دخلت إيران إلى الضفة الغربية في دير الزور بنهاية عام 2017 بحجة مساندة قوات النظام السوري بقتال تنظيم “داعش”، وعند الانتهاء من القتال بدأت بالتمدد والتغلغل في مناطق شرقي سوريا عامة.
هذا التمدد لم يقتصر على الأنشطة العسكرية وتشكيل المليشيات الموالية لها، أو بناء الحسينيات والمقامات الدينية المستحدثة، إذ تعمل إيران كذلك على التغلغل ضمن النسيج المجتمعي، عن طريق استغلال الظروف الاقتصادية المتدهورة، وتقديم المساعدات الإنسانية عبر جمعيات خيرية تنشر التشيع بين الشباب، وذلك بالتعاون مع مديرية الأوقاف في دير الزور.
وفق دراسة لمركز جسور للدراسات الإستراتيجية، فإنه منذ مطلع عام 2022 بدأت إيران باتخاذ مجموعة من الأنشطة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية بالتنسيق مع النظام السوري، لا سيما أنها تتزامن مع اندلاع الصراع في أوكرانيا وتحقيق تقدُّم في المفاوضات النووية، أي منذ انشغال روسيا والولايات المتحدة عن الساحة السورية.
ترويج للتشييع في رمضان
مع اقتراب شهر رمضان بدأ المركز الثقافي الإيراني تحت إشراف المدعو الحاج رسول العمل على إقامة أنشطة دينية خاصة بالمذهب الشيعي، لاستغلال الشهر الفضيل في الترويج للتشيّع.
في يوم الإثنين الماضي الأول من رمضان، عقد مسؤولون ومعممون إيرانيون، اجتماعًا مع خطباء وأئمة المساجد بحي الفيلات في مدينة دير الزور استمر ساعتين تقريبًا، لتبليغهم آليات عملهم الجديدة وضوابط الصلاة في المساجد، في سابقة لافتة تشي بإقصاء وزارة الأوقاف في النظام السوري عن هذه المهام، وسيطرة طهران على المجال الديني العام بكل تفاصيله، وذلك بحسب ما أفاد به موقع “نورث برس” المحلي.
إضافة إلى تعليمات صلاة التراويح في رمضان، وتوحيد خطب الجمعة بناءً على خطبة تصدر عن المركز الثقافي الإيراني، تضمن الاجتماع أيضًا موضوع التشيّع والحث عليه، ودعوة الشباب إلى الانتساب للميليشيات الإيرانية في المنطقة.
هذا الاجتماع لم يكن الأول من نوعه في شهر رمضان المبارك، إذ يؤكد الباحث المختص بالشأن الإيراني في مركز الشرق للدراسات، سعد الشارع، أنه تم رصد عدة زيارات خلال الأيام الأولى لشهر رمضان المبارك، قام بها بعض المعممين وبعض الشخصيات الإيرانية التي وصلت من دمشق، وبعضها وصل في اليوم الثاني من شهر رمضان عن طريق معبر البوكمال قادمة من العراق.
ويضيف الشارع في حديثه لـ”نون بوست” أن هذه الشخصيات تزور المساجد، وعددًا من المراكز الدينية، إضافة إلى عقد لقاءات متكررة مع أئمة المساجد، وشخصيات اجتماعية، وهذا كله يأتي بحسب الشارع ضمن استغلال الحالة الدينية السائدة في شهر رمضان، للترويج للآراء والمعتقدات الشيعية.
وجبات إفطار وسلل غذائية
نشاط إيران وأذرعها للتغلغل داخل البنية الاجتماعية في مناطق شرقي سوريا، يتخذ أشكالًا وخططًا متنوعة بشكل عام وفي شهر رمضان بشكل خاص، من ذلك أن المركز الثقافي الإيراني أقام وجبة إفطار في خيمة المركز الثقافي الإيراني بحي القصور في مدينة دير الزور، بهدف كسب الحاضنة الشعبية، وذلك بحسب ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان ومواقع إخبارية محلية.
“المرصد” أضاف أن الميليشيات الإيرانية جهزت في بداية الشهر الفضيل سلال غذائية لتوزيعها على العائلات الفقيرة والعائلات التي تعيش دون معيل في مدينة دير الزور، وذلك بالتنسيق والتعاون مع محافظ المدينة في حكومة النظام، بهدف استمالة واستقطاب المدنيين لصفوف الميليشيات الإيرانية.
إيران تستغل بشكل كبير جدًا الوضع الاقتصادي الصعب، الذي تمر به عموم الجغرافيا السورية وخصوصًا هذه المنطقة، لذلك تغري منتسبيها والتجمعات السكانية بتلك المنطقة بحصص ما تسمى بالسلال الغذائية، وذلك بحسب الباحث سعد الشارع.
إلى جانب ذلك – يضيف الشارع – تغدق إيران المال على الشخصيات التي يتم تجنيدها، خاصة التي تُجند مجتمعيًا، أي الشخصيات التي تعمل مع إيران في السياق الاجتماعي والديني، في محاولة منها للتوغل في المؤسسة الدينية والاجتماعية بهذه المحافظة.
في هذا السياق، تشير الباحثة علا الرفاعي في مقال تحليلي سابق بـ”معهد واشنطن”، إلى أن الحرس الثوري الإيراني وقوات الحشد الشعبي تسللت إلى النسيج الاجتماعي للأغلبية من السكان العرب السنة في شرق سوريا، منذ استحواذها على المنطقة.
