بداية أحب أن أقول أنني أكتب مقالي هذا وأنا في غرفة مكيفة أحتسي فنجانًا من الشاي الدافئ اللذيذ، حتى لا يتفوه أولئك الذين كانوا سببًا في ضياعنا في كل أزماتنا، حين أرادوا ولا زالوا يريدون أن يخرسوا ألسنتنا بدعوى “لا يفتي قاعد لمجاهد”، وهي كلمة حق أريد بها باطل، فكلنا يا سيدي مجاهدون إزاء قضية حماس الأولى وهي المسجد الأقصى، فقد نشأنا في ساحاتها ننافح عنها بقدر ما نستطيع، وحركة حماس أو غيرها لا يحق لها أن تنوب عن الأمة في قضيتها الأولى، فنحن جميعًا ملاك تلك القضية وأهلها وأصحابها.
ومن هذا المنطلق أكتب كلماتي وأوجه انتقاداتي وأثير مخاوفي وأصرخ بها، متمنيًا – علم الله – أن تكون تقديراتي وتوقعاتي كلها على خطأ، وأن يكونوا – قادة حماس – على الصواب والرشد.
باختصار شديد، ماذا حدث؟
عانت حركة حماس أيما معاناة من تحملها إدارة القطاع، مليونان من المواطنين محاصرون، أربعون ألف شخص يتقاضون رواتب من خزانة فارغة، هدم أنفاق المقاومة وشريان الحياة لها، حصار دائم أرضًا وجوًا وبحرًا، ذل وقهر للغزاويين عند المعابر ولو إلى الحج أو علاج المرضى، أطفال يموتون بالمستشفيات موتًا بطيئًا لنفاد الوقود، وغير ذلك من صور المعاناة والقهر لحصار قاسٍ دام زهاء العشرة أعوام.
وبهذا فقد عجزت حركة حماس عن إدارتها للقطاع وتحملها مسؤولياته، وأصبحت سلطته وإدارته مغرمًا ثقيلاً عليها، فلجأت إلى التخلص منها بخطة تتلخص في كلمة “إحداث فراغ سياسي في غزة”، ظهرت إرهاصاته منذ شهور، وأولى خطوات ذلك الفراغ السياسي إحداث المصالحة ثم العجز عن تطبيقها وفشلها ثم إعلان حركتي حماس وفتح عدم تحمل مسؤولية القطاع ثم تدويل القضية لتتولى أمر الرواتب والمعاش أطراف إقليمية لا تُتهم حينها بوسم دعم حركة حماس أو المقاومة.
باختصار شديد أيضًا، لماذا حدث هذا؟
ما وصلنا إليه الآن – في رأيي – نتيجة طبيعية نتيجة إدارة حركة حماس للصراع منذ الربيع العربي تحديدًا وحتى الآن، من وجهة نظري فإن حماس قامت بأربعة أخطاء استراتيجية هيأت هذه النتيجة وجعلتها شيئًا حتميًا، وهذه الأربعة أخطاء هي:
1- التعامل القُطري مع القضية، في الوقت التي تردد هي نفسها فيه أن القضية قضية الأمة كلها، والتناقض الكبير بين الخطاب الإعلامي والممارسة السياسية، فحركة حماس تعلن في كل خطاباتها ومحافلها الإعلامية أن القضية الفلسطينية قضية لا تخص الحركة أو الفلسطينيين وحدهم وإنما تخص الأمة كلها، ولكن ممارستها السياسية قُطرية تحترم فيها سيادة الدول وممارستهم ولا تستعدي أحدًا وإن كانت ممارساتهم خيانة واضحة للقضية الفلسطينية وممالأة واضحة وجلية للعدو الصهيوني، فإن حركة حماس تسكت ولا تفعل أو حتى تقول شيئًا لأنها لا تريد أن تمس سيادة الدول!
لم تستغل حماس مشروعية قضيتها وقداستها وهالتها على نحو أمثل، ولم تقدم خطابًا للشعوب ثوريًا يتماشى ويشتبك مع اللحظة التاريخية، تؤجج فيه الشعوب على حكامها حين خانوا الإسلام والأقصى والعروبة، في حملات إعلامية جبارة مهولة تستهدف الشعوب دون السلطات
2- فقدان الهجوم، قال هتلر لأحد قادة جيشه حين بدأ الإنجليز الهجوم المضاد عليه: “ما دمنا نملك بولندا فلن يصلوا إلى برلين”، فكلما زادت مساحات الهجوم والاستحواذ كان مراد العدو منك أقل بكثير من أن يصيب قلبك، ويعتبر أهم أصل من أصول الحرب هو “الهجوم” ، فالذي يتخلى عن الهجوم في أي صراع بشري سيفقد لحمه الحي في النهاية، حركة حماس تخلت عن الهجوم بدعوى التركيز على إنجازاتها وما اكتسبته حتى لا تثير الخصوم، وها هي تخسر إنجازاتها التي أرادت الحفاظ عليها ولم تقلل من ضراوة خصومها عليها في الوقت نفسه. لم تكن التحركات الهجومية لتضعف حماس كما يتوهم البعض، بل كانت ستقويها وتجعل التفاوض معها مُراده أن توقف حماس تلك الأفعال الهجومية، ولم يكن التفاوض أبدًا أن تتنازل عن غزة، ولكن المُدافع دائمًا خاسر للمعركة، وأذكر مثالاً واحدًا حتى يفهم القارئ قصدي، ملف الثورة في الضفة، حركة حماس بقدرتها وإمكاناتها وحاضنتها الشعبية بالضفة والخليل تستطيع إشعال ثورة عارمة بالضفة ستؤثر وتوجع العدو الصهيوني بشكل يفوق أي تقدير، وغير ذلك من التحركات الهجومية تستطيع حركة حماس أن تدافع به عن نفسها وتجبر الجميع على خلخلة الحصار وتحسين وضعها.
