من قلب سيدني خفقت القلوب لحلم شارف على بلوغ الحقيقة، ملايين تترقب ما قد تسفر عنه نتيجة مباراة المنتخب السوري أمام مضيفه الأسترالي، في إياب الملحق الآسيوي العابر لمونديال روسيا 2018، نسور قاسيون تخلفوا بهدفين لهدف في الأشواط الإضافية، صارت الحاجة لهدف وحيد فقط من أجل إتمام المهمة وإسعاد الجماهير، الدقيقة الأخيرة من عمر المباراة، ضربة حرة في مكان خطير لسوريا، جدار أسترالي يستعد للدفاع عن مرماه، وعمر السومة بعينين دامعتين، يستلم الكرة قصد هز الشباك، هو أمل الجماهير السورية والعربية أجمع، لعل الفرحة تقع بعد سنوات عجاف لم يذق خلالها أهل الشام غير مرارة الحرب وألمها، قلوب بلغت الحناجر، ترقب وانتظار شديدان عَمَّا الملعب، فهل سيفعلها عمر؟
لكل قصة بداية، ولعمر السومة حكاية، تمزج بين عطف الرياضة وعنف السياسة
بأحياء مدينة دير الزور السورية، أبصر عمر الحياة من أب حالم بابن يحترف كرة القدم، وأم عشقت مزاولة الرياضة، لكن مجتمعها رفض الفكرة فاضطرت للتخلي عنه، الأمل كان معقودًا على ولد تجلت فيه علامات الشغف بكرة القدم، فصار واقعًا بعد انضمامه لنادي المدينة “الفتوة” وهو ابن الـ12 عامًا، قبل أن يثبت كفاءته بتدرجه في الفئات العمرية للنادي، وينجح في اللعب للفريق الأول سنة 2008، وهو ابن 18 عامًا.
فرحة عمر السومة بهدف المنتخب السوري بسيدني
حرب نشبت، فكان الرحيل
مع اندلاع الثورة السورية بداية سنة 2011، كان قرار الرحيل حتميًا على عمر السومة، سوريا لم تعد ملاذًا آمنًا لكرة القدم، بعد أن استبدلوا الكرة بالبندقية، والقمصان بالأزياء العسكرية، توقفت جميع الأنشطة الرياضية، فهاجر عمر نحو الكويت ليلعب مع نادي القادسية، حيث قضى 3 مواسم أظهرت علو كعبه وحسه التهديفي العالي، بقيادته للفريق الكويتي لمجموعة من الألقاب
قلة من عرفوا عمر السومة بالقادسية، لكن اسمه شاع في أرجاء العالم العربي، بعد مبارياته الأولى التي خاضها في تجربته الجديدة بقميص أهلي جدة السعودي، تميز عمر بتسديداته القوية، ضرباته الحرة التي قلما تخطئ الشباك، وأهدافه الغزيرة عند كل مباراة، مشروع فريق أهلي جدة كان – ولا يزال – قائمًا على أهداف عمر، الذي صار محبوب الجماهير فوشحته لقب “العقيد”.
عمر السومة.. المنتخب السوري والسياسة
“أصحابنا ماتوا، بيوتنا تدمرت، الحزن بشكل عام على سوريا، اللي بيموت مكتوب لو أنو يموت بهذا اليوم، لكن حزننا هو على الوضع بشكل عام، المكتوب ما منو هروب، تعودنا”!
هكذا تحدث عمر السومة لوسائل الإعلام، بغصة في الحلق ودمع حبيس العين، عن وضع بدا أن ابن دير الزور لم ينسه، رغم كل المجد الذي وصل إليه عمر، الحنين كان دومًا لمسقط الرأس بتكراره لعبارة “أبغي أرجع بيتي” مع كل طلة إعلامية.
ومع اقتراب بداية تصفيات كأس العالم 2018، كان عمر السومة ولاعبون آخرون رافضين لفكرة الانضمام للمنتخب السوري، الأسباب لم تُذكر علنًا، لكن الجلي أن الموقف من النظام السوري كان السبب الرئيسي في هذا القرار، ومعه كانت النية من الاتحاد السعودي في تجنيس اللاعب وضمه للمنتخب، لكن موقف عمر السومة كان واضحًا: “من دواعي فخري أن يفكروا في تجنيسي، لكنني سوري وسأظل كذلك”.
أخذ ورد، مفاوضات وتدخلات من كل الأطراف، قبل أن يكون لعاطفة كرة القدم كلمة أخيرة، خاصة مع قطع المنتخب السوري شوطًا كبيرًا ليصبح منافسًا قويًا على مقعد مؤهل للمونديال، صار الأمل الوحيد منح الفرحة شعبًا لم يعرفها منذ زمن، بصيص جمال انبثق من قلب رماد النار التي التهمت سوريا، معاناة بلد تجلت في دموع فرحة امتزجت بدموع قهر أطلق لها العنان أيمن الحكيم مدرب المنتخب السوري خلال مؤتمره الصحفي عقب فوز ثمين على أوزبكستان، بعدما قال: “هذا فوز نهديه للشعب السوري بأكمله”.
