تزامنًا مَع انتفاضة الشعب السوري عام 2011 في وجه المنظومة القمعية التي صنعها آل الأسد، لم تكتف قوات الأخير بقتل وتشريد السكان من ديارهم، فبينما كانت تقود حملة إرهاب واسعة ضد السوريين، كانت في الوقت نفسه تشن عملية ممنهجة لحرق وتدمير التراث الغني، وذلك في واحدة من أبشع عمليات الإبادة الثقافية في تاريخ المنطقة العربية، والتي لا تضاهى على الإطلاق ما فعله المغول وتيمورلنك في قديم الزمان.
كانت سوريا جنة الآثار وموطنًا لأكثر من 10 آلاف موقع أثري إسلامي وعالمي، فقد مر عليها من مختلف العصور سلسلة من الحضارات والثقافات التي تركت بصمتها في البلاد، لكن مدن سوريا التاريخية ومساجدها وأسواقها وكنوزها الأثرية التي عاشت لقرون عدة، ونجت من جحافل المغول وتيمورلنك، أصبحت في غضون سنوات قليلة من بين ضحايا نظام الأسد، رغم أنه وقع على جميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية التراث الثقافي في أوقات الحرب، إلا أنه لم يحترم القوانين، وحتى المواقع الست التي أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث العالمي، استهدفها دون أي تردد.
شمل التطهير الثقافي الممنهج الذي ارتكبه عصابة الأسد في جميع أنحاء البلاد، قصف أماكن العبادة والمساجد الأثرية، ونسف المؤسسات المخصصة للتعليم، وحرق المكتبات والبنايات الثقافية والأسواق القديمة، ودك أحياء وأزقة تاريخية بالكامل، واستخدام المتاحف والقلاع والتلال الأثرية كمواقع عسكرية، حتى محيت معالم مناطق بأكملها ولم يعُد بالإمكان التعرف عليها، وذلك بجانب سرقة وتهريب الممتلكات الثقافية من المتاحف ودور المحفوظات.
عند التأمل أيضًا في تدمير قوات الأسد للمعالم والآثار التاريخية، يلاحظ أن قصف قوات النظام لمواقع التراث السوري لم يكن عملًا من أعمال التخريب العفوي، ولم يكن كذلك حالة عابرة فرضتها الحرب، بل كان مخططًا مرسومًا بعناية، تمثل في استهداف متعمد لكيان محددًا ثقافيًا، بهدف اقتلاع هذه الفئة ديموغرافيًا والانتقام منها لأسباب أيديولوجية.
وفي معظم نقاشات الباحثين حول ظاهرة “الإبادة الثقافية” يتفق غالبيتهم على أن الهدف الأساسي من إبادة الأماكن ذات القيمة والرمزية التاريخية هو محو وجود الآخر محوًا كاملًا، وتمزيق انتمائه وذاكرته، وهذا ما سعى الأسد تحقيقه ضد السنة في سوريا.
إبادة المدن التاريخية
كانت سوريا وجهة العديد من العلماء والمغامرين، وكثيًرا ما تغنى المؤرخين بعظمة مدنها وسحر أماكنها، حتى كانوا يضربون بها المثل بقولهم: “وكأنها دمشق – وكأنها حلب”. وقراءة ما كتبه المؤرخون عن المشهد الثقافي في سوريا لقرون عدة، تجعل المشهد مؤلمًا اليوم، فالمدن السورية القديمة التي لم تنقطع الحياة فيها منذ نشأتها، ونجت من ويلات الإمبراطوريات والطقس والزلازل لعدة قرون، أصبحت الآن مدنًا منكوبة تثير فينا شعورًا بالحزن على التراث الغني الذي دمرته البربرية الأسدية، ومزقت به النسيج الاجتماعي والثقافي.
ورغم أنه لم تستثن أي مدينة من قصف النظام، فإن إبادة حلب القديمة تعد واحدة من أسوأ الخسائر التي لحقت بالتراث السوري، ورغم أن المدينة شهدت زلازلًا وحروبًا على امتداد تاريخها، لكن الدمار الذي لحق بها في العقد الماضي لم يسبق له مثيل في تاريخ المدينة.
اشتهرت حلب منذ القدم بأبنيتها وأحيائها وأزقتها التاريخية، فهي من أقدم مدن الدنيا، وأكثر المدن السورية حيوية وفخامة وأناقة، إذ تقع في موقع إستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد ما بين النهرين.
