كانت الساعة 1:40 بعد ظهر 27 من يونيو 2007، حينما سقط – أو أُسقط – أشرف مروان بشكل غامض من شرفة شقته الفارهة بالطابق الخامس بشارع كارلتون هاوس تيراس في حي وستمنستر القريب من ميدان البيكاديلي في لندن.
هكذا لقي الرجل الذي تعتبره “إسرائيل” منقذها، وتراه عائلته بطلًا قوميًا تعاون مع السادات في وضع خطة الخداع في حرب أكتوبر، مصرعه.
روايات متناقضة وأسئلة لا تتوقف عن موت أشرف مروان، يحتاج الاستغراق فيها إلى العودة أولًا لملابسات كشف هوية أخطر جاسوس في النصف الثاني من القرن العشرين، كما تراه “إسرائيل”.
كيف كشفت هوية الصهر؟
منذ أوائل التسعينيات، بدأ مؤرخون وصحفيون إسرائيليون في نشر تلميحات تشير إلى أن تسفي زامير تسلّم من “عميل للموساد في القاهرة”، قبل 24 ساعة من حرب أكتوبر، تحذيرًا من الهجوم المصري السوري المشترك، دون ذكر تفاصيل.
رغم تلك التلميحات، لم يكن سهلًا استنتاج هوية أشرف مروان لولا الكتاب الذي أصدره إيلي زعيرا رئيس الاستخبارات العسكرية خلال حرب أكتوبر، عام 1993، الذي برأ نفسه خلاله من الفشل الاستخباراتي الذي أدى إلى 6 أكتوبر، والذي يُعتبر أول رواية رسمية منشورة تشير – بشكل غير مباشر لكن سهل استنتاجه – إلى نوعية المعلومات الممتازة التي قدمها أشرف مروان للموساد، وإلى الضرر الذي ألحقه بمصر وبقية الدول العربية.
من المنشورات الأخرى التي كشفت هوية مروان مقالة رونين بيرغمان والتي نُشرت في ملحق نهاية الأسبوع بصحيفة هارتز في 17 من سبتمبر 1999، بعنوان “غدًا ستندلع الحرب”، توضح المقالة لأول مرة كيف تم الاتصال بين الموساد والملحق العسكري المصري في لندن عام 1969.
في عام 2002 نشر بريغمان مقالة في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية لفّت الحبل بالكامل حول عنق مروان، إذ تضمنت القصة لأول مرة أمرين يكشفان هوية مروان كجاسوس إسرائيلي، الأول أن المصدر فرد من عائلة عبد الناصر، والثاني أنه كان يُلقب بـ”الدكتور”
تكتيك زعيرا وبيرغمان كان يعتمد بالأساس على توجيه البحث بشكل غير مباشر إلى هوية مروان، من خلال تمرير إشارة إلى مادة خاصة به، ويتركون للمتلقي مسألة ربط المعلومات والأحداث ببعضها.
فيما بعد عرف زامير من بيرغمان أن زعيرا الذي أخبره بهذه المعلومات وكشف له هوية مروان.
لم يكن بيرغمان الكاتب الوحيد الذي كشف له زعيرا سر مروان، فبعد 9 أشهر على ظهور مقالته، قال زعيرا لباحث يُدعى أفرايم كاهانا أن مصدر الموساد في حرب أكتوبر كان عميلًا مزدوجًا، وأعطاه تفاصيل تعريفية تتضمن العمر التقريبي للمصدر وتفاصيل خاصة بحياته استخدمها في مقالته التي ظهرت في صيف 2002 بمجلة “الاستخبارات والأمن القومي”، وعلى الرغم من منع أفرايم من نشر التفاصيل الرئيسية المتعلقة بهوية المصدر، كما ذكر هو في أحد هوامش المقالة، إلا أنه سمح لنفسه أن يذكر أن “المصدر الرفيع شابًا مصريًا كان في عام 1969 في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات، كان الذراع اليمنى لعبد الناصر، واستمر بعد وفاته بالمنصب نفسه تحت قيادة السادات”، وبالنسبة إلى مصدر معلوماته، استشهد أفرايم بمقابلة أجراها مع إيلي زعيرا في يناير 1999.
