عندما دمرت قوات الأسد المساجد والمعالم الأثرية في أنحاء سوريا، كانوا في الواقع يحاولون القضاء على شعور الناس بالانتماء، إذ يرتبط الانتماء بالأماكن الملموسة والذكريات الموجودة بها، ونتيجة لذلك، انخرط نظام الأسد في ممارسات الإبادة الثقافية لخلق نزوحين: جسدي وعاطفي.
إحدى المآسي أن نظام الأسد لم يدمر فقط التراث السوري من حيث المبنى أو المكان نفسه، فقد حاول تدمير الشعور وسلب الناس حقهم بالانتماء، وبالتالي نحن لا نتحدث فقط عن المساجد والبيوت والآثار وغيرها من المباني الرمزية التي تحمل أثر الماضي، وإنما شعور الناس بالمكان الذي ينتمون إليه.
فهذه المعالم كائنات حية تتحدث إلينا ومن خلالها نتحدث مع بعضنا البعض، إنها أكثر من مجرد أماكن مرئية تمثل الأجيال والحضارات، قد تكون أماكن مقدسة يجتمع فيها الناس للصلاة معًا أو للاحتفال أو دفن موتاهم، وقد تكون ساحات أسواق قديمة حيث العائلات تتاجر مع بعضها البعض لعدة قرون، وقد تكون أيضًا أعمالًا معمارية وفنية رائعة تجسد أفضل ما حققه المجتمع، أو دليل صادق على أنهم كشعب في الماضي وصلوا إلى لحظات سامية حقًا.
وبالتالي فقد هدف نظام الأسد من حملة إبادة التراث الثقافي محو الإحساس الجماعي بالذات وقطع الروابط المتأصلة التي تربط الناس ببعضهم البعض وبتاريخهم وسبل عيشهم وذكرياتهم التي لا يمكن فصلها عن محيطهم، وتروي إحدى السوريات التي اضطرت لمغادرة دمشق في 2012، ثم عادت إليها عام 2016، فتقول:
“عندما عدت في عام 2016، لم أشعر أنني عدت إلى منزلي ووطني، لأن كل ما اعتدت رؤيته يوميًا لم يعد موجودًا، حتى الأشخاص الذين كنت أعرفهم والجيران لم يعودوا موجودين”.
كذلك ما يميز التراث هو شعور الناس أن هذا الأثر الملموس تم نقله إليهم من جيل إلى آخر، وبالتالي أي اعتداء عليه، يكون اعتداء على كرامة الناس وعلى القيمة التي ولدها المكان عبر الزمن، ومثلما عبر أحد السوريين حين رأى المسجد الذي اعتاد الصلاة فيه قد دمرته طائرات النظام: “إذا كنت تعرف المسجد قبل الدمار ورأيته الآن، فإن الأمر يشبه شخصًا فقد طفل أو جزء من جسده”.
وقد عبر الكثير من السوريين عن شعورهم بالغربة رغم أنهم لم يغادروا مدنهم، لذا يرى المتخصصون في التاريخ والآثار أن إبادة التراث السوري سيكون لها تأثير عميق على الهوية، والأهم حرمان الأجيال القادمة من إرث أجدادهم والإبداعات الرائعة لكل من سبقوهم، فهذه الإبداعات التي دمرها نظام الأسد، هي ذاكرة ورموز تربط السوريين ببعضهم البعض.
مدن بلا ذاكرة.. التدمير الاستعراضي
يلاحظ أن خطط الأسد الحالية لإعادة ترميم التراث الذي هدمه تقوم على قراءة انتقائية للتاريخ البعيد والحديث وإعادة كتابة الأحداث أو دفن تواريخ محددة، ونرى هذا الأمر بكل وضوح في مشاريع إعادة الإعمار.
فعلي سبيل المثال، عند إعادة ترميم الجامع الأموي في حلب، محيت الفترة التي قصف فيها النظام الجامع، وأجبر الناس على نسيان آثار الاعتداء، وأصبح الشباب الذين قاموا بحماية المسجد عندما كان يتعرض للقصف، ووضعوا أكياس الرمل وبنوا جدارًا وقائيًا أمام قبر زكريا وغيرها من وسائل الحماية، في طي النسيان.
