تركت أزمة البحر الأحمر آثارها الثقيلة على كثير من الدول ومن ضمنها العراق الذي يعتمد بشكل كبير على صادرات النفط كمصدر رئيسي لاقتصاد البلاد، ففي ظل الأحداث الجارية بالمنطقة، تتأثر العمليات التجارية والاقتصادية في العراق بشكل مباشر وغير مباشر، فقد اضطرّت بعض الشركات الأوروبية المختصة في التكرير إلى تغيير إستراتيجياتها والتخلي عن بعض مصادر تصدير الطاقة، لضمان استدامة أعمالها وتحقيق أرباح مستقرة.
ومع استمرار تأثيرات أزمة هجمات البحر الأحمر، تثار الكثير من التساؤلات عن انعكاساتها على الاقتصاد العراقي بشكل عام وصناعة النفط بشكل خاص، مع تسليط الضوء على الآفاق المستقبلية والإجراءات التي يمكن اتخاذها لمواجهة هذه التحديات.
تأثيرات أزمة البحر الأحمر
يتجه سوق النفط العالمي إلى مصادر الطاقة المحلية والقريبة بشكل متزايد مع تصاعد استهداف السفن في البحر الأحمر وارتفاع أسعار الشحن، ما يجعل الإمدادات من المناطق الأقرب أكثر جاذبية.
يكشف تقرير نشرته بلومبرغ أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، إلى أنّ تراجع حركة ناقلات النفط عبر قناة السويس أدى إلى ظهور بدايات الانقسام، حيث تتمركز منطقة تجارية واحدة حول حوض الأطلسي وتشمل بحر الشمال والبحر الأبيض المتوسط، ومنطقة أخرى تشمل الخليج العربي والمحيط الهندي وشرق آسيا.
يلفت التقرير إلى أنّ حركة نقل النفط الخام بين هذه المناطق لم تنقطع، لكنها باتت أكثر تعقيدًا من خلال تسيير الرحلات الأطول والأكثر تكلفة حول الطرف الجنوبي لإفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، مع تغييرات في مسار الرحلات البحرية.
وأشار التقرير إلى تخلّي بعض شركات التكرير في أوروبا عن شراء خام البصرة العراقي، وفقًا لما ذكره التجار، في حين يقوم المشترون من القارة العجوز بشراء الشحنات من بحر الشمال وجويانا.
في المقابل، انخفضت شحنات النفط الخام من الولايات المتحدة إلى آسيا بأكثر من الثلث خلال شهر يناير/كانون الثاني الماضي، مقارنة بالشهر الذي قبله، حسبما تظهر بيانات تتبع السفن من شركة “كبلر”.
وتمثّلت تأثيرات هجمات البحر الأحمر على أسعار النفط من خلال ارتفاع تكاليف النقل، ما يشجع مصافي التكرير على التوجه محليًا حيثما أمكنهم ذلك، وقالت كبلر إن أسعار ناقلات النفط الخام من طراز سويزماكس من العراق وعموم الشرق الأوسط إلى شمال غرب أوروبا قفزت بنحو النصف منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، وارتفع خام برنت القياسي العالمي بنحو 8% خلال نفس الفترة.
تأخير صادرات النفط العراقي
كشفت تقارير عالمية خلال الشهرين الماضيين عن تأخر شحنات النفط من المملكة العربية السعودية والعراق التي يبلغ مجموعها نحو 9 ملايين برميل بسبب تغيير الناقلات طرقها للسفر لمسافات أطول حول إفريقيا، بدلًا من عبور البحر الأحمر.
غيّرت السفن التي حملت النفط الخام والمنتجات المكررة من موانئ رأس تنورة والجبيل في السعودية والبصرة العراقية مسارها، وأبحرت بعيدًا عن مضيق باب المندب عند مدخل جنوب البحر الأحمر، وفق بيانات بلومبيرغ لتتبع السفن، وتم تحويل معظمها خلال الأسابيع القليلة الماضية، عندما قصفت القوات الأمريكية والبريطانية الحوثيين في اليمن بغارات جوية، وقال الحوثيون إنهم سيكثفون هجماتهم ردًا على ذلك.
تتجه السفن المحولة نحو إفريقيا في أطول رحلة من الشرق الأوسط إلى المصافي والمستهلكين في أوروبا، ويمكن أن يضيف التحويل أكثر من أسبوعين من وقت الإبحار بالمقارنة مع الرحلة من الخليج العربي عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
ورغم عدم استهداف ناقلات النفط غير المرتبطة بـ”إسرائيل” وحلفائها، فإن العديد من أصحاب السفن يريدون تجنب مخاطر المرور في منطقة الشرق الأوسط التي تنتج نحو ثلث النفط الخام في العالم، والذي يذهب الكثير منه إلى أوروبا.