زعيرا يخنق “الملاك”
بالعودة إلى عام 1998، نجد أن المؤرخ الإسرائيلي أهرون بريغمان نشر كتابًا عن الصراع العربي الإسرائيلي، أحد مصادره الرئيسية زعيرا الذي حدّثه عن الفشل الذي مُنيت به الاستخبارات الإسرائيلية قبل الحرب، دون أن يذكر صراحة أو ضمنيًا أشرف مروان.
في 2000 نشر بريغمان كتابًا جديدًا بعنوان “حروب إسرائيل 47 – 93″، هذه المرة تحدث بشيء من التفصيل عن عملية تجنيد العميل التي تمت في لندن، والمواد الاستخباراتية الخطيرة التي سربها للموساد، واجتماعه الخطير مع زامير عشية حرب أكتوبر في لندن.
في 2002 نشر بريغمان مقالة في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية لفّت الحبل بالكامل حول عنق مروان، إذ تضمنت القصة لأول مرة أمرين يكشفان هوية مروان كجاسوس إسرائيلي، الأول أن المصدر فرد من عائلة عبد الناصر، والثاني أنه كان يُلقب بـ”الدكتور”.
وحين ظهر كتابه “تاريخ إسرائيل” في أكتوبر 2002، كشف بريغمان تفاصيل إضافية عن طبيعة علاقة المصدر بعبد الناصر، وعمله مع السادات، وتفصيلات أخرى لم تترك مجالًا للشك بخصوص هوية المصدر.
استضاف المذيع الإسرائيلي دان مرغليت، زعيرا لمناقشة الطبعة الجديدة من كتابه، وبالطبع تحدث عن نظرية “العميل المزدوج”، الذي روج لها، وذكر اسم أشرف مروان أكثر من مرة خلال المقابلة
وفي 21 من ديسمبر 2002، نشرت صحيفة “الأهرام” حوارًا مع بريغمان، سُئل فيه بشكل صريح عما إذا كان “الصهر” الذي تحدث عنه في كتابه الجديد هو أشرف مروان، فأجاب بنعم.
مع هذه الاتهامات الواضحة والصريحة، اتصلت صحيفة مصرية بمروان وسألته إن كان قد تجسس لمصلحة “إسرائيل”، فأجاب قائلًا: “إنها كانت قصة تحرِّ غبي”.
إذًا كل الوقائع تشير إلى أن الرجل الذي سعى منذ بداية التسعينيات إلى كشف هوية “الملاك” على الملأ، هو نفسه الرجل الذي فشل في استغلال سيل المعلومات الاستخباراتية التي سربها مروان والتي كانت تتوقع هجومًا مباغتًا نهاية 1973، وظل متمسكًا بالتصور القديم، الذي كان يفترض أن مصر لن تذهب للحرب أبدًا، حتى صباح الـ6 من أكتوبر، والذي يدّعي – دون غيره في دوائر الاستخبارات الإسرائيلية – أن أشرف مروان كان عميلًا مزدوجًا عمل لصالح مصر في الحرب، هو إيلي زعيرا.
زامير وزعيرا في المحكمة بسبب مروان!
في 2004، نشر إيلي زعيرا طبعة جديدة من كتابه الذي أصدره عام 1993، لم يتضمن تعديلات جوهرية على الطبعة الأولى باستثناء أنه سمّى صراحة مصدر المعلومات بأنه أشرف مروان!
استضاف المذيع الإسرائيلي دان مرغليت، زعيرا لمناقشة الطبعة الجديدة من كتابه، وبالطبع تحدث عن نظرية “العميل المزدوج”، الذي روج لها، وذكر اسم أشرف مروان أكثر من مرة خلال المقابلة.
في الأسبوع التالي، استضاف مرغليت، زامير لسماع روايته عن القصة، وتطرقا إلى مسألة أشرف مروان، وكان زامير صريحًا في انتقاده لزعيرا مشعلًا شرارة معركة قضائية حادة استمرت أعوام، حيث قال: “يجب أن يُحاكم زعيرا على كشفه المصادر وخرق أولى الوصايا العشر في سلك الاستخبارات”.