ونظرًا لموقعها، فقد لعبت دورًا رئيسًا في طريق الحرير من الصين، فكانت مركزًا اقتصاديًا مهمًا ونسيجًا حضاريًا متماسكًا وفريدًا، كما اشتهرت بصناعتها المعروفة منذ القدم كالنسيج والقطن والحرير والصابون، كذلك افتخرت حلب بأسواقها ومدارسها ومساجدها الكثيرة وخاناتها وحماماتها الأثرية، وأدرجتها منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي عام 1986.
في العقد الماضي، شهدت حلب واحدة من أكبر عمليات الإبادة الثقافية والتي ظلت مستمرة لأربع سنوات، أسقط النظام خلالها البراميل المتفجرة على أسواق المدينة الأثرية التي يبلغ عددها نحو 37 سوقًا في البلدة القديمة، ومن بينها أحد أروع وأكبر الأسواق المسقوفة في العالم “سوق حلب” الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، ويعد قلب المدينة وشريانها منذ قرون، ويتوافد عليه السكان المحليون والتجار والسياح من كل أنحاء العالم.
كان السوق، الذي يبلغ طوله 8 أميال، يحتوي على عدد كبير من الدكاكين وورش الحرفيين والحمامات المزخرفة والخانات التي كانت تؤوي التجار مع بضائعهم، لكن نيران الحقد والكراهية التهمت كل شيء في السوق عام 2012، إذ أحرق النظام أكثر من 1000 دكان، ما أدى إلى قتل المصنوعات اليدوية والحرف التقليدية التي عاشت قرونًا، كما قُتل العديد من أصحاب المتاجر وشرد آخرون.
أيضًا استهدف النظام واحدة من أكبر وأقدم القلاع في العالم “قلعة حلب” التي احتفظت على بصمات البيزنطيين واليونانيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين المعمارية، قبل أن تتعرض للقصف المستمر من نظام الأسد منذ عام 2012، ثم في يوليو/تموز 2015 حتى انهار جزء من أسوارها وتشققت العديد من أبراج القلعة التي يعود تاريخها إلى 3000 قبل الميلاد.
في ذكرى استهدافها من النظام السوري تعرف إلى قصة قلعة حلب
كذلك تعرضت كل المعالم الأثرية المحيطة بالقلعة لأضرار جسيمة، وتشمل المدرسة السلطانية (بنيت عام 1223)، ومجمع الخسروية (1531-1534) الذي صممه معمار سنان، ومسجد العادلية (1553)، وجامع الأطروش (1398).
كما تم تدمير حمام يلبغا الناصري الذي يرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر، وهو أحد أرقى الحمامات في سوريا، بجانب تدمير بعض الخانات التاريخية الأكثر أهمية، بما في ذلك خان الصابون من العصر المملوكي، وخان النحاسين من العصر العثماني. وحتى مدافن شاش حمدان التاريخية بحلب لم تسلم من همجية النظام.
سوق حلب
غالبية المساجد والكنائس والخانات والمدارس الأثرية والزوايا الصوفية والحمامات والقصور والمتاحف وأبواب المدينة القديمة وغيرها من المباني التاريخية المهمة بحلب، استهدفها النظام، ووفقًا لتقييم أولي قام به فريق اليونسكو عام 2017، فإن 60% من تراث مدينة حلب القديمة تعرض لأضرار بالغة، و30% دمر بالكامل.
أربع سنوات متتالية، من عام 2012 إلى نهاية عام 2016، كانت حلب خلالها تفقد كل يوم جزءًا من تراثها تحت الأنقاض، وبعض التقديرات تشير إلى أن النظام أحرق 140 موقعًا تاريخيًا في أنحاء المدينة القديمة بحلب، كما محا قرى وأحياء تاريخية من على وجه الأرض.
ومن اللافت أنه في نفس اللحظة التي كانت الموسيقى تعزف في تدمر، ويدعى الأسد أنه يرفع القيم وينقذ تدمر من داعش، كانت طائرات النظام وروسيا تهدم القيم وتقود معركة جديدة لمحو تاريخ وتراث حلب الغني!