ازدادت أهمية مبيعات النفط العراقي وباقي دول المنطقة إلى أوروبا بعد أن قطعت القارة إلى حد كبير وارداتها من الطاقة الروسية، لكن إعادة توجيه الناقلات أضاف المزيد من تكاليف العبور، وهذا يؤثر على تنافسية النفط العراقي في السوق الأوروبية.
وكشفت تقارير مطّلعة الشهر الماضي عن تحويل خمس ناقلات محملة بما يصل إلى 6 ملايين برميل من النفط الخام من العراق مسارها بعيدًا عن البحر الأحمر، في مؤشر واضح على تأثيرات الأزمة الراهنة.
انخفاض سعر خام البصرة
شهدت أسعار خام البصرة الثقيل وخام البصرة المتوسط، انخفاضًا، في 27 فبراير/شباط الماضي، رغم الارتفاع العام الذي شهدته أسواق النفط العالمية.
وانخفض سعر خام البصرة الثقيل بمقدار 1.74 دولار ليصل إلى 76.6 دولار، فيما انخفض سعر خام البصرة الوسيط بمقدار 1.74 دولار ليصل إلى 79.36 دولار، فيما حافظت أسعار النفط العالمية في الغالب على المكاسب التي حققتها في اليوم السابق وسط الهجمات على السفن في البحر الأحمر التي أدت إلى تفاقم المخاوف بشأن العرض.
تحدثت صحيفة الصباح العراقية الحكومية في 6 مارس/آذار الجاري، عن تأثيرات متزايدة بفعل التداعيات العسكريَّة في البحر الأحمر، تركت آثارها السلبية على التجارة النفطية العراقية بعد أن أدت إلى ارتفاع تكاليف النقل والشحن والتأمين واتباع طرق وممرات بديلة أطول.
ونقلت الصحيفة الرسمية عن خبير اقتصادي تأكيده على أنّ تلك التداعيات لا سيما من جهة دول أوروبا، أثرت على صادرات النفط العراقي، وكذلك تأثرت الاستيرادات السلعية للعراق التي يعد مصدرها شركاءها من هذه الجهات.
البحث عن بدائل لأوروبا
مع تزايد التحديات الجارية في قطاع النفط والطاقة، يسعى العراق إلى استكشاف بدائل جديدة لتصدير منتجاته بعيدًا عن شركات التكرير الأوروبية.
يقول الخبير الاقتصادي أحمد صدام إن مستوى تأثير أزمة البحر الأحمر على صادرات النفط العراقي لا تزال ضعيفة نسبيًا لأن أكثر من 80% من صادرات النفط العراقي تتجه نحو آسيا، ولا تمر في البحر الأحمر إلا 15-20% المتجهة إلى أوروبا والتي تقدّر بحدود 600 ألف برميل كمعدل يومي.
وفي حديثه لموقع “نون بوست”، يعرب صدام عن اعتقاده بأن استمرار الأزمة سوف يدفع المستهلك الأوروبي إلى البحث عن بدائل نفطية أخرى بسبب ارتفاع تكاليف النقل بما ينعكس سلبًا على ديمومة العلاقات الاقتصادية بين القارة الأوروبية والعراق.
ويرجّح أن يؤدي تخلي شركات التكرير الأوروبية عن نفط البصرة إلى دفع العراق للبحث عن منافذ تسويقية جديدة والخيار الأمثل هو آسيا دون أدنى شك، بيد أن هذا الأمر مشروط بوجود زيادة في الطلب بالأسواق الآسيوية ضمن المديين القصير والمتوسط.
ويرى الخبير الاقتصادي أنّ تأثير أزمة البحر الأحمر سينعكس على ارتفاع تكلفة الاستيرادات العراقية السلعية من القارة الأوروبية التي تمثل ما يقارب 20% من إجمالي استيرادات العراق، فاستمرار الأزمة سيقود إلى انخفاض هذه النسبة وسداد العجز فيها من دول أخرى مثل الصين والهند.
لا يملك الاقتصاد العراقي خيارات متعددة لتجاوز هذه المحنة أو تحمل تبِعاتها وتكاليفها، لا سيما في ظل اعتماده بشكل أساسي على مصدر واحد من الثروات الطبيعية، وبسبب المشاكل الاقتصادية والأمنية الأخرى التي يعاني منها منذ عقود.