توضح الرفاعي أيضًا أن هذا المسار جاء “من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية”، ما يساعدهم على فرض علامتهم من الإسلام الشيعي الإثني عشري على الذين يعانون من ضائقة مالية من السكان المحليين.
على سبيل المثال، وبمباركة نظام الأسد تقول الرفاعي: “المركز الثقافي الإيراني في مدينة دير الزور يجبر طلاب المدارس والجامعات على المشاركة في فعالياته”.
إستراتيجية السياسة الناعمة
يرى كثير من المحللين أن إيران تقود في مناطق شرق سوريا وبالتحديد في محافظة دير الزور “سياسة ناعمة”، وهي “أشد خطرًا” من بقية الممارسات والخطوات المعلنة، حسب تعبيرهم كونها تستهدف أفراد المجتمع هناك بهدوء.
ومن الأسباب التي ساعدت إيران في جهودها الوضع الاقتصادي السيئ والبطالة المرتفعة ونقص فرص العمل في المناطق المدمرة بشكل شِبه كامل، هذه العوامل تدفع نسبة كبيرة من الشباب إلى الانضمام للميليشيات الإيرانية لكسب رواتب دائمة، تعادل في بعض الأحيان 100 دولار شهريًا.
ومن الأساليب التي استخدمتها إيران، هي الجمعيات الخيرية، ونشاطات المركز الثقافي في دير الزور الذي يديره الحاج رسول، حيث يسعى المركز إلى إقامة دورات مجانية بين الحين والآخر لجذب الفتيات والشبان للانضمام إلى صفوف الحرس الثوري الإيراني في سوريا، إضافة إلى تشجيع السكان على اعتناق التشيع مقابل مكاسب مالية وامتيازات أمنية في سوريا. وذلك بحسب موقع “نورث برس” المحلي.
وعن أسباب لجوء إيران إلى هذه السياسة الناعمة يوضح الباحث في الشأن الإيراني سعد الشارع أن إيران تخشى من التكوين الديمغرافي لسكان هذه المنطقة الممتدة من الحدود السورية العراقية عند مدينة البوكمال وصولًا إلى البادية وسط سوريا، فهي منطقة عربية سنية بالكامل.
هذا الواقع الديمغرافي – يوضح الشارع – يجعل إيران تخشى من قيام حالة انفلات مجتمعي ضد إيران وسياساتها وضد الميليشيات الإيرانية، لذلك كانت تتقدم بحذر شديد خاصة في المسار الاجتماعي والديني، كتغيير بعض أسماء المساجد مثل مسجد عمر ابن الخطاب في بلدة محكان، وبناء المراقد الدينية مثل ماء “عين علي” جنوبي مدينة الميادين، إضافة إلى التواصل مع أئمة المساجد والشخصيات الاجتماعية والعشائرية.
صعوبات في طريق إيران
على خلاف باقي الدول العربية التي تغلغلت فيها إيران، وأصبح لها أذرع إقليمية ضاربة كما في لبنان والعراق واليمن، يشكل انخفاض نسبة الشيعة في سوريا بشكل عام، ومنطقة دير الزور بشكل خاص التي تبلغ فيها نسبة السنة 99% أكبر عائق أمام نفوذ إيران وطموحاتها.
إلى جانب ذلك، يرى الباحث سعد الشارع أن ردة الفعل السلبية تجاه إيران وميليشياتها ليست حديثة فقط بعد الثورة السورية نتيجة الممارسات الوحشية التي قامت بها هذه الميليشيات، بل الأمر له موروث من قبل ذلك، أي منذ تأثر هذه المنطقة بالحرب العراقية الإيرانية، بسبب التداخل العشائري الكبير بين المناطق الشرقية من سوريا وبين العراق.
ويضيف الشارع أن مساعي إيران لا تقتصر على نشر التشييع فقط، فهي مجبرة من ناحية ثانية على حماية حضورها العسكري والأمني، الذي يبقى غير مستقر ما لم يكن هناك هدوء في الحواضن الشعبية.
أما عن أسباب تركيز إيران على محافظة دير الزور فتقول صبا عبد اللطيف الباحثة المختصة بالشأن الإيراني بمركز عمران للدراسات إن إيران تحاول منذ دخولها سوريا اختيار المناطق التي تناسب مشروعها من الناحية الجغرافية والاقتصادية.
وتستدرك الباحثة حديثها لموقع “نون بوست” بالقول: “ومن هذا المنظور تعتبر دير الزور من أهم المناطق التي تطمح إيران في بسط سيطرتها عليها بالكامل لأنها تحقق الشرطين: أولًا موقعها الجغرافي الذي يشكل عقدة ربط، ومن ناحية أخرى تعتبر مدينة دير الزور هي إحدى المدن السورية المنكوبة إثر قصف قوات النظام والتحالف، وهذا ما يجعلها منطقة خصبة للاستثمار البشري والاقتصادي”.
وتضيف “إيران تستغل هذا الوضع للتقرب من المجتمع المحلي، وهكذا يسهل التأثير عليه بما يتناسب مع العقيدة الإيرانية التي تستخدم الدين لجذب السكان الأصليين باعتباره سيكون العامل الوحيد المشترك فيما بينها وبين هذا المجتمع”.
وهكذا، تظل سوريا تحت حكم الأسد رهينة النفوذ الإيراني ومشروع التشيع الذي يلتهم هوية المدن ويغير ديموغرافيتها ويفصلها عن تاريخها بأساليب ناعمة وملتوية، وكل ذلك بمباركة الأسد وأعوانه.