يقع إقليم كردستان في شمال العراق، ويتكون من 3 محافظات هي: دهوك وأربيل (العاصمة) والسليمانية، ويتمتع الإقليم بحكم ذاتي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، غير أن وضعه الدستوري كإقليم تضمنه الدستور العراقي المقر عام 2005 بعيد الغزو الأمريكي للبلاد.
على امتداد المدة التي أعقبت الغزو الأمريكي كان للإقليم وضع سياسي وأمني مستقر مقارنة ببقية المحافظات العراقية باعتباره كان يشكل ما يمكن وصفه بـ”بيضة القبان” في جميع المعادلات السياسية التي أفضت إلى تشكيل حكومات ما بعد عام 2003.
غير أن الوضع الاقتصادي للإقليم لم يكن مستقرًا كنظيريه السياسي والأمني، فقد مر بمراحل اقتصادية صعبة بدأت مع بداية احتلال تنظيم داعش لمساحات شاسعة من العراق، ولم تنته هذه المعضلة الاقتصادية بتحرير المناطق العراقية من سيطرة التنظيم.
استمرت معاناة الإقليم الاقتصادية حتى يومنا هذا، في ظل خلافات كبيرة داخله بين حزبيه الرئيسيين: الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتخذ من السليمانية مقرًا له، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يسيطر على محافظتي أربيل ودهوك، وسط اتهام أحزاب سياسية كردية أخرى لهذين الحزبين بأنهما يستحوذان على مقدرات الإقليم الاقتصادية والنفطية.
وما زاد الطين بلة في الأسابيع الأخيرة تفاقم الأزمة الاقتصادية للإقليم في ظل خلافات حادة مع الحكومة الاتحادية ببغداد، فضلًا عن قرارات المحكمة الاتحادية الأخيرة التي قضت بإلزام حكومة الإقليم بتوطين رواتب موظفي الإقليم العموميين في المصارف الحكومية التابعة لبغداد، بما يعني تسجيل جميع موظفي الإقليم لدى وزارة المالية الاتحادية.
يضاف إلى ذلك إلزام المحكمة الاتحادية العليا حكومة الإقليم بتسليم جميع إيراداته النفطية وغير النفطية لوزارة المالية العراقية كشرط لصرف مستحقات الإقليم ضمن الموازنة العامة للعراق.
الأسطر التالية تفتح ملف الاقتصاد في إقليم كردستان والثروات الطبيعية التي يمتلكها والواردات المالية التي يتلقاها من التجارة الخارجية والمعابر وغيرها.
مقدرات الإقليم
تقدر هيئة الإحصاء في إقليم كردستان عدد سكان الإقليم بنحو 6.5 مليون نسمة، يعيش قرابة 78% منهم في المناطق الحضرية، فيما يتوزع الباقون على المناطق الريفية للإقليم، وأكدت وزارة التخطيط العراقية في سبتمبر/أيلول 2022 أن تقديرات سكان الإقليم تقترب من 5.8 مليون نسمة بما يشكل نحو 14% من مجموع سكان العراق.
تمتع إقليم كردستان منذ عام 2003 بوفرة مالية كبيرة ناتجة عن النسبة الكبيرة التي يحوزها من الميزانية العامة للبلاد، وعلى امتداد تلك الفترة وحتى عام 2017 حاز الإقليم 17% من الموازنة العامة، وهو ما يزيد بكثير على النسبة السكانية للإقليم نسبة لمجموع سكان البلاد.
ومنذ استفتاء انفصال الإقليم في أكتوبر/تشرين الأول 2017 ونتيجة للتكاليف المرتفعة للحرب على تنظيم داعش، انخفضت حصة الإقليم من 17% إلى 12.6%، وهو ما تراه الحكومة الاتحادية أنه يتناسب طرديًا مع الكثافة السكانية للإقليم.