بعد ذلك، رفع زعيرا دعوى قذف على زامير، نظر فيها رئيس محكمة العدل العليا المتقاعد ثيودور أور، والذي أصدر حكمًا ببراءة زامير، وأقر أن زعيرا سرّب هوية أشرف مروان.
كان ذلك الحكم في 27 مارس 2007، وتم نشره للعلن في 7 يونيو 2007. بعد أقل من 3 أسابيع، تحديدًا في 27 يونيو، تم العثور على جثة أشرف مروان أسفل بناء شقته في لندن!
كان مروان يتصرف بشكل طبيعي في أيامه الأخيرة، هكذا تقول الروايات التي سجلتها الشرطة البريطانية، على سبيل المثال أكد مشرف البناء، الذي رآه صباح 27 يونيو، أنه كان “طبيعيًا تمامًا”
كان كشف هوية مروان مدمرًا له، وعلى الأرجح له علاقة بموته، هكذا يقول يوري بار – جوزيف الذي ناقش الفرضيات الرئيسية التي تفسر موته بهذه القسوة، وهي فرضيات: الانتحار، تورط “إسرائيل”، تورط مصر.
هل انتحر أشرف مروان؟
استبعد مؤلف “الملاك” هذا الاحتمال لعدة أسباب، منها: خلو تاريخ عائلته من قصص الانتحار، عدم معاناته من الاكتئاب أو العزلة أو حتى صدمة خسارة عمل أو موت أحد أحبائه، كما أنه لم يكن يتعاطى المخدرات، التي ترتبط بمعدل انتحار أعلى، بالإضافة إلى أن الأيام التي سبقت وفاته لم تشهد أي مؤشرات على نواياه الانتحارية، فلم يسمع أحد من المقربين منه أي كلمة توحي بذلك، كما أنه لا توجد مؤشرات أيضًا على سعيه للبحث عن وسائل لإيذاء نفسه مثل تكديس حبوب منومة أو امتلاك سلاح، ولم يظهر مروان أي تصرفات تدل على شخصية انتحارية مثل الإهمال المتعمد أو إدمان الكحول أو الانقطاع عن الأهل والأصدقاء، إلخ.
كان مروان يتصرف بشكل طبيعي في أيامه الأخيرة، هكذا تقول الروايات التي سجلتها الشرطة البريطانية، على سبيل المثال أكد مشرف البناء، الذي رآه صباح 27 من يونيو، أنه كان “طبيعيًا تمامًا”، كما أكدت زوجته منى أنه أخبرها في الحديث الذي دار بينهما في هذا الصباح أنه يحضر أمتعته للرحلة التي سيقوم بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية في وقت لاحق من اليوم ذاته.
على هذا الأساس، أصدر المحقق الجنائي البريطاني الذي قاد الاستجواب العامة حكمه بأن تصرفات مروان التي سبقت وفاته كانت “طبيعية ومفعمة بالحياة”، كما استبعد احتمال وقوع حادث “طبيعي”.
هنا نصل للسؤال، إذا لم يكن مروان قد أقدم على الانتحار، ولم يتعرض أيضًا لحادث طبيعي، فمن أسقطه؟ ولماذا؟
هل قتلته “إسرائيل”؟
عائلة أشرف مروان هي من تبنت هذا الاحتمال، خصوصًا أرملته منى عبد الناصر التي أكدت، بعد وفاته بأربعة أشهر، في حوار مع صحيفة الأهرام: “الإسرائيليون متورطين حتمًا في جريمة القتل التي حصلت لزوجي”، بعد 3 سنوات، صرحت منى لصحيفة الأوبزيرفر البريطانية أن مروان أخبرها أن حياته مهددة أكثر من مرة آخرها كان قبل 9 أيام من وفاته، حينما كانت معه في لندن، قائلة: “قال لي حياتي في خطر، لديّ الكثير من الأعداء من جهات مختلفة، لقد قُتل على يد الموساد”.
مذكرات أشرف مروان محض وهم، فلم يذكر أحد على وجه الأرض كلمة عن محتوى مسودة هذه المذكرات أو وحدة تخزين البيانات الخاصة بها غير ما زُعم أن مروان قد قاله!