بينما العكس حدث عند ترميم موقع تدمر الذي دمره تنظيم الدولة، فقد تم ترميم المكان وترك آثار ملموسة للتذكير بتعصب داعش، رغم أن النظام نفسه قصف تدمر في 2012، لكنه قدم رواية مختلفة تمامًا للأحداث، واستغل مع الروس ما قام به تنظيم الدولة لتلميع سمعتهم الملطخة بهدم التراث.
وبالتالي هذا الأمر يلفت انتباهنا إلى أن خطط إعادة الإعمار الحالية والممولة جزئيًا من جهات أجنبية، لا تستبعد فقط السوريين من جميع الطوائف والأحزاب والأعراق من عملية الترميم، أو حتى ما يعتبره الكثيرون الترميم من أجل أغراض دعائية، وإنما يقدم النظام التراث لمصلحة الأسد من خلال إظهار انتصاره وإزالة رواية معينة من التاريخ أو استبعاد طائفة بأكملها، الأمر ليس مجرد مقاومة الماضي أو تشويهه، إنما إعادة خلق روايات جديدة تعزز في نهاية المطاف شرعية النظام، لذلك يختار النظام ترميم أماكن معينة لدعم ادعاءاته خاصة في مدينة مثل حلب.
لم يظهر نظام الأسد أي مشاعر تجاه التراث ولا يقدر المعالم الثقافية للبلد، لكنه يستخدمها في كثير من الأحيان من أجل تعزيز همينته السياسية، ومن الأمثلة على ذلك، إعادة ترميم جامع خالد بن الوليد، أحد المساجد الشهيرة بحمص في حي الخالدية، والذي قصفه النظام في 2013.
وقد تم الآن إعادة ترميم المسجد بعد أن غُيرت بعض معالمه، وفي عام 2019، حضر مفتي الشيشان صلاح مجييف حفل افتتاح المسجد الذي بدا كأنه مهجور في مدينة أشباح، وقص مجييف الشريط عند المدخل وكان وزير أوقاف نظام الأسد يقف بالقرب منه، كأن شيئًا لم يحدث، وكأن الأشخاص الذين اعتادوا الصلاة في المسجد، لم يقتلهم الأسد أو يهجرهم قسريًا.
حتى المعالم الأخرى التي أُعيد ترميمها، غُيّرت هويتها البصرية، وقد أثير الجدل في أثناء ترميم جامع الأربعين بحمص، حيث جرى استبدال ألواح النوافذ المستطيلة بنوافذ ذات أقواس مدببة لتشبه الهندسة المعمارية الإيرانية.
وكما جادل البعض، يمكن للحرب أن تدمر التراث الثقافي مرتين، في الصراع ثم في عملية الترميم، وذلك من خلال خلق هوية جديدة للموقع، أو محو جزء معين من الذاكرة الجماعية. ويلاحظ أن الإستراتيجية التي يتبعها النظام تقوم على أن كل شيء ملك للأسد وليس للمجتمع، بما في ذلك المتاحف والمواقع الأثرية وما تحتويه، وما يلفت الانتباه هو الترويج للأسد باعتباره الوصي على الثقافة والإرث السوري.
وهذه ليست المرة الأولى التي استخدم فيها النظام تدمير التراث الثقافي كأداة لتحويل المشهد الاجتماعي والاقتصادي، واستخدام التخطيط الحضري لإعادة تشكيل مخططات عمرانية ومعمارية من أجل تمزيق وتشويه المدن القديمة وتعزيز السيطرة الاستبدادية وحذف جزء معين من الذاكرة الجماعية للمجتمعات الضعيفة.
لقد سبقت تلك الإبادة فصول أخرى في دورة تدمير التراث السوري، فقد محى حافظ الأسد أحياء تاريخية بأكملها من مدينة حماة 1982 بعد المذبحة، ولم يكن الترميم الجديد خاليًا من الدوافع والتأثيرات السياسية، وعلى حد وصف أحد سكان حماة في ذلك الوقت: “كنا نعلم أن الخسارة البشرية فادحة للغاية ولا يمكن تحملها، لكن تدمير تراث حماة التاريخي ترك جرحًا لن يلتئم أبدًا”.