الثروة النفطية
تنقسم الثروة النفطية إلى حقول النفط والغاز، حيث يحظى إقليم كردستان بـ10 حقول غازية، 7 منها تقع ضمن مناطق نفوذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحدود الإدارية لمحافظة السليمانية، وهي حقول جمجمال وميران وكورمور وكوردمير وطوبخانة وبلكانة وحقل تازة، في حين تقع الحقول الأخرى ضمن مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهي حقول بنباوي وخورملة ضمن الحدود الإدارية لمحافظة أربيل، وحقل دهوك الغازي الذي يقع في محافظة دهوك.
يعد حقل ميران من أكبر حقول الغاز بالعراق، وتشير البيانات إلى أنه فيما لو استغل الغاز بهذا الحقل، فإنه سيكفي لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز لمدة 50 عامًا، في الوقت الذي تعمل في هذه الحقول العديد من الشركات الأجنبية والعربية والمحلية.
أما ما يتعلق بالثروة النفطية، هناك تناقض كبير في الأرقام فيما يتعلق بالاحتياطي النفطي للإقليم، وبحسـب بيانات وزارة الموارد الطبيعية في حكومة إقليم كردستان، يقدر احتياطي النفط غير المؤكدة بـ45 مليار برميل، بما يعادل احتياطي ليبيا البالغ 48 مليار برميل.
وقدرت وكالة الطاقة الدولية عام 2012 احتياطيات الإقليم المؤكدة بـ4 مليارات برميل، ونتيجة لتوسيع رقعة الموارد المكتشفة خلال السنوات السابقة، فإن بيانات الإقليم تقدر احتياطاته بأنها تتجاوز احتياطي النفط المؤكد لأربع من الدول الأعضاء في منظمة أوبك، مثل الإكوادور وأذربيجان ودولتين أخريين.
ومنذ أكثر من عام، توقف إقليم كردستان عن تصدير نفطه إثر كسب الحكومة العراقية دعوى للتحكيم كانت قد رفعتها أمام هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس ضد أنقرة بشأن تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي دون الرجوع إلى شركة تسويق النفط العراقية “سومو”.
نتيجة للقرار، توقف تصدير نفط كردستان البالغ 480 ألف برميل يوميًا في 25 مارس/آذار 2022، حيث كانت تمثل صادرات الإقليم النفطية نحو 0.5% من إمدادات النفط العالمية، في حين بلغت مؤشرات الضرر والخسائر المالية للإقليم أكثر من مليار دولار شهريًا، بواقع 33 مليون دولار يوميًا باحتساب معدل سعر البرميل الواحد عند 70 دولارًا، وفقًا لخبراء نفطيين.
المنافذ الحدودية
تؤكد هيئة المنافذ الحدودية في الحكومة الاتحادية أن لدى إقليم كردستان 11 منفذًا بريًا، 6 منها فقط معترف بها من بغداد، فيما لا تعترف الحكومة الاتحادية بـ5 منافذ أخرى توجد في محافظات الإقليم وترتبط مع دول الجوار لكل من سوريا وتركيا وإيران.
يحظى الإقليم بـ6 منافذ رسمية هي: منفذ أبراهيم خليل الحدودي مع تركيا ومنفذ باشماخ مع إيران ومنفذ برويزخان مع إيران ومنفذ حاجي عمران مع تركيا، إضافة إلى منفذي مطاري أربيل والسليمانية الدوليين.
فيما تعد كل من معابر منفذ كيلي في قلعة دزة ومنفذ سيرانبن في كرمك ومنفذ طويلة في شوشمي ومنفذ بشتة في ناحية بمو التابعة لمحافظة حلبجة، إضافة إلى منفذ الخابور مع سوريا غير رسمية ولا تتمتع الحكومة الاتحادية بسيطرة عليها.
ويشير الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي إلى أن واردات إقليم كردستان من المنافذ الحدودية الجمركية تعد كبيرة جدًا وتقدر في عام 2021 بنحو 522 مليون دولار أمريكي، في حين أن حكومة إقليم كردستان لم تسلم هذه المبالغ للحكومة الاتحادية، وهو ما أثار امتعاض بغداد خلال السنوات الماضية حتى صدور قرار المحكمة الاتحادية الأخير القاضي بتسليم الإقليم لجميع الواردات النفطية وغير النفطية.