وفي مجال التعليم، تشير اليونسكو إلى أن مؤسسات التعليم بحلب لحق بها دمار لا يوصف، والمدارس التي زارتها بعثة اليونسكو في حلب معظمها تحول إلى أنقاض، لذا قالت المديرة العامة لبعثة اليونسكو: “إن تدمير واحدة من أعظم وأقدم المدن في العالم يمثل مأساة للسوريين كافة وللإنسانية جمعاء”، وفي صور الأقمار الصناعية، يبدو الدمار الهائل واضحًا في جميع أنحاء المدينة، وخاصة مواقع التراث.
لكن الكارثة الأسوأ كانت في إخلاء أحياء بأكملها من الناس وتهجير سكان المدن، ففي عام 2010 قُدر عدد سكان حلب بنحو 3.078.000 نسمة، وانخفض هذا العدد إلى أقل من مليون بحلول عام 2015، معظمهم هربوا من البراميل المتفجرة والقصف.
وحلب ليست المدينة الوحيدة التي أباد النظام تراثها، فعلى بعد عدة مئات من الأميال جنوبًا، تقع حمص، ثالث أكبر مدن سوريا، والمدنية التي شهدت أحداثًا عظيمة على مر تاريخها الطويل وكانت مركزًا للصوفية في سوريا كما يدل على ذلك الأماكن المختلفة التي تحمل أسماء صوفيين مشهورين.
تعرضت حمص للقصف بلا هوادة بين عامي 2011 و2015، وفي أثناء حصارها، قصف النظام آثارها التاريخية ومساجدها بنفس طريقة حلب، وخصوصًا مدينة حمص القديمة، فدمر النظام قبة حمام الباشا وباب دريب، وقصر بسمار، وقصر الآغا، وكذلك سوق الحشيش، والسوق القديم الذي كان في قلب الدمار والقصف، وكان يضم أكثر من 1000 دكان، ويربط أجزاء المدينة المختلفة مع بعضها البعض، وكان بمثابة المركز التجاري لأهل حمص.
كما أن الدمار الذي لحق بالمساجد والمعالم الأثرية بحمص، كان مصحوبًا بحرق الأحياء القديمة، بجانب أن الكثير من المواقع والمباني التاريخية متاخمة للمناطق الحضرية، لذا فإن أي موقع يتم استهدافه يعرض أيضًا المواقع والمباني التاريخية القريبة للدمار.
كذلك استهدف النظام قلعة الحصن، إحدى أهم قلاع العصور الوسطى في العالم، ومسجلة على مواقع التراث العالمي لليونسكو، حيث تعرضت القلعة لأضرار جسيمة جراء سلسلة من القصف والغارات الجوية التي شنها النظام من 2013 – 2014.
لم تنج غالبية المعالم التراثية والبيوت والأسواق القديمة والمساجد والكنائس بحمص من دمار الأسد، على سبيل المثال قصف النظام حي بستان الديوان التاريخي، وكل الأحياء التاريخية في باب هود وباب دريب وباب تركمان. فتغير المشهد الحضري التاريخي بالكامل في حمص، وتوقفت كل أشكال الحياة في جميع أنحاء المدينة، وكتبت المهندسة المعمارية مروة الصابوني، التي شهدت هذا الدمار مباشرة: “إنه دمار يذكرنا بالحرب العالمية الثانية”. وبعض التقديرات تشير إلى أن حمص فقدت 57% من تراثها الثقافي والحضاري، وهذا بخلاف إبادة الأحياء السكنية.
حلب وحمص مثالان كارثيان لإبادة تراث المدن، وإلى جانبهما عانت مدينة بصرى الشام الزاخرة بالآثار والواقعة في محافظة درعا مهد الثورة السورية، حيث تعرضت غالبية معالمها التراثية الرئيسية لقصف هائل من النظام عام 2015.
تشتهر المدينة بكونها محطة توقف للقوافل المتجهة إلى مكة، وأيضًا بها أقدم المساجد الإسلامية والآثار المسيحية والمسرح الروماني الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني، وقد أضيفت المدينة إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي في 1980، لكن ذلك لم يشفع لها، ودمرت العديد من معالمها بالقصف، بما فيها المركز الثقافي للمدينة.
