون ما دار من أحداثٍ في يومهم)، والتي كتبت قبل وفاة فيودور دوستويفسكي. ولا يستبعد إيغور فولغين في كتابه أن تكون هذه التسريبات قد تمت بموافقة دوستويفسكي نفسه ليمهد لجمهوره هذا التحول الدراماتيكي الذي سيحصل في حياة الأخ الأصغر من الإخوة كارامازوف (إليوشا)، والذي كان يكافح في سبيل الانسجام العالمي في الجزء الأول، كيف أنه هو نفسه سيكون قاتل قيصر روسيا ألكسندر الثاني (الذي أصدر العفو عن دوستويفسكي بعد تورطه في جريمة سياسية قبل أن يُعدم بلحظات، وقام بإصلاحات كثيرة من بينها ما عرف عند الروس بتخليص الفلاحين من عبودية الأرض). ويورد الكاتب عددًا من الإشارات التي حملها القسم الأول من الأخوة كارامازوف في حواره مع الأب زوسيما الذي سجد للأخ الأكبر ميتيا في بداية الرواية، لأنه رأى العذابات التي تنتظره، قال لإليوشا في أحد نقاشاته الكثيرة معه: “إليك رأيي فيك، سوف تترك الدير، وسوف تعيش في العالم كراهب”.
وربما كان سيعدم بعد فشل محاولة اغتياله للقيصر، ويحمل بنفسه عبء التجربة التاريخية، ويكون اشتراكيًا روسيًا إنجيليًا كما كان يحب دوستويفسكي، وهذا ما دفع الجميع للقول إن هذا الجزء من الرواية سيكون أمتع من الأول، وكتبت جرائد بطرسبورغ حينها، أنه مع مرور الوقت، سيصبح إليوشا كارامازوف معلمًا ريفيًا، ثم يصير به الأمر تحت عمليات نفسية خاصة تمور في سريرته إلى الاقتراب حتى من فكرة اغتيال القيصر.
ماذا عن علاقة دوستويفسكي الوطيدة بالقصر والثورة؟
لقد شهد العام الأخير من حياة دوستويفسكي موجة جبارة من الإرهاب المتبادل بين الحكومة القيصرية ومنظمة إرادة الشعب (إحدى أكبر الحركات الثورية العنيفة في التاريخ الروسي)، كان مستقبل البلد حينها يبدو ضبابيًا وغامضًا ومفتوحًا على جميع الأصعدة، وقد كان دوستويفسكي كما هو معروف، خصمًا لكل أشكال العنف الثوري (لأسباب نفسية ودينية)، ولكنه أيضًا كان وفيًا للمبادئ التي ينادي بها الثوار رغم اختلافه مع وسائلهم. ويسوق كتاب “التأرجح على حافة الهاوية” العديد من الدلائل على العلاقة بين فيودور دوستويفسكي بأعلى هرمات السلطة والثورة، وهو ما أدى ربما بعدها لموته في نفس السنة بنزيف حاد.
كانت منظمة إرادة الشعب خصم الحكومة القيصرية العتيد، وهي إحدى أقوى الحركات الثورية السرية في التاريخ الروسي
ولعل الخطاب الشهير الذي ألقاه دوستويفسكي في الـ8 من حزيران لعام 1880، فيما عرف حينها بأعياد “بوشكين” (شاعر روسيا الأبرز ألكسندر بوشكين)، الذي خاطب فيه الجمهور الروسي المثقف، كان واحدًا من أشهر الخطابات التي ألقيت في التاريخ الروسي لغويًا وعاطفيًا، مما أدى لرصد الجرائد لحصول عدة إغماءات وصرخات في القاعة (وقد دام خطابه هذا زهاء الخمسة وأربعين دقيقة)، حين تقدم دوستويفسكي بخطواته الخجلة الخرقاء إلى المسرح بجبينه الذي حرثته التجاعيد، وفتح الدفتر وطفق يقرأ بصوته الضعيف المنهوك، كما وصفته الجرائد الروسية، وقد حمل هذا الخطاب رسائل ومبادرة للتصالح المجتمعي بين أفراد المجتمع الروسي.
صداقة ولي العهد وزوجته
تكمن أهمية هذا الكتاب، أنه يكشف النقاب عن العلاقة الوطيدة التي جمعت دوستويفسكي وولي العهد الروسي قسطنطين قسطنطينوفيتش (والذي سيغدوا قيصر روسيا المقبل)، وزوجته الدنماركية ماريا فيودوروفنا، التي ستشهد فيما بعد إعدام أبنائها وأحفادها بالرصاص على يد الثوار البلاشفة. ويشير الكتاب أيضًا إلى مؤلف آخر للكاتب السوفيتي المختص بأدب دوستويفكسي غروسمان ل.ب، والذي تناول عام 1934 علاقة دوستويفسكي بالأوساط الحكومية، وصور بطاقات الدعوة لحفلات العشاء التي كان يقيمها ولي العهد على شرف دوستويفسكي، مما جعل هذا الأمر يبدو حينها فضيحة كبرى لمؤلف رواية (مذكرات من البيت الميت)، التي تعد شاهدًا على التعذيب والقمع الذي عانى منه الكاتب في روسيا القيصرية.
وكما هو معروف في عالم السياسة، أن الطريق إلى القمة يمر عبر النساء، وهو ما دفع البعض للقول: “القيصرية الروسية في جيلها الثالث، والتي حكمت على دوستويفسكي بالإعدام والأشغال الشاقة، لم تكتف بأن رفعت عنه بعد ذلك كل الشكوك في نمط فكره المعارض، بل أخذت ترفعه إلى مقام المعبر عن نواياها وآرائها الأساسية، سعيًا منها أن تصون لقضيتها السياسية حليفًا كبيرًا ومؤثرًا، من أشهر كتاب الرعيل الأقدم من الروائيين الروس”.