من وجهة نظر جوزيف، إصرار منى عبد الناصر على اتهام الموساد بقتل زوجها يخدم مصالح عائلتها، التي يمكنها فعل أي شيء لمحاربة الرواية المدمرة التي تقول إن مروان كان جاسوسًا لصالح “إسرائيل”، لهذا تتبنى النظرية التي تجعله مصريًا وطنيًا نجح في خداع الموساد.
تطرق جوزيف، في ثنايا رده على زوجة مروان، إلى المذكرات التي تعتقد العائلة أن مروان كان قريبًا من إنهائها، وبحسب تصورهم، كان سيشرح فيها كيف خدع الإسرائيليين قبل الحرب مباشرة، حيث يشكك مؤلف “الملاك” في فرضية كتابة مروان لمذكراته من الأصل، ويدفع بعدة دلائل تخدم شكوكه، منها: عدم ظهور صفحة واحدة من مسودة كتابه في ظل التطور التكنولوجي الذي يستحيل معه تخيل أن مروان احتفظ بنسخة واحدة فقط من الفصول التي ادعت العائلة أنها سُرقت من شقته يوم مقتله، فلو كان مروان يخشى فعلًا على كتابه من السرقة – كما تقول زوجته – لماذا لم يضع عدة نسخ رقمية منه في خزنته أو على الكومبيوتر الخاص به أو مع عائلته أو مع أصدقائه المقربين؟
يواصل جوزيف أسئلته: “لو سجّل مروان بصوته نصوص مذكراته – كما تدّعي زوجته – هذا سيعني بالضرورة وجود مساعد آخر حوّل هذه التسجيلات إلى نصوص مكتوبة، فأين ذلك الشخص؟ وأين مواد أو مصادر البحث المجمعة الأخرى التي من دونها لا يمكن لمؤلف أن يكتب كتابًا من هذا النوع”.
يستنتج جوزيف من كل هذا أن مذكرات أشرف مروان محض وهم، فلم يذكر أحد على وجه الأرض كلمة عن محتوى مسودة هذه المذكرات أو وحدة تخزين البيانات الخاصة بها غير ما زُعم أن مروان قد قاله!
“الموساد لم يكن مهتمًا فقط بالحفاظ على حياة مروان بل اعتبر موته إخفاقًا ذريعًا للمؤسسة”، هكذا قال جوزيف مستبعدًا احتمال تورط الموساد في مقتل أشرف مروان، وأكد أن الكشف عن هوية مروان بالنسبة إلى بلد صغير ومهدد مثل “إسرائيل” لم يكن أقل من كارثة أمنية وطنية، فالضرر الذي لحق بالموساد جرّاء ذلك كان كاسحًا، حيث بدأت الأسئلة تدور عن قدرة وكالة الاستخبارات على المحافظة على سرية وسلامة عملائها، أسئلة توضح مدى الصعوبة التي سيواجهها الموساد عند تجنيد عملاء جدد.
أطلق مؤلف “الملاك” سؤالًا جوهريًا استخدمه كـ”رأس حربة” في توجيه اتهامه لمصر بقتل مروان، وهو: كيف يُعقل أن الحكومة المصرية لم تقم بأي محاولة للتحقيق في مزاعم خيانته أو إخضاعه للمحاكمة خلال الفترة ما بين الكشف عن هويته في 2002 وموته في 2007؟
تسفي زامير رئيس الموساد الأسبق، أول من اعترف بذلك عندما قال في مقابلة مع التليفزيون الإسرائيلي: “لقد خسرنا المصدر الأعظم في تاريخنا، وخسرناه نتيجة إهمال معيب وأنا فشلت في حمايته”، وفي مذكراته التي نُشرت في أواخر 2011 خصص زامير فصلًا كاملًا لمروان تحت عنوان “أفضل العملاء: بين نفسي وبين أشرف مروان”. وجاء فيه: “لا يمر يوم واحد لا أعذب فيه نفسي بشأن ما إذا كان باستطاعتي حمايته بصورة أفضل”.
لماذا لم تحاكم مصر أشرف مروان؟
بعد أن استبعد جوزيف فرضية انتحار مروان، كذلك فرضية قتل الموساد له، لم يتبق له سوى اتهام المخابرات المصرية بشكل صريح بقتل “ملاكهم”.