رغم أن البعض يعتبر أن دمشق كانت أفضل حالًا من المدن السورية الأخرى، فإنها عانت أيضًا من خسائر كبيرة في تراثها الثقافي، فمنذ عام 2011 دمر النظام بشكل خاص التكايا والأسواق العثمانية في أحياء دمشق، وهناك بالفعل أحياء قديمة شملها الدمار بالكامل، مثل حي جوبر، الذي قصف فيه النظام جامع جوبر الكبير أقدم مسجد بالحي، والزاوية الشاذلية، ومقام العسالي الذي بناه حاكم دمشق أحمد باشا كوجك، كذلك نبش أفراد النظام قبة حجر بن عدي.
إرث في مرمى النار
وخلال السنوات الأخيرة، اندلع 180 حريقًا في آثار دمشق القديمة، ويشير البعض إلى أن هذه الحرائق متعمدة بهدف محو كل ما يمت لفترة الحكم العثماني بصلة وإعلان هيمنة المشروع الإيراني، ولا سيما أن النظام أعاد هندسة التغير الديمغرافي في المدينة لطرد السكان السنة، بحجة “التنمية الحضرية” كسلاح حرب لمعاقبة مجتمعات معينة.
حريق في مسجد العنابي في باب سريجة بدمشق، المسجد تاريخي وأثري
النظام يقول إن ماسًا كهربائيًا وراء الحريق، والسوريون يعلمون الفاعل الحقيقي لهذا الحريق
حسبنا الله ونعم الوكيل pic.twitter.com/pWpYiDsyIg
— تمام أبو الخير (@RevTamam) January 11, 2024
وكذلك داخل مدينة دير الزور، تعرضت معالمها الأثرية للدمار بسبب القصف الجوي للنظام، كالسوق القديم والدير العتيق وتكية الراوي والجامع الحميدي وتكية النقشبندي والمتحف الوطني بدير الزور والجسر المعلق والبيوت القديمة.
وفي محافظة حماة، تعرض الجسر التاريخي على نهر العاصي، والذي يربط بين بلدتي خطاب وبلحسين للتدمير، كما قصفت قوات النظام معالم حماة القديمة، وألحقت بها تدميرًا بالغًا، خصوصًا قلعة المضيق التي تعرضت للقصف الكثيف في 26 مارس/آذار 2012، بجانب قصف مدينة أفاميا الأثرية.
حتى المنازل التاريخية في حي الأربعين بحماة، لم تسلم من قصف النظام، وتعرضت أحياء تاريخية بكاملها في حماة للتجريف على مدار الفترة 2012 – 2013، وزعم النظام أن هذا التدمير هو لإزالة المباني المشيدة بشكل غير قانوني، أو بغرض أعمال التوسعة والتطوير وهو السيناريو الذي تم تنفيذه أيضًا في أحياء دمشق القديمة.
كذلك في الرقة، استهدف طيران النظام “سور الرقة الأثري”. وفي داريا، تم استهداف البيوت الأثرية، وإدلب أيضًا فقدت الكثير من تراثها بسبب قصف النظام الذي استهدف قلاعها ومتاحفها ومعالمها الأثرية بالبراميل المتفجرة، ولم تسلم قبة وضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز من استهداف النظام عدة مرات، وما زالت المواقع التاريخية بإدلب تتعرض للقصف الروسي والأسدي حتى الآن.
حتي مجموعة القرى القديمة في شمال سوريا والمعروفة أيضًا باسم “المدن الميتة” لم تسلم من قصف النظام وروسيا، وتشير التقديرات الدولية إلى أنه بين عامي 2012 و2016، قصف النظام في أنحاء البلاد 3000 موقع تاريخي وثقافي دمر بعضها بشكل كامل أو جزئي.
هذا بخلاف البيوت والمدارس التي دمرها، لدرجة أنه في بعض المناطق، أقام السوريين مدارس للأطفال في الكهوف والمغارات وتحت الأرض، وجدير بالذكر أن الجامعات لم تكن في منأى عن الاستهداف المتعمد، فقد تعرضت للقصف وارتكبت فيها مذابح، مثل جامعتي دمشق وحلب.