وفي حديثه لـ”نون بوست” يشير العبيدي إلى أن المشكلة الاقتصادية بين بغداد وأربيل لا تتجه حتى الآن نحو الحلحلة، فالبرلمان العراقي لم يشرع حتى الآن قانون النفط والغاز ولم يفعل الكثير من القوانين ويشرع أخرى للسيطرة على الموارد المالية للبلاد، وفق قوله.
العائدات السياحية
يعد إقليم كردستان من أكثر المناطق العراقية جذبًا للسياح المحليين والأجانب بعيدًا عن السياحة الدينية التي تحظى بها محافظتا كربلاء والنجف جنوبي العراق، وتتصدر المنتجعات والمواقع السياحية للإقليم خيارات العراقيين في السياحة المحلية والاصطياف سواء في فصل الصيف شديد الحرارة في البلاد، أم خلال فصل الشتاء وما تحظى به كثير من منتجعات الإقليم من ارتفاع مناسيب الثلوج خلال شهري ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني من كل عام.
وكانت هيئة السياحة في إقليم كردستان قد كشفت عن زيادة في إيرادات القطاع السياحي، إلى جانب وصول حجم الاستثمار السياحي خلال 4 سنوات، لأكثر من 7 مليارات دولار.
قالت رئيسة الهيئة أمل جلال في يناير/ كانون الثاني 2023 إن رأس المال المُستثمر في القطاع السياحي يحتل المرتبة الأولى مقارنة بالقطاعات الأخرى وبنسبة 42%، مشيرة إلى أن المشاريع التي حصلت على الموافقة بلغت 27 مشروعًا وبمبلغ أكثر من 1.2 مليار دولار.
أما عن عدد السياح، فأكدت جلال أن عدد السياح خلال عام 2023 بلغ 7.3 مليون سائح بزيادة بلغت 20% مقارنة بعام 2022، مشيرة الى أن السياحة الداخلية ازدادت خلال العام الماضي وبلغ عدد السياح أكثر من مليوني سائح، بحسبها.
بالعودة إلى الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي، يشير إلى أن عائدات السياحة في الإقليم تعد موردًا ماليًا مهمًا ورافدًا في تحريك عجلة الاقتصاد بمختلف مدن الإقليم، لا سيما في ظل أزمة تأخر الرواتب التي تضرب بقوة في الإقليم منذ سنوات.
ويتابع العبيدي أن قرار المحكمة الاتحادية فيما يتعلق بتسليم عائدات الإقليم غير النفطية تشمل الواردات السياحية، غير أن القرار لا يزال مبهمًا فيما يتعلق بحيثية القطاع السياحي، فالسياح ينفقون أموالهم في الأسواق والمنتجعات وغيرها، ولا توجد حتى الآن آلية لاحتساب قيمة الضرائب العامة وضرائب الدخل التي يجب على الإقليم تسليمها، ولكل من حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية معايير مختلفة في استحصال الضرائب العامة وضرائب الدخل، وفق قوله.
موارد أخرى
يعد قطاع العقارات من أكثر القطاعات نشاطًا في إقليم كردستان، فالإقليم هو المنطقة الوحيدة في العراق التي لا تعاني من مشكلة في عدد الوحدات السكنية مقارنة بعدد السكان المحليين وكذلك النازحين من مناطق أخرى إلى الإقليم.
ومما يزيد من الجذب الاستثماري العقاري في الإقليم الحالة الأمنية المستتبة والبنى التحتية والقوانين التي سهلت على المستثمرين المحليين والأجانب الدخول للسوق العقاري في مختلف محافظات ومناطق الإقليم، وهو ما أكده المتحدث باسم هيئة الاستثمار في إقليم كودستان بركَشت آكريي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين أعلن عن منح 154 رخصة استثمارية خلال عام 2023 برأس مال تجاوز 4.3 مليارات دولار.