فكما هو الحال في حماة 1982، يستخدم بشار الأسد حاليًا التراث وإعادة بناء النصب التذكارية القديمة أو المبنية حديثًا لفرض سرد تاريخي عنيف، وإذلال الأشخاص الذين آمنوا بالثورة، ومحو أي أثر جميل يدل على الأيام التي ثار فيها السوريون ضد حكم الأسد.
ويلاحظ هذا الأمر بوضوح من خلال استخدام النظام الأماكن التي تجمع فيها الثوار، وإعلان انتصاره عليهم فيها أو لتغيير مسار الروايات التاريخية التي قد تسير خلاف ذلك، نذكر على سبيل المثال، كيف محا النظام ساحة الساعة القديمة بقلب حمص التي كانت تعتبر رمزًا للثورة، حيث سار المتظاهرون في أكبر اعتصام بهذه الساحة، وبما أن ساحة الساعة القديمة تمثل قصص الثورة والحلم والأمل ومصدرًا للوحدة، فإن النظام محا هذا التاريخ من المكان وأعاد كتابة تاريخ جديد.
كذلك في أبريل/نيسان 2019 تم افتتاح نصب تذكاري في ريف حمص الشرقي، وفي أغسطس/آب 2019، تم تدشين تمثال للجندي السوري عند المدخل الجنوبي لحمص، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، تم تدشين نصب تذكاري في المخرم الفوقاني بريف حمص الشرقي.
وكل مواقع هذه الأنصبة والتماثيل الجديدة كانت مسرحًا لاحتجاجات الثوار مطلع عام 2011. وبالتالي اختيار النظام للموقع ليس فقط بمثابة تدمير أي شيء يساند ذاكرة الثورة بقدر ما هو تأكيد على انتصار النظام وتذكيرًا للسوريين بأن لا أمل وأحلام لهم، وليس لديهم مكان للحداد أو حتى مجرد ذكرى التجمع والتضامن الجميلة.
ومن اللافت محو كل شعارات الثورة من الجدران، لتحل محلها صور بشار الأسد، كذلك اللافتات حول قلعة حلب تظهر وجه الأسد وهو يحوم فوق سور القلعة. ولا تخلو شوارع هذه المدن المدمرة من صور وملصقات بشار، ومن السخرية، أنه كتب أسفل أحد البنرات عبارة “سوا منعمرها”.
هذا بجانب فرض أنواع جديدة من الذكريات مثل الاحتفالات التي يقيمها النظام بمناسبة ما يعتبره استعادة المدن من الإرهابيين أو الذكرى السنوية لتحرير حمص وحلب من الإرهاب، ورغم تدشين هذه الأنصبة الحربية الجديدة التي تمجد رواية النظام، لا توجد نصب تذكارية لالتئام الجروح، أو حتى حداد عام مسموح به للأشخاص الذين عانوا على يد النظام، بل تركت العائلات التي ما زالت تعاني آلام الفقد والحزن للمعاناة النفسية.
بهذه الصورة القاتمة، يمكن القول إن إعادة ترميم تراث سوريا التي يتبناها النظام ليست وسيلة لإنهاء الصدمة والبؤس، وقد تكون أكثر دمارًا من الحرب نفسها، لأنه في هذه الحالة جلب دمارًا آخر، ليس فقط من خلال الاستيلاء على الثروة الثقافية وطمس معالم أماكن واستئصال الذاكرة والهوية دون رأفة، وإنما استخدام إعادة ترميم التراث كعقاب ضد السكان الذين عارضوا النظام.
يستخدم النظام إعادة الإعمار كوسيلة لمكافأة تلك المناطق والأفراد الذين كانوا موالين له، بينما يواصل حرمان الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة من البنية التحتية الأساسية والخدمات، بما في ذلك أحياء البياضة والوعر وكرم الزيتون، والأحياء المشابهة لها في شرق حلب التي دمرها الحصار السوري والروسي في عام 2016.
