في زمن الصحوة العربية أصبحت القراءات لنيتشيه وعبدالله القصيمي غير مجدية ، لا على مستوى الفكر، وأعني بذلك العمليات الفكرية كالتحليل والنقد وما يتعلق بذلك ، ولا على مستوى المعرفة، وأعني المادة العلمية والثقافية عموماً.!
إنني أقرأُ الترويج لكتاباتهما الذي أراه شاع مؤخراً قراءةً سياسية أكثر منها فكرية، بهدف تشثيت المجتمع وبعثرتهِ وضرب وحدتهِ الفكرية القائمة على المرجعية الإسلامية، إذ كتاباتهما إلحادية بالدرجة الأولى، واللغة لغة تهجميّة مستفزه وصارخة، حتى إني لأشعر أنهما يمارسُان -عن طريقة الكتابة- تفريغاً نفسياً متوتّراً، وبعض الباحثين- مثلاً- يفسر انقلابات نيتشه تفسيراً نفسياً، أي العقد والتوّترات النفسية عبّرت عن نفسها بالشطط الفكري، وليس العكس، إذ قد يحملُ الإنسان أفكاراً مناقضة لمحيطه الاجتماعي، لكنه –إن كان سوياً- سيعبّرُ عنها تعبيراً هادئاً، وإلا فهو يتشهي أن يصارح مجتمعه لا بالأفكار الإصلاحية بل بالشتائم والإهانات الفجّة، وهذا أبعد ما يكونُ عن الإصلاح الذي يتقصده كلُ مفكرٍ يعرفُ للفكر حرمتَه ورسالتَه.
كما أنه من غير المعهود أن يتحول الإنسان من النقيض إلى النقيض في وقتٍ وجيز جداً، أقصر من عمر اختمار أي فكرة تتعلق بالوجود والإنسان والحياة، فيما يشبه الانفجار المفاجئ، فالأفكار الرزينة والعميقة والمثرية تبتُ في ثرى الوعي على مَهْل، ويتأملها الإنسان الناضج برويّة، فعامل الزمن مهم هنا، وله دلالته المتجاوزة لفكرة الوقت المحض. أليس مثيراً للاستغراب أن ترى إنساناً اليوم خطيباً يجهشُ بالبكاء على المنبر، وبعد أقل من شهر تراه يمزّق المصحف في على جسد راقصة في ملهى ليلي يعالنُ بشتم كل مقدس..
هذا لا يعقل، ولا يمكن أن يفسّر فكرياً إطلاقاً، ولا أدري لماذا يتمُّ التركيز على نيتشه والقصيمي والإغراء بكتاباتهما رغمَ وجود ملاحدة آخرين أكثر التصاقاً بالمعرفة وتوغلاً في العلم، لا شكَ أن ثمّةَ ما يدعو للريبة، ،وأن الأمر أبعد ما يكونُ عن الترغيب البريء في الاطلاع الحر، خصوصاً بين الشباب العربي عموماً الذين لم يمتلكوا بعد متانةً فكرية تؤهلهم للنقد، وتحميهم في الانبهار بالمقروء حد فقدان القدرة النقدية الحصيفة، فالنصُّ محمومٌ بلغة بكائية تصيبُ القارئ غير المتمرس بالانصهار، وهو ما يعني ضعفَ القدرة على الفصل بين الصحيح والخطأ، وبين الادعاء ونوعية الحجج والدلائل المدعاة أو المفترضة، وكذلك الارتباطات المنطقية بين الأفكار..إلخ
لقد تجاوز الفكر المرحلةَ الإلحادية الجحودة، وانتهت -إلى غير رجعة- فكرة القطيعة مع الماضي، فالماضي هو العمق الحضاري الذي يشكلُ أساس الانطلاق والبناء، والمكتبة العربية اليوم ثرية بالأفكار والأطروحات التي تملئُ العقل والوجدان، وثبت أن الإسلام ليس عائقاً أمام أي تطور حقيقي، وبات الإيمان بمركزية الحضارة الغربية ومعياريتها فكرةً رجعية متخلفة، وتخطها العربُ منذ عقودٍ، سوى بضعة مرتزقة غشّاشين أو قراء (درجة عاشرة) غير متابعين لخط تطور الفكر العربي والإسلامي، فلقد قرأت ما كتبه مثلاً د/فهمي جدعان في أطروحته الرصينة والعميقة والتي طبعها بعنوان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، كتاب (خرافة التقدم) للاقتصادي العربي الشهير الدكتور/ جلال أمين، و أطروحات الجابري، كما إطلعتُ على الكتاب المهم لكبير الفلاسفة العرب، أعني الدكتور/ زكي نجيب محمود، وعنوانه (تجديد الفكر العربي) وَ (حصاد السنين) وَ مراجعته في (قصة عقل)، و كتابات شيخ الفلاسفة العرب الدكتور/ عبدالرحمن بدوي المتأخرة، كدفاعه عن الرسول والإسلام، وهما آخر كتابان له، وكان قد تأسّفَ على أنه لم يخدم الإسلام مبكراً ، والمفكر البليغ فكراً والعميق إصطلاحاً طه عبدالرحمن ؛ كثيرون هم الذين كتبوا بعمق وتجاوزوا اللغة القبورية الممعنة في جلد الذات الحضارية والحطِّ منها، وتلك هي السمة التي لازمت كتابات نيتشه والقصيمي بعد إلحاده، والتي لا تقدم أي شيءٍ غير اليأس، واليأس فقط، تلك الفكرة التي هي بالنهاية تهدم ولا تبني، وتنفي ولا تثبت أو تقدم بديلاً حقيقياً، والمشبّعة -وبإسرافٍ- بالمرارة في غير طائل.!
نهايةً ؛ نيتشه والقصيمي وكلّ من يردد فكرة ويأتي بنقيضها؛ لن يقدم فكرةً تنير الدرب أو تملئ َالقلب بشيءٍ عظيم، أو تفعمُ الروح بالجليل من المعاني، فهما عدميين، يريدان أن يقنعانا بأن الإنسان كائن أتت به الصدفة وسترحل به الصدفة، ولا شيءَ بعد ذلك، ثم يأخذ في النحيب الذي لا يهدأ، لتؤمنوا أن الوجود –في النهاية- لا يحملُ قيماً عظمى، أي أنه يفرّغ كيانك من كل المبادئ الثانوية فيك، والتي تجعل من حياتنا سعياً مباركاً لشيءٍ كبير وعظيم حدَ الدهشة. إن نيتشه والقصيمي وصفة لعينة لليأس والتشاؤم، ونحنُ نحتاجُ في حياتنا كلَ شيءٍ إلا اليأس والتشاؤم، نحنُ سنحتاجهما إن لم نكن في حاجةٍ إلى الحياة نفسها، وهي –لعمرُ ربك- هي العدمية بعينها.!