هجمات المساجد
“يا مسلم مانك سامع .. بشار عم يقصف الجوامع” ردد المتظاهرون هذا الهتاف خلال الثورة السورية عندما استهدفها نظام الأسد متعمدًا، إذ يذكر تقرير “سوريا بلا مساجد” الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “تعمدت القوات الحكومية استهداف وكسر الهيبة التي يحملها الشعب السوري تجاه المسجد، فقامت بقصفه وتدميره وتخريبه على نحو همجي لم يسبق له مثيل حتى في أيام الاستعمار الفرنسي الذي كان يراعي حرمة المسجد ولم يكن المستمر يلاحق أحدًا دخل المسجد”.
كان تدمير عصابة الأسد لدور العبادة واسع النطاق ومنهجيًا، فبحسب دراسة ميدانية أجرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد استهدف نظام الأسد 40 كنيسة ما بين متضررة بشكل جزئي أو كلي. وبشكل خاص، لوحظ أن النظام في تدميره المساجد ركز على نسف المآذن واستهدف المساجد التاريخية الرئيسية.
وبحسب توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد قصف النظام في جميع أنحاء البلاد ما لا يقل عن 2044 مسجدًا دمروا بشكل كامل أو جزئي، مع العلم أن توثيق الشبكة السورية يغطي الفترة من مارس 2011 حتى مارس 2015. وحتى الوقت الحاليّ ما زال مسلسل استهداف المساجد مستمرًا.
وفيما يلي أبرز المساجد السورية التي تعرضت لبرنامج الإبادة، وترك قصفها أثرًا كبيرًا في نفوس السوريين:
من أشهر مساجد حلب الجامع الكبير والمعروف أيضًا باسم الجامع الأموي، جوهرة المدينة ومن أجمل مساجد العالم الإسلامي، يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي، وبعد أن استمر المسجد في أداء دوره لقرون، تعرض عدة مرات في 2013 للقصف بطائرات ودبابات النظام، وبهجوم صاروخي سقطت مئذنة المسجد التي يبلغ ارتفاعها 45 مترًا، ودمرت أجزاء كبيرة من صحن وأروقة المسجد، بالإضافة إلى حرق مكتبته الزاخرة.
أما مساجد درعا فقد تعرضت لقصف شديد، وأهمها المسجد العمري الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب في القرن السابع، وكانت مئذنته الرائعة أول مئذنة في بلاد الشام، بجانب نمطه المعماري الفريد، ونظرًا لأهميته التاريخية والدينية، كان المسجد رمزًا للثورة ومحورًا للاحتجاجات المناهضة للنظام في درعا، ففي 18 مارس/آذار 2011، بعد صلاة الجمعة، خرج عدة آلاف من المتظاهرين في مسيرة من المسجد العمري في درعا مطالبين بالإفراج عن الأطفال والمزيد من الحرية السياسية، واستمرت الاحتجاجات، وأصبح المسجد نقطة تجمع ومستشفى مؤقت لجرحى المتظاهرين.
لذا كان المسجد العمري أول مسجد استهدفته قوات النظام بعدما اعتصم فيه المتظاهرون، وفي الفترة ما بين 23-25 مارس/آذار، تعرض للقصف والاقتحام، ثم تابع النظام قصف المسجد ودمر مئذنة الشامخة، وألقت الطائرات أربعة براميل متفجرة على المسجد، ما أدى إلى إحراقه بعد أن ظل شامخًا لقرون.
أما حمص، فغالبية مساجدها التاريخية استهدفت، مثل مسجد سعد بن أبي وقاص، ومسجد النخلة، ومسجد الزاوية، ومسجد قاسم الأتاسي، ومسجد القصير، ومسجد كعب الأحبار، ومسجد العصياتي، ومسجد الشيخ كامل المغربي، ومسجد الزعفران، ومسجد خالد بن الوليد، ومسجد باشا الحسيني، ومسجد الأبرار، ومسجد كامل باشا، ومسجد أبو ذر الغفاري، وجامع عمر النبهاني في باب تدمر بحمص.
لكن قصف مسجد خالد بن الوليد في عام 2013 والذي يعد المعلم الرئيسي للمدينة، له أسوأ الأثر في نفوس أهل حمص، فالكثيرون يعتبرونه ثاني أهم مسجد في سوريا، إذ يضم قبر الصحابي خالد بن الوليد، وحسب شهادة الأهالي فإن قوات النظام والمليشيات الشيعية التي سيطرت على المسجد بعد تدميره استولت على كل ما كان فيه، بما في ذلك صندوق الصدقات.