الشقة رقم 11
كانت منظمة إرادة الشعب خصم الحكومة القيصرية العتيد، وهي إحدى أقوى الحركات الثورية السرية في التاريخ الروسي كما أسلفنا، وكانت هذه المنظمة مكونة فقط من 500 عنصر، منتشرة في جميع الأراضي الروسية. واستهدفت بعمليات اغتيالها وزراءً وقضاةً وصولًا لاغتيال القيصر الروسي نفسه، وكان لها قيادة عليا تعرف باللجنة التنفيذية، تضم 11 عضوًا مطلوبين كلهم للإعدام، وكان من بينهم “ألكسندر بارانيكوف” الذي ينحدر من أسرة نبيلة متوسطة الحال على المستوى المادي، وقد تخرج من الثانوية العسكرية وتنقل بين العديد من التنظيمات السرية، وحارب إلى جانب الفصائل الروسية الصغيرة ضد الأتراك، لاكتساب مهارات عسكرية تساعده في كفاحه ضد قياصرة روسيا.
الحكومة القيصرية أرادت أن تدفن دوستويفسكي كفرد من أنصارها تحسبًا للصراع الفكري المقبل بينها وبين الثوار، ولتكن لها الشرعية في حيازة تراثه الأدبي، لترسخ به أسطورتها الرسمية
المطاردات الكثيرة قادت هذا الشاب الثوري ذو الـ23 عامًا (قليل الكلام وصاحب القوة البدنية الكبيرة والوجه الجميل والشعر الأسود كجناح الغراب)، إلى أن يسكن في الشقة المقابلة لشقة فيودور دوستويفسكي في زقاق “كوزينتشي”، وكان دوستويفسكي يقطن الشقة رقم 10 بينما كان يسكن جاره بارانيكوف في الشقة المقابلة له (رقم 11).
كان بارانيكوف منهمكًا في هذه الأثناء بإعداد خطة اغتيال القيصر، وهذا الفصل أحد أهم فصول الكتاب التي كتبت بأسلوب تحقيقي موثق، للبحث عن علاقة مفترضة جمعت دوستويفسكي مع جاره المطلوب، وكيف كان ذلك سببًا لوفاته.
أسباب موت فويدور دوستويفسكي الغامضة
حسب سجلات الشرطة القيصرية التي اعتمد عليها الكاتب فولغين في كتابه “التأرجح على حافة الهاوية”، فقد تمكنت الشرطة من رصد عدد من الشقق التي يختبئ فيها أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة إرادة الشعب، فبدأت في ليلة الـ26 من كانون الثاني مداهمة تلك الشقق، والتي كان من بينها شقة جار دوستويفسكي الذي لم تجده الشرطة، وفي تلك الأثناء يصاب دوستويفسكي بنزيف حاد وغامضٍ يؤدي لوفاته بعد يومين.
وقد قدمت زوجة دوستويفسكي آنا غريغوريفنا سببًا غير مقنعٍ لذلك النزيف حسب تصورات الكاتب، والذي عضدها بمحاضر الشرطة وشهادة الأطباء، فرواية زوجة دوستويفسكي تقول إن زوجها تعرض لانفجار شريانٍ رئوي، بسبب تحريكه منضدةً ثقيلةً ليأخذ قلمه الذي سقط، لكن الكاتب يقدم أدلة أن دوستويفسكي نقل تلك الليلة عددًا من المعدات والأشياء الممنوعة من شقة جاره الثوري، وأخفاها بعد مداهمة الشرطة الأولى لشقته، وهذا المجهود الذي بذله الرجل الستيني المصاب بالصرع، هو ما أفضى لوفاته، وبعد القبض على جاره الثوري في شقة أخرى من الشقق المراقبة، لم يأتِ على ذكر دوستويفسكي لمرة واحدة في التحقيقات أو في الرسائل التي كتبها، وكان يجهد نفسه لإخفاء أي علاقة له بالكاتب.
الصراع على القبر
توفي دوستويفسكي ليستمر الصراع بشأن قبره وعلى قبره بين الحكومة والثوار، ويرى إيغور فولغين في ختام كتابه، أن الحكومة القيصرية أرادت أن تدفن دوستويفسكي كفرد من أنصارها تحسبًا للصراع الفكري المقبل بينها وبين الثوار، ولتكن لها الشرعية في حيازة تراثه الأدبي، لترسخ به أسطورتها الرسمية.
لكنه أيضًا يرصد مشاركة جل الحركات الثورية والطلابية في مراسم جنازة دوستويفسكي، كأنها بذلك لم ترد أن يُسرق كاتب الفقراء والمذلين المهانين من السلطة في حياته ومماته، ولكن بعدها بشهر واحد، سيسقط القيصر الروسي قتيلًا على يد منظمة إرادة الشعب الروسية، في لحظة كانت تتوفر لدى الحكومة كل الاحتياطات المادية من جيش وشرطة وجهاز دولة، وكان يبدو أيضًا في تلك اللحظة، أن “إرادة الشعب” قد استنفدت جل مواردها بعد اعتقال أغلب قادتها، وبعد أن أُثخنت بالجراح، وها هي تنجح فيما فشل فيه اليوشا كارامازوف، وتقتل القيصر.