في هذا الإطار، أطلق مؤلف “الملاك” سؤالًا جوهريًا استخدمه كـ”رأس حربة” في توجيه اتهامه لمصر بقتل مروان، وهو: كيف يُعقل أن الحكومة المصرية لم تقم بأي محاولة للتحقيق في مزاعم خيانته أو إخضاعه للمحاكمة خلال الفترة ما بين الكشف عن هويته في 2002 وموته في 2007؟
هنا تطرق جوزيف إلى ادعاء عائلة مروان الخاص بأنه نسّق مع السادات عملية خداع الإسرائيليين دون أن يخبرا أحدًا بذلك، وما إذا كانت المخابرات المصرية تتبنى فعلًا نظرية “العميل المزدوج”، لهذا لم تهتم بالتسريبات الإسرائيلية التي ادّعت أنه كان يعمل جاسوسًا للموساد.
استبعد مؤلف “الملاك” هذا الاحتمال كسبب لعزوف مصر عن محاكمة مروان، بالنظر إلى أن السادات غير موجود لإثبات صحة هذه الرواية، كما أنه من الصعب في ظل عالم استخباراتي بالغ التعقيد أن يتبنى الجانب المصري خطة كهذه دون أن يُشرك فيها أي أشخاص آخرين بجانب السادات ومروان، فحتى الآن لم يظهر أحد يزعم ذلك.
يرى جوزيف أن طريقة تعامل مبارك مع مروان بعد انكشاف أمره تفسر الأسلوب المعقد والحذر الذي عالج به النظام المشكلة المحرجة عن طريق دفنها عميقًا تحت الأرض، فمبارك منذ أن كان قائدًا للقوات الجوية تربطه علاقة جيدة بمروان بدأت عندما أدار الأخير مشروع الحصول على طائرات الميراج الفرنسية أوائل السبعينات، كما كان ابناهما البكران صديقين مقربين وشريكين في الأعمال، مبارك أيضًا وصف مروان بعد موته بأنه “وطني حقيقي” وحضر جنازته أفراد من النخبة السياسية والعسكرية والاستخباراتية المصرية، وامتدحته وسائل الإعلام المصرية.
خوف النخبة الحاكمة من الضرر الذي قد يسببه مروان في حالة اتخاذ إجراء قانوني ضده، فمروان في واقع الأمر كان جزءًا أساسيًا من تلك النخبة على مدار 40 عامًا ويعرف كثيرًا من الأسرار الشخصية لأشد الرجال نفوذًا في مصر، مما يجعله مصدر تهديد حقيقي لهم
تبنى جوزيف 3 تفسيرات للمعاملة التي تلقاها مروان بعد انكشاف هويته كجاسوس للموساد، الأول يكمن في أهمية قضية العار في المجتمع العربي ومدى انعكاس فعل خيانة الفرد على العائلة، والمثل الذي بين أيدينا لا يتعلق بفرد عادي، وإنما واحد من صفوة النخبة العليا في مصر بل صهر عبد الناصر ومستشار شخصي للسادات، وأحد أبنائه صديق مقرب من جمال مبارك، إذا أقدمت الدولة على فتح مجرد تحقيق في الأمر سيجلب الخزي والعار لمبارك والنخبة الحاكمة.
الأمر الثاني المرتبط بعبء قضية العار يتعلق بنزعة الدفاع عن المنتمين للطبقات العليا في المجتمع المصري، وما يرتبط بها من تفضيل حماية شخص خائن طالما كان صديقًا وفردًا مقربًا من النخبة الحاكمة، بتعبير آخر “واحد مننا”.
السبب الثالث يعود إلى خوف النخبة الحاكمة من الضرر الذي قد يسببه مروان في حالة اتخاذ إجراء قانوني ضده، فمروان في واقع الأمر كان جزءًا أساسيًا من تلك النخبة على مدار 40 عامًا ويعرف كثيرًا من الأسرار الشخصية لأشد الرجال نفوذًا في مصر، مما يجعله مصدر تهديد حقيقي لهم.