عاد عمر السومة للمنتخب السوري، وتشكل طيف سلام وإن كان مقتصرًا على فريق كرة قدم، وضعت الخلافات جانبًا، وكان التركيز التام على النجاح للوصول لكأس العالم، المركزان الأول والثاني سيؤهلان مباشرة للعرس العالمي، والمركز الثالث سيقود صاحبه للعب جولة فاصلة من مبارتي ذهاب وإياب، ومع وصول عمر السومة، بدأ المنتخب السوري بشكل آخر على الصعيد الهجومي، انتصار أمام قطر، ثم تعادل ثمين أمام إيران في قلب طهران بهدف من عمر في الدقيقة الـ90 من اللقاء، قاد نسور قاسيون لملحق فاصل أمام المنتخب الأسترالي.
لو كنا بمعرض الحديث عن فيلم سينمائي، لكانت النهاية حتمًا في المرمى بحكم عُرف النهاية السعيدة للبطل، لكن الواقع فرض شيئًا آخر، الكرة ارتدت من القائم الأيسر للحارس الأسترالي، وحرمت السوريين من معجزة كادت تتحقق، لم يسجل عمر، ولم تتأهل سوريا
الأجواء في “ملعب الباسل” بحمص أعادت بنا الذكريات للشام الجميل، مع نصب الشاشات العملاقة، وازدحام الآلاف لمشاهدة اللقاء الفاصل، لعلها المرة الأولى منذ زمن طويل، عاش فيها الشعب السوري لحظات بمنأى عن الطائفية والمذهبية، وإن اقتصرت على 90 دقيقة فقط، ولعل الذي سيظل محفورًا في الذهن، تلك اللافتة التي ارتفعت بالملعب تهتف: “قاتلوا من أجل 23 مليون سوري”!
أمام أستراليا، كان لقاء الذهاب بماليزيا، منتخب لم يستطع طيلة مشواره في التصفيات أن يلعب بأرضه، فاضطر للتسول كل لقاء لمن يمنحه ملعبًا يقيم فيه لقاءه، كانت ماليزيا ملاذ المنتخب السوري لجل اللقاءات، وسط تعذر البلدان العربية لإقامة هذه اللقاء لأسباب “تنظيمية”، انتهى اللقاء بالتعادل الإيجابي، وهدف من عمر السومة في آخر دقائق، ضرب به موعدًا أخيرًا في سيدني.
حرب توقفت.. من أجل 90 دقيقة
عدنا للبداية
نصل سيدني، الدقيقة الـ120 من اللقاء، فبعد أن نجح عمر السومة في هز شباك الأستراليين، فشل المنتخب السوري في الحفاظ على نظافة الشباك، فكان هدف التعادل من توقيع كاهيل، قبل أن يعود ذات اللاعب لإحراز هدف ثان في الأشواط الإضافية، كثف بعدها لاعبو سوريا من الهجمات، وحانت اللقطة الحاسمة، بضربة حرة لعمر السومة، في مكان هو المفضل له، استلم الكرة، حدد وجهته، ثم انطلق كالسهم مسددًا الكرة لعلها تستقر الشباك.
لو كنا بمعرض الحديث عن فيلم سينمائي، لكانت النهاية حتمًا في المرمى بحكم عُرف النهاية السعيدة للبطل، لكن الواقع فرض شيئًا آخر، الكرة ارتدت من القائم الأيسر للحارس الأسترالي، وحرمت السوريين من معجزة كادت تتحقق، لم يسجل عمر، ولم تتأهل سوريا.
الفريق الذي لعب هذا المشوار كاملًا ليس ملكًا لبشار ولا للنظام، بل مِلكٌ للشعب السوري بكامل أطيافه
التمسوا العذر لعمر
انضمام عمر السومة للمنتخب السوري، خلف جدلًا كبيرًا في الأوساط الرياضية، ما بين مؤيد له ورافض، فقد كان معروفًا عن اللاعب تأييده للمعارضة السورية منذ كان لاعبًا بالقادسية، وعبر عن ذلك مرارًا عبر صفحته الشخصية بالفيسبوك أو على أرض الواقع كما فعل يوم رفع قميصًا يحمل علم الثورة يحيي به الجماهير السورية التي حضرت إلى الملعب، لكن منذ رحيله إلى الأهلي السعودي، صار السومة يتجنب الحديث عن مواقفه السياسية، قبل أن تُصبَّ عليه اللعنات يوم ارتدى قميص المنتخب السوري الذي يدعمه اتحاد تابع لنظام الأسد.
الحقيقة أن عمر السومة لا يستحق هذا الهجوم الذي شُن عليه، فمصلحة الشعب في الأخير لمنحه جرعة من السعادة أولى، بغض النظر عن أي خلاف سياسي يعصف بالبلد، الفريق الذي لعب هذا المشوار كاملًا ليس ملكًا لبشار ولا للنظام، بل مِلكٌ للشعب السوري بكامل أطيافه، السومة كذلك خاطر بمسيرته المميزة مع الأهلي، بعدما طالبت مجموعة من الجماهير السعودية بمنعه من الدخول للبلد مجددًا.
هو جدلٌ سيستمر، والآراء ستظل متباينة بشأن عمر السومة والمنتخب السوري، لكن الأكيد أن “العقيد” سيستمر في مشواره مع نسور قاسيون، من أجل فرحة جديدة تُمنح لشعب سوريا من بوابة كأس آسيا 2019، السومة أعلنها بعد نهاية تصفيات المونديال: “هدفنا الفوز بكأس آسيا”.