وقال بركشت آكريي إنه قد تم منح رخص استثمارية لـ50 مشروعًا في أربيل، و43 مشروعًا آخر في السليمانية و29 مشروعًا في دهوك، و3 مشاريع في حلبجة، و12 مشروعًا في كرميان، و5 مشاريع في منطقة رابرين، و4 مشاريع في سوران، و8 مشاريع في منطقة زاخو، لافتًا إلى أن معظم الرخص الاستثمارية لعام 2023 كانت في القطاع السكني، يليه القطاع التجاري، ثم الصناعي والصحي وغيره من القطاعات.
على الجانب الآخر، يستقطب إقليم كردستان العراقيين من مختلف المحافظات لشراء السيارات الجديدة والمستعملة التي تحمل لوحات الإقليم المرورية، فبسبب سهولة الإجراءات والتعاملات الرسمية، استطاعت مدن الإقليم، لا سيما أربيل والسليمانية، الوصول لمختلف المحافظات العراقية عبر المركبات التي تحمل اللوحات المرورية.
تكشف هيئة إحصاء إقليم كردستان عن دخول نحو 100 ألف مركبة جديدة للاستخدام الشخصي إلى الإقليم في عام 2022 في حين بلغت عدد المركبات التي دخلت الخدمة من فئة (النقل) لذات العام نحو 18 ألف مركبة إضافة إلى آلاف المركبات الأخرى للأجرة والأعمال الإنشائية وغيرها.
يبدأ ثمن اللوحة المرورية في الإقليم من ألف دولار للمركبات الخاصة ذات المحرك المتكون من 4 أسطوانات، فيما يرتفع المبلغ لنحو 1500 دولار لمركبات النقل، ونحو 1400 دولار لمركبات الأجرة، وتزداد قيمة اللوحة المرورية التي تزود بها مديريات المرور في أربيل كلما زاد عدد الأسطوانات إذ يتضاعف المبلغ للسيارات الكبيرة، وكذلك للمركبات الشخصية التي تعمل محركاتها بـ6 أو 8 أسطوانات.
يذكر الخبير في الشأن الاقتصادي سامي أحمد أن هناك إقبالًا كبيرًا من المحافظات العراقية على اقتناء المركبات التي تحمل اللوحات المرورية لمدن الإقليم، لا سيما من محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى بالدرجة الأولى، إضافة للعاصمة بغداد والأنبار والبصرة التي تأتي بالمرتبة الثانية ثم بقية المحافظات.
وفي حديثه لـ”نون بوست” يرى أحمد أن محافظة نينوى تعد المحافظة الأكبر في توجهها نحو المركبات التي تحمل اللوحات المرورية لمدن الإقليم، ويعزي ذلك إلى سهولة إجراءات نقل ملكية المركبات في الإقليم مقارنة بمحافظة نينوى التي تعاني من زخم شديد على مديرية المرور بسبب محدودية قدرتها وبناها التحتية، بحسبه.
بعيدًا عن إيرادات حكومة إقليم كردستان من القطاع العقاري والمرور، يتمتع إقليم كردستان بأراض زراعية خصبة، أهلته لإنتاج مختلف أنواع المحاصيل الزراعية، لا سيما الخضار والفواكه، إضافة لإنتاج محدود إلى حد ما من القمح والشعير، وفق اتحاد المستوردين والمصدرين في الإقليم.
ويؤكد الاتحاد أن الإقليم ومنذ عام 2022 بدأ خطة لتصدير الفواكه للخارج، لا سيما أصناف التفاح والعنب والرمان ذات الجودة العالية، حيث استقبلت دولة الإمارات شحنات عديدة من الفواكه المنتجة في الإقليم، دون كشفه عن حجم التصدير وعائداته.
رغم الموارد الطبيعية والإيرادات المالية الكبيرة التي يتمتع بها الإقليم، لا تزال الخلافات السياسية مع الحكومة الاتحادية تشكل عائقًا أساسيًا أمام مواطني الإقليم الذين باتوا يشكون من ضيق ذات اليد خلال السنوات الماضية بسبب الصراع السياسي بين بغداد وأربيل بانتظار حلول سياسية قد لا تكون متاحة في المدى المنظور.