لكن في الوقت نفسه، يكافئ الأقليات التي يحتاجها لتعزيز سلطته، فعلى سبيل المثال، كانت جهود إعادة البناء المحدودة في حمص مقتصرة على الأحياء المسيحية في المدينة.
وفي دراسته “إعادة البناء.. من يتخذ القرار” يقول فريدريك ديكناتل: “تعكس نظرة حكومة الأسد إلى عملية إعادة البناء باعتبارها وسيلة دعائية وأداة لفساد النخبة، فهي تضع بسرعة الأولويات لما سيتم إعادة بنائه، وما لن تتم إعادة بنائه بحسب شروط الأسد”.
ولا يخفي النظام هذه الأجندة، فخطابات الأسد وتصريحاته تشير إلى الطريقة التي سيتم بها التعامل مع المدن والمناطق التي حاصرها سابقًا، وقد عبر صراحة عن رؤيته حين قال لجمع من أنصاره في دمشق عام 2017:
“خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والكثير من العرق لأجيال، لكننا بالمقابل، ربحنا مجتمعًا أكثر صحة وأكثر تجانسًا بالمعنى الحقيقي”.
وبالتالي قد تؤدي عملية الإعمار إلى إعادة هندسة مناطق بأكملها من أجل التأكد من أنها لن تقاوم مرة أخرى، وهذه المرة ليست عن طريق القصف والتهجير، لكن عن طريق إعادة الإعمار.
لقد استخدم نظام الأسد تدمير المدن والتراث كسلاح، لكنه لن يستطيع إسكات التاريخ، وسيفشل بنهاية المطاف في محو هذه الثقافة العظيمة من ذاكرة العالم بعد أن دمرها، والواقع أن الروس والصرب التزموا بنفس إستراتيجية الأسد، ومع ذلك، ساهم فقد التراث بالنسبة للبوشناق والألبان في تشكيل الهوية الجماعية بشكل أكبر من التراث الذي كان موجودًا قبل التدمير.
يعلمنا التاريخ أن الناس يجدون طريقة ما للتمسك بهويتهم وتاريخهم وذكريات مدنهم، وسوريا بشكل خاص، لن تمحى قيمتها ومدنها بعد أن دمرها آل الأسد، بل من المبهر حقًا أن السوريين اليوم رغم كل الظروف الصعبة التي يمرون بها، يجمعون التبرعات لترميم مساجدهم التاريخية التي دمرها النظام، وهذا يدل في الواقع على قوة العلاقة بين المجتمعات المحلية السورية وتراثها الثقافي.
نشير أخيرًا إلى أن ترميم التراث الثقافي السوري هو أهم وسيلة لإعادة ربط الإنسان بالمكان فضلًا عن كونه مصدرًا للهوية وأداةً قويةً لإعادة بناء المجتمع وتحقيق الاستقرار ووحدة البلد وسكانه على المدى الطويل. ودون الذاكرة والتراث الثقافي وفهم الماضي، لا يمكن أن يكون هناك مستقبل، لأن أولئك الذين لديهم روابط قوية وحية بماضيهم أفضل حالًا لتصميم مستقبلهم.
ومثلما استخدم نظام الأسد تدمير التراث كسلاح، يمكن كذلك ترميم المكان والحفاظ عليه كأداة للتعافي، لكن من المهم أن نذكر أنفسنا بمدى قسوة الأسد، أي لا بد من إدراج ذكريات الثورة والحرب في إعادة بناء التراث، لا بد أن تخلد هذه الذاكرة وتدخل الوعي الجمعي، فتضمينها في الذاكرة جزء من عملية تعافي المجتمع، وعلى حد تعبير الراحل علي عزت بيجوفيتش: “عليكم أن لا تنسوا المجزرة مهما حصل، لأن المجزرة التي تُنسى تتكرر”، وحتى لا يُحكم غدًا أن ما فعله بشار لم يكن إلا محاربة الإرهاب، مثلما حكم أبوه سابقًا حين استباح حماة 1982.