على طريقة المهرجان المصري الشهير، “يا خلق لو هتناموا لا ثواني متناموش”، كانت بداية المعرفة بالليلة الدامية في الصحراء الغربية، فبينما كانت الشمس تغيب عن سماء مصر، بدأت الأخبار تتوالى عن مقتل أفراد من الشرطة المصرية في اشتباكات مع مسلحين بمنطقة الكيلو 135 بالواحات البحرية، في البداية أعلن مقتل 14 وإصابة 8، لتغلق قوات الأمن حدود محافظة الجيزة مع الفيوم لمحاصر المسلحين، ثم بدأت الأرقام تتصاعد حتى وصلنا إلى ما يزيد على 50 قتيلاً للشرطة حسب مصادر مصرية وغير مصرية متعددة.
كالعادة، ظل الصمت يطبق على الإعلام الرسمي والمقرب من النظام، باستثناء بعض المواقع التي حاولت تقصي المعلومة بعيدًا عن البيان الرسمي الوحيد الذي أصدرته وزارة الداخلية حتى الساعة الـ12 ظهر اليوم التالي، بينما تكثر الأحاديث في الأوساط الصحفية المصرية، عن روايات مختلفة لكن كلها تصب في أن كمينًا نُصب للقوة الأمنية التي كانت متوجهة للإجهاز على إحدى البؤر الإرهابية في الواحات.
وفي ظل استمرار الصمت الرسمي وأدواته المقربة، فإن بعض المصادر المستقلة بدأت في تداول أرقام وصور وأسماء ضحايا الكمين الذي أودى بحياة هذا العدد المهول من الضباط والعساكر المحسوبين على مجموعات النخب الخاصة داخل الجهاز الشرطي، لتتطور الأحداث سريعًا منتصف اليوم التالي، وتعلن مصادر لقناة الجزيرة أن مسلحي الواحات يحتجزون رهائن من القوة الأمنية بينهم ضباط.
تفتح هذه العملية، بابًا من التساؤولات التي ينبغي طرحها منذ الـ24 من يوليو عام 2013، ففي هذا التاريخ وقف الجنرال عبد الفتاح السيسي طالبًا تفويضًا من الشعب المصري، للقضاء على العنف والإرهاب “المحتمل”، وما تمر الأيام إلا ويصبح هذا الإرهاب واقعًا حقيقيًا تعيسًا تعيشه البلاد ولا يتوقف، بل يتطور ويصل إلى القاهرة والدلتا.
في معرض ذكرنا للسلاح القادم من ليبيا، تقفز الأفكار عن السلاح القادم من السودان أيضًا، فكيف يجري هذا؟ كيف يقطع هذا السلاح الخريطة المصرية بعرضها، دون أن يعترضه أحد؟
إن السؤال الأبرز الذي ما زال يطاردني هو: كيف أن دولة بحجم مصر، وجيش بحجم تجهيزات الجيش المصري بأذرعه الاستخباراتية والأمنية ودولة لا تعرف إلا الحديد والنار، لم تستطع القضاء على العنف في سيناء على مدار 4 سنوات مدعومة بالطيران الصهيوني والأمريكي وبمعلوماتهم؟ كيف يمكن لدولة تمتلك هذا القدر من القوة لا تستطيع القضاء على مجموعة من المسلحين؟ ألم يتم رصد معسكر تدريبي لهؤلاء، تحركات غير معتادة، سيارات الدفع الرباعي التي يتجول بها المسلحون في كل سيناء؟ الأسلحة! ماذا عن الأسلحة؟ وكيف تدخل؟ وكيف يُدرب عليها مستخدموها؟ وكيف يتم تخزينها وبينها سلاحٌ ثقيل؟ ولهذه الأسحلة قصص أخرى.
