مجرد متابعة سريعة للأخبار والتقارير الصحفية القادمة من الشرق الأوسط كفيلة بإبراز حقيقة أن إيران تتمدد في كل اتجاه في الشرق الأوسط، وتعيش عصرها الذهبي في إدارة الملفات وخلطها في الشرق الأوسط، وباتت الكثير من المناطق في الشرق الأوسط مراكز أساسية للنفوذ الأمني والعسكري الإيراني، إذ أن طهران تمارس اليوم نفوذاً متفاوت الدرجات في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزة، إلى جانب الخلايا التابعة لها في بعض بلدان الخليج ودول أخرى. ولا يحتاج الأمر إلى بالغ ذكاء لاستنتاج أن مسؤول فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني هو الحاكم الفعلي للعديد من تلك الساحات التي يتنقل فيما بينها بوقاحة فظة، كما ويعد مهندساً لكل الترتيبات في العديد من تلك البؤر الساخنة.
التدخل الإيراني في إقليم كردستان العراق عبر أداته الأمنية العسكرية (ميليشيا الحشد) والذي يعد في أحد معانيه تصاعداً للنفوذ الإيراني في العراق، يأتي بعد أسبوع من تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران وتلويحه بإلغاء الاتفاق النووي معها
آخر محطات الإدارة الإيرانية للملفات في المنطقة، هو توجيهها لميليشيا الحشد الشعبي في عملية الدخول إلى المناطق الكردية المتنازع عليها بين حكومتي إقليم كردستان وبغداد. وقد مهد قاسم سليماني لهذه الميليشيا (وهي ميليشيا طائفية شيعية تدين بالولاء لإيران) الأرضية عبر رعايته اتفاقية سرية بين قيادات في الاتحاد الوطني الكردستاني (أحد الأحزاب الرئيسة في الإقليم الكردي) وميليشيا الحشد، ما أدى إلى دخول الأخيرة إلى غالبية تلك المناطق من دون مواجهات تذكر مع قوات البيشمركة الكردية، وقد كانت ضربة إيران مزدوجة عسكرية وسياسية. عسكرية لجهة إعادة تلك المناطق إلى سلطة بغداد، وسياسية لجهة تقويض مفاعيل الاستفتاء الكردي على الاستقلال إلى إشعار آخر.
التدخل الإيراني في إقليم كردستان العراق عبر أداته الأمنية العسكرية (ميليشيا الحشد) والذي يعد في أحد معانيه تصاعداً للنفوذ الإيراني في العراق إلى ذرى غير معهودة يأتي بعد أسبوع من تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران وتلويحه بإلغاء الاتفاق النووي معها وإدراج الحرس الثوري على قائمة الإرهاب. خطاب ترامب الذي يرى أن إيران تلعب دوراً مزعزعاً للاستقرار في الشرق الأوسط، وأنها تنشر الإرهاب والصراعات والاضطرابات في المنطقة بقي مجرد خطاب في الهواء، فالأمريكان ووفقاً للعديد من التقارير والآراء الأمريكية التي صدرت خلال الأيام القليلة الماضية وافقوا على العملية العسكرية التي استهدفت حلفاء أمريكا الكورد وبعض مناطقهم يوم الإثنين.
وكانوا مطلعين على تفاصيل الصفقة بين بافل طالباني وهادي العامري والتي كان قاسم سليماني عرَّابها، وتابع الأمريكان لاحقاً سيرورة العملية العسكرية في تلك المناطق المتنازع عليها بين الكورد وحكومة بغداد دون أدنى تدخل، رغم أن دخول الحشد إلى تلك المناطق كان دخولاً طائفياً سافراً من خلال الرايات الطائفية المنصوبة على عتاد أمريكي والهتافات الطائفية، إضافة إلى وضع بعض قيادات الحشد صوراً للمرشد الإيراني الحالي الخامنئي والمرشد السابق الخميني في مقر محافظ كركوك.
يعلم الأمريكان أيضاً أن هذه الميليشيات الشيعية العراقية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي والتي باتت اللاعب الأبرز المهيمن أمنياً وعسكرياً في العراق مُقادةٌ من الحرس الثوري وتتبع لإيران وليس للحكومة العراقية الهشة
يكشف الوضع العراقي عموماً والتطور الميداني الأخير في منطقة كردستان، أن لا سياسة أمريكية واضحة وجدية إزاء إيران والنفوذ الإيراني في العراق والمناطق الأخرى من الشرق الأوسط, هناك غياب كامل لأي استراتيجية أمريكية رادعة للنفوذ الإيراني. إذ يعلم الأمريكان جيداً أن العراق بات مكان الإقامة الجديد لسليماني وبعض قادة الحرس الثوري الإيراني في السنوات الثلاث الأخيرة بشكل لافت، وأن قاسم سليماني كان يقود منذ 2014 الحشد الشعبي الشيعي في معاركه ضد تنظيم داعش، ومؤخراً جهود بغداد لإعادة احتلال المناطق الكردية المتنازع عليها مع بغداد. ويعلم الأمريكان أيضاً أن هذه الميليشيات الشيعية العراقية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي والتي باتت اللاعب الأبرز المهيمن أمنياً وعسكرياً في العراق مُقادةٌ من الحرس الثوري وتتبع لإيران وليس للحكومة العراقية الهشة.
كما وأن الأمريكان يعلمون بدون أدنى شك أن هذه الميليشيات ضالعة في ارتكاب فظائع ضد سنة العراق على أساسٍ طائفي، وضد الأمريكان، وأنهم يتسللون إلى السياسة في العراق ويرجحُ مراقبونَ أنهم سوف يهيمنون عليها عاجلاً أم آجلاً. تدرك الولايات المتحدة مدى تمدد هذه الميليشيات واستفحال أمرها برعاية إيرانية واضحة لا لبس حولها لكنها تغض النظر لاعتبارات غير مفهومة.
في تقرير لهما في نيويورك تايمز يخلص كل من الصحافيان ديفيد زوتشينو وإريك شميت إلى أن المعركة حول كركوك وضعت أمريكا وإيران في الجانب نفسه، وأنا أعتقد -بالاستعارة من قاموس التعبير المجتمعي الكردي- أن التدخل الإيراني الأخير في كردستان العراق من خلال حشده الشيعي العراقي وضع رأسي كل من طهران وواشنطن على الوسادة نفسها.