وكان لتصرفاتهم طابع طائفي، حيث حولوا المسجد السني إلى مسجد شيعي ورفعوا الأذان بالنسخة الشيعية، وذلك من أجل تأكيد سيطرتهم على المنطقة واستفزاز السكان المحليين. بجانب أن مليشيات النظام وحزب الله كتبوا عبارات شيعية على جدران المساجد السنية المهدمة في مدينة حمص.
محرقة الكتب والوثائق
الكثير من مساجد سوريا تضم مكتبة داخلها، والعديد منها مكتبات أثرية تضم مخطوطات وقفية ومواد وثائقية، وبالتالي فقدت سوريا الكثير من مكتباتها ومخطوطاتها في أثناء قصف جوامعها، مثل حرق المكتبة الوقفية بحلب التي كانت تجمع المخطوطات النادرة، وبكل أسى تحولت 35 ألف مخطوطة فريدة إلى رماد كامل.
كذلك عندما أحرق النظام الجامع النوري بحمص، امتد الحريق إلى مكتبة الجامع، وفقدنا الكثير من الوثائق والسجلات، وكانت المكتبة تضم مجموعات قيمة من الكتب والمخطوطات النادرة، وهذا المسجد الشامخ بمجرد سيطرة قوات الأسد عليه، أحرقت مكتبته التي تضم العديد من الكتب النادرة والمصاحف.
إلى جانب فقدان آلاف الكتب والمخطوطات النادرة التي لا يمكن تعويضها، كان لدى الناس عادة بناء المكتبة الشخصية في دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن السورية، وبالتالي حتى المكتبات الخاصة، لم تنج من جحيم الأسد عندما قصف المنازل والأحياء.
استطاع شباب داريا إنقاذ 11 ألف كتاب من تحت أنقاض الجحيم الذي فرضه الأسد على مدينتهم، وبنوا مكتبة عامة للمدينة في أعماق الأرض، ولم يحفظوا الكتب فحسب، بل تطوعوا أيضًا للعمل كأمناء مكتبات وأنشأوا نظامًا يمكّن مواطني المدينة من استعارة الكتب.
كما كتبوا أسماء أصحاب تلك الكتب على الصفحة الأولى، على أمل أن يتمكن أصحابها – إن كانوا على قيد الحياة – من استعادتها، ثم حين انتهى حصار داريا في أغسطس/آب 2016 بالتهجير القسري، عثر جنود النظام على المكتبة ودمروها.
كانت الخسارة الأخرى التي لا يمكن تعويضها بأي حال، حرق الأرشيفات وسجلات الأراضي والإسكان ووثائق الممتلكات وسجلات المواليد والوفيات والزيجات، وبالتالي عندما يقرر العديد من الذين أجبروا على النزوح العودة إلى مساكنهم وممتلكاتهم، سيكافحون لإثبات أنهم أصحاب المكان الأصليين، ولا شك أن استهداف الأوراق الثبوتية لممتلكات السوريين يعد شكلًا من أشكال التغيير الديمغرافي التي يتبعها النظام.
استولى النظام بالفعل على أملاك العديد من النازحين بحجج انتمائهم للإرهاب، وحين أراد بعض السوريين بيع منازلهم ودكاكينهم في حماة، تفاجأوا بسيطرة النظام على أملاكهم بحجة أن ملكيتها تعود “لإرهابيين”، وتقريبًا لا يكاد يخلو شخص أجبر على التهجير من تهمة الإرهاب.
كذلك تشير العديد من التقارير إلى أن النظام يوطن المليشيات في أملاك ومناطق السوريين التي هُجروا منها، ووضع اليد على ممتلكاتهم تحت مسمى قانون تنظيم المدن، لإحلال عائلات الميليشيات والمقاتلين الإيرانيين مكان السكان الأصليين.
سرقة المتاحف السورية
يرى الخبراء أن الأضرار التي لحقت بالمتاحف السورية أسوأ بكثير من تلك التي لحقت بالمتاحف العراقية في أثناء الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث تعرضت غالبية المتاحف السورية لغارات جوية شنتها قوات النظام، مثل متحف حلب الوطني، ومتحف دير الزور، ومتحف مارع وغيرها.