لا تتجاوز أحاديث تهريب السلاح من قطاع غزة إلى سيناء، كونها رواية إعلام الدولة التي لا تستند لأي واقع، فسيناء تعدّ معبرًا لوصول السلاح إلى قطاع غزة وليس العكس، فكيف وصل هذا الكم من السلاح إلى سيناء، وكيف خزنه التنظيم؟
ففي سبتمبر عام 2015، أصدر التنظيم مقطعًا دعائيًا حمل عنوان، حصاد الأجناد، ظهر فيه للمرة الأولى حجم تطور الآلية العسكرية في يد مسلحي التنظيم، حيث شمل المقطع لقطات لاستخدام صواريخ الكورنيت والتاو الموجه لاستهداف فرقاطة بحرية في البحر قرب رفح، وكذلك استخدامه لاستهداف دبابات وآليات عسكرية، دون أن تسأل الدولة نفسها، كيف وصلت هذه الأسلحة الثقيلة إلى أيدي المسلحين، ليظهر بعد أعوام تحقيق “رحلة الكورنيت” الذي رسم خط سير هذا السلاح من ليبيا حتى سيناء، فكيف حدث هذا؟
وفي معرض ذكرنا للسلاح القادم من ليبيا، تقفز الأفكار عن السلاح القادم من السودان أيضًا، فكيف يجري هذا؟ كيف يقطع هذا السلاح الخريطة المصرية بعرضها، دون أن يعترضه أحد؟ أجد نفسي عاجزًا أيضًا، عن تفسير كيف ينقل التنظيم مواده المتفجرة إلى قلب القاهرة والإسكندرية، دون أي اعتراض لقوة أمنية أو حتى حاجز مروري بعد منتصف الليل؟
جميعكم تتذكرون قضية عرب شركس، القضية التي أعدم على إثرها 6 شباب اتهمتهم السلطات بالانتماء إلى تنظيم بيت المقدس، أصل القضية يعود إلى هجوم قوات الأمن على مصنع للأخشاب في قرية عرب شركس التابعة لمحافظة القليوبية، كان يستخدمه منتمون لتنظيم أنصار بيت المقدس لتصنيع المتفجرات، حيث عثر فيه على كميات هائلة من مواد التفجير الخام، ولم يطرح أحد السؤال عن كيف وصل هذا الكم إلى قلب الدلتا والقاهرة الكبرى؟
نعود لمايو عام 2015، حين أصدر تنظيم ولاية سيناء، إصداره الثاني بعد بيعته لداعش، الذي حمل عنوان “صولة الأنصار 2″، وفي الإصدار ظهر قناصة ينتمون للتنظيم، ينفذون عمليات قنص تدل على قدرة عالية، وبمعدات بدا أنها ذات تقنيةٍ عالية، رُجح حينها، أنهم من قاموا بمساندة مقاتلي التنظيم في عملية كمين العبيدات في أبريل من نفس العام، في الإصدار أيضًا، تعمد مخرج الإصدار تصوير العملية منذ بداية التجهيز لها فجرًا والتحرك للكمين والإجهاز عليه حتى الساعات الأولى من صباح اليوم مستخدمين سيارات الدفع الرباعي.
الحالة المصرية شهدت منذ إعلان الحرب على الإرهاب “المحتمل” تطورًا للإرهاب نفسه لا للحرب عليه
وفي نفس الإصدار، ظهر مسلحو التنظيم، وهم يستولون على مدرعتين أيضًا، بينما في يناير عام 2016 تناقلت حسابات تابعة لمؤيدي ولاية سيناء، أخبار عن استيلاء التنظيم على مدرعة تابعة للشرطة المصرية من كمين العتلاوي بعد الهجوم عليه، وهو الحادث الذي أودى بحياة 5 شرطيين وإصابة 10، وفي أغسطس من ذات العام، نشر التنظيم إصدار “لهيب الصحراء” والذي شمل مشهدًا يظهر فيه مقاتلو التنظيم وهم يقودون دابابة بعد الاستيلاء عليها إلى مكان غير معلوم، وعدم إعطابها، لتنضم هذه الدبابة إلى المدرعات السابق ذكرها، أين تذهب هذه الآليات؟
الأسبوع الماضي، احتل المسلحون وسط مدينة العريش، ففي ساعات الصباح الأولى، بدأت عملية متعددة الأهداف للتنظيم في وسط المدينة، حيث بدأت العاصفة بإطلاق النار أمام كنيسة مار جرجس في شارع 23 يوليو ثم بدأت اشتباكات متزامنة عند أكمنة في نفس المنطقة وهي كمين الكنيسة وكمين مجلس المدينة بوسط البلد وكمين شارع الصاغة (أحد أكبر الشوارع في وسط العريش)، ليصل المسلحون إلى فرع البنك الأهلي ويجري الاستيلاء على 17 مليون جنيه مصري، كانت داخل الفرع، وهو الفرع الذي نقل أصلًا من مدينة رفح ليكون أكثر أمانًا واستغرق وجود المسلحين فيه 20 دقيقة تقريبًا ليخرجوا بغنيمتهم، ثم ماذا؟ لا شيء، أين ذهبت سيارات الدفع الرباعي؟ كيف عاد المسلحون لمواقعهم سالمين غانمين؟ لا أحد يجيب، ويحدث ذلك في مدينة العريش التي من المفترض أنها المدينة الأكثر أمانًا بين مدن شمال سيناء وعاصمة المحافظة.
والحقيقة، أن الحالة المصرية شهدت منذ إعلان الحرب على الإرهاب “المحتمل” تطورًا للإرهاب نفسه لا للحرب عليه، حيث بدأ يتخذ أشكالًا وتكتيكات مختلفة لكن لم تتطور آليات مواجهته أو حتى على الأقل التعامل معه بشكل عقلاني مدروس، فوصول الأحزمة الناسفة إلى قلب مدينة القاهرة وتفجير الكنيسة البطرسية في حي العباسية، مطلع العام الحاليّ، لا يدل إلا على استمرار الفشل وراء الفشل في مواجهة هذا الإرهاب، بينما لا تعطي الدولة إجابات منطقية لمعنى هذه المواجهة، التي ما زال يشارك فيها، مجندون قليلو الكفاءة قدَرهم التعيس هو الذي قادهم إلى الخدمة في هذه البؤر المشتعلة.
فالحادثة الأخيرة خير دليل على أن قدرة أكفأ الضباط في وحدات مكافحة الإرهاب، لا ترقى للاشتباك مع عدد من المسلحين يختبئون في الصحاري، فما بالك بمجند إجباري، أدرك فقط قبل أيام، كيف يستخدم السلاح الخفيف الذي بحوزته؟!