هل قتلت المخابرات المصرية أشرف مروان؟
صحيح أن النظام تجاهل محاكمة مروان، للدوافع التي سردها جوزيف، لكن لم يكن باستطاعته تجاهل حقيقة أن رموز الاستخبارات الإسرائيلية – وليس مجرد صحفيين أو حتى مؤرخين – اعترفوا علنيًا بخيانة مروان، وأن المحكمة العليا الإسرائيلية أصدرت في يونيو 2007 حكمًا يقضي بتلك الخيانة.
هكذا وجد النظام نفسه مضطرًا للتعامل مع المسألة التي يمكن أن تزعزع أركان الحكم، هذا ما يعتقده مؤلف “الملاك” الذي تطرق بعد ذلك إلى أسلوب القتل الذي يشبه حالات موت أخرى، ادّعى أنهم وقفوا في طريق النظام في الماضي، مثل الفريق الليثي ناصف الذي سقط بنفس الطريقة من الطابق الحادي عشر من برج ستيوارت بلندن في أغسطس 1973، واتهمت زوجته نظام السادات بقتله، كذلك الفنانة سعاد حسني التي لقيت المصير ذاته بلندن في 2001، ووقتها وُجهت أصابع الاتهام للمخابرات المصرية بعد أن ظهرت رواية تقول بأن الفنانة المصرية كانت تنوي كتابة مذكرات ستكشف فيها عن عملها مع المخابرات في الثمانينيات.
أضاف جوزيف لهذا السجل الإجرامي الغامض ميتة مروان الشنيعة، التي قال عنها أنها أنقذت القيادة المصرية من الإحراج الذي كانت ستتعرض له إذا ما خضع مروان للمحاكمة واعترف على الملأ بأن عنصرًا بارزًا في النخبة الحاكمة المصرية شغل منصب مدير مكتب أنور السادات ومستشاره المقرب – زوجته ابنة الأسطورة ناصر وابنه البكر “جمال” صديق حميم وشريك عمل لوريث مبارك المنتظر، وابنه الثاني “هاني” متزوج من ابنة وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى – كان جاسوسًا للموساد في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي.
عاموس جلبوع، الرئيس الأسبق لشعبة أبحاث الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي تفحص جميع المعلومات التي قدمها مروان للموساد، علق على سلوك مصر الرسمي تجاه مروان بقوله “صور الجنازة التي يظهر فيها مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى وهم يقدمون تعازيهم لأرملته ذكرتني بما تفعله المافيا، حيث تقتل شخصًا ما، وبعد ذلك عندما تبكي الأرملة وأطفالها فوق قبره، يأتي القتلة ويقبّلونها”.
في النهاية، وجّه جوزيف عدة أسئلة تطعن في الخط الرسمي الذي تتبناه مصر في قضية مروان، والذي لا يعتمد سوى على شهادة مبارك التي جاءت على شكل كلمات مقتضبة بعد موته، منها: لماذا لم يظهر أي مصري برواية كاملة عن مروان على الرغم من مرور 10 سنوات على موته ونحو عقدين على اتهامه بالخيانة وأكثر من 30 عامًا على موت السادات وأكثر من 40 عامًا على حرب أكتوبر؟ لماذا لم تصبح قصة مروان جزءًا من الرواية المصرية لحرب أكتوبر في الكتب والأفلام الوثائقية إذا كانت النخبة الحاكمة تعتقد فعلًا أنها خدعت الموساد عن طريق صهر عبد الناصر؟ لماذا لا يستغل النظام قصة مروان في تعزيز الفخر الوطني ودعم سلطته؟
واصل جوزيف إحراجه للنخبة العسكرية الحاكمة في مصر قائلًا: “ما لم يقدم الجانب المصري وثائق وأدلة دامغة من قبيل: متى وأين التقى مروان مع مشرفيه؟ ماذا قِيل في الاجتماعات؟ أين السجل الذي يوثق طريقة تعامله مع مشرفيه وخداعه لرئيس الموساد؟ فلا مفر من الاستنتاج بأنهم لا يملكون حتى الآن أدنى فكرة عما كان يفعله مروان قبل الحرب وخلالها، ولا مفر من الاستنتاج بأن أشرف مروان لم يكن عميلًا مزدوجًا بل واحد من أهم الجواسيس الذين عرفهم العالم في نصف القرن الماضي”.