وثق تقرير مؤسسة جيردا هنكل والجمعية السورية لحماية الآثار 29 متحفًا تعرضوا لأضرار بسبب القصف الجوي لمرات عدة، بما في ذلك متاحف معرة النعمان والرقة وحماة والمتحف الأثري بإدلب الذي تعرضت الكثير من محتوياته للنهب والتدمير الجزئي، ومتحف تدمر الذي تعرض لقصف جوي روسي عام 2015 ودُمر جزئيًا، بجانب متحف حمص الذي تعرض للسرقة والتدمير، ويظهر مقطع فيديو بثته (بي بي سي) أنه تم تمزيق العديد من جدران المتحف لإنشاء ممرات آمنة لجنود النظام.
بجانب ذلك، تشير العديد من التقارير إلى أن أفراد النظام مارسوا عمليات سرقة ونهب للآثار على نطاق واسع، ووصل الاتجار بالممتلكات الثقافية السورية إلى مستويات غير مسبوقة، وذكر أحد التقارير التي ترصد الآثار المنهوبة بسوريا، أن وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس هرب آلاف الآثار إلى الإمارات.
حسب التقرير الذي أعده الأكاديمي السوري شيخموس علي، فقد هرب طلاس 405 صناديق من الآثار السورية إلى دبي، وذلك عندما غادر سوريا عام 2011.
كذلك تشير التقارير إلى أن ماهر الأسد الأخ الأصغر لبشار، كان يحمي مجموعات منظمة من اللصوص الذين ينهبون الآثار، وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن عناصر الحرس الثوري الإيراني تقوم أيضًا بسرقة الآثار السورية ونبش القبور التاريخية في دير الزور لاستخراج الآثار والذهب.
كما تناول تقرير مؤسسة جيردا هنكل والجمعية السورية لحماية الآثار عمليات النهب الواسعة التي تعرضت لها المتاحف السورية، وأشار إلى أن أكثر من 40 ألف قطعة أثرية سُرقت من المتاحف والمستودعات منذ عام 2011.
وفي حين فشلت اليونسكو والمنظمات الدولية إلى حد كبير في حماية التراث السوري، ولم تتفاعل بشكل ملموس مع أي جوانب تتعلق باحتلال وقصف المواقع التاريخية، فلسوء الحظ، ظل الوضع الدولي الحاليّ كما لو أن كل ما يمكن للعالم أن يفعله هو المشاهدة والإدانات العلنية، لكن السوريين طوروا مبادرات فردية ومجتمعية لإدارة وحماية التراث الثقافي، وبالفعل أثبتت هذه المبادرات قدرة المجتمع المحلي على العمل واستغلال المساحات المتاحة للعمل في ظل هذه الظروف الصعبة ورغم نقص الموارد والدعم، وهي إنجازات تستحق الدراسة.
على سبيل المثال، في مدينة إدلب قام العديد من المتطوعين وعلماء الآثار المحليين بإنشاء شبكات محلية غير حكومية وغير ربحية لحماية تراثهم الثقافي وحراسة المتاحف وتوثيق الانتهاكات، بجانب تنفيذ مشاريع الترميم حيثما أمكن، ووثق الناشطون في إدلب تدمير أكثر من 140 موقعًا أثريًا من أصل 470 في إدلب وريفها.
فقدت سوريا الكثير من تراثها وذاكرتها التاريخية ومؤسساتها التعليمية في حكم بشار الأسد، وكتالوج الخسائر لا يتوقف عند إبادة التراث فقط، فهناك الكثير من الملفات المرعبة والدامية، مثل انخفاض عدد السكان ومعسكرات الاعتقال والتعذيب، والكثيرين الذين يعيشون بلا مأوى مناسب بسبب تهجيرهم وتدمير منازلهم، فقد صنع الأسد عالمًا من الجحيم، لا قيمة فيه لأي شيء، لا للإنسان ولا للثقافة والتراث.
كل هذه المنشآت التي أبادها كانت تؤدي أدوارًا مهمة وأساسية في حياة المجتمع، كانت بمثابة مراكز للتجمعات الدينية والتضامن المجتمعي والممارسات الثقافية، ونتيجة لذلك، لم يعاني الشعب السوري سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا فقط، بل فقد كذلك أحد أهم أشكال الوجود الجمعي، وما زال يتحمل معاناة وخسائر لا حصر لها، فتراث بلادهم الغني بالتنوع الثقافي مزقه الأسد إلى أشلاء وحوله إلى ركام وحجارة.