3- التعامل مع الربيع العربي على أنه مجرد جولة سياسية خاسرة، وأنهم كانوا متفائلين حين راهنوا عليه كثيرًا، ولهذا فعلينا الآن أن نتجه لقبول الأمر الواقع بنظام السيسي وغيره، وأن نواكب انتصارات الثورة المضادة، لأنه لم تكن هناك ثورة في الأصل، هذا كلام يقوله سياسي يعيش يوميات صراعه ودقائقه بشكل مجرد من الفكر والبُعد التاريخي، فالذي يضيف إلى الصراع السياسي الآني البُعد التاريخي والفكري يعلم أن الربيع العربي قدر كوني لن يستطيع أحد هزيمته أو كسره، ويدرك أن المراهنة عليه رهان على حصان رابح وليس العكس.
4- لم تستغل حماس مشروعية قضيتها وقداستها وهالتها على نحو أمثل ولم تقدم خطابًا للشعوب ثوريًا يتماشى ويشتبك مع اللحظة التاريخية تؤجج فيه الشعوب على حكامها حين خانوا الإسلام والأقصى والعروبة، في حملات إعلامية جبارة مهولة تستهدف الشعوب دون السلطات، وقد قدم المجرمون في السلطة في معظم بلاد الإسلام مسوغات الهجوم عليها من تطبيع وتخاذل وخيانة علنية، ولكنها فضلت عدم الخصومة وانتهجت “فلسفة الصبر”.
حماس تملك سلاحًا وأرضًا وحاضنة شعبية وكل الإعلام العربي الشريف بقوته معها ويناصرها ويؤيدها وتملك عمقًا استراتيجيًا قويًا لدى كل الشعوب العربية والإسلامية ويرونها مشروع المقاومة الوحيد الذي يعبر عن سواد المسلمين وجوهر قضيتهم
والسؤال الآن
السؤال الآن الذي يحيرني: ماذا يفعل الفتحاويون والحكام العرب ومن ناصرهم لكي يثبتوا لنا إثباتًا لا لبس فيه أنهم العدو وأشد ضراوة علينا من الصهاينة أنفسهم، وأنهم حماة العدو وسدنته ولولاهم لما كان للصهاينة في بلادنا موضع سهم، فقد تفنن هؤلاء في الخيانة وإعلانها بكل وضوح! فلماذا لا نكون كذلك في عداوتهم أيضًا؟
ألم تتعلم حركة حماس من تجربة صبرهم على حركة فتح ما قبل 2007 وأن هذا الصبر إنما أخر مشروع المقاومة سنينًا وأعوامًا؟ ألا يذكر هؤلاء أن أجهزة الأمن الوقائي كانت تسوم المقاومين أشد العذاب؟ ألم تتعلم حماس أن دحلان والسيسي وعباس وابن زايد حقًا أسوأ ألف مرة من نتنياهو؟ ماذا تريد حماس أن يفعل هؤلاء لها وللأمة وللقضية حتى تستعديهم؟!
وترى العدو يُقسم الصراع إلى معسكرين وبينهم حد كبير من المفاصلة، وتراهم يتعاملون جميعًا بلا حدود ولا قيود ولا انتماء وطني كذلك، ولكننا نُحرّم على أنفسنا ما يحلونه لأنفسهم علنًا جهارًا!
حماس تملك سلاحًا وأرضًا وحاضنة شعبية وكل الإعلام العربي الشريف بقوته معها ويناصرها ويؤيدها وتملك عمقًا استراتيجيًا قويًا لدى كل الشعوب العربية والإسلامية ويرونها مشروع المقاومة الوحيد الذي يعبر عن سواد المسلمين وجوهر قضيتهم، وتملك أيضًا شبكة علاقات دولية مؤثرة ومهولة تمكنها من تحقيق مكاسب سياسية حقيقية، وفوق كل ذلك تملك عدالة القضية وقداستها بين وجدان الشعوب، تستطيع حركة حماس بكل هذا أن تناور أكثر وتهاجم لتدافع عن نفسها.
والسؤال الكبير الذي يحيرني أيضًا: ما التضحيات اللازمة لبذلها لكي ندرك ونفهم أن الحكم والسلطة أهم أداة في يد المقاوم، وأن كل مشروعات المقاومة والتغيير والإصلاح والدعوة والتربية دون الحكم والسلطة هباء منثور، وليس لها أدنى قيمة ما دام المستبد قابعًا على صدرك يهدم ما أنجزته في دهور بطرفة عين، هل تحلم حماس حقًا أن يأتي دحلان ورجاله وعباس ورجاله والسيسي ورجاله – ومعهم الشرعية – ويتحملون تكاليف رواتب القطاع ومعاشه ثم لا يصيبوا المقاومة من أذى؟!
حماس سترصد بصعوبة تحركات التأثير الاستخباراتية لدحلان، وإن رصدتها فإنها لن تستطيع التعامل معها لأنها فقدت شرعية السلطة والحكم إضافة إلى أنها تنتهج انتهاج الصبر وكف الأيدي
ماذا سيفعل دحلان؟
أولاً يجب أن نعرف أن دحلان رجل داهية ولديه من أدوات النفوذ الكثير، ولديه حاضنة شعبية ولو قليلة بغزة نفسها إضافة إلى المال الإماراتي والعلاقة الحميمية بالمخابرات المصرية والصهاينة، وأضف إلى هذا خبرته الأمنية والاستخباراتية، فقد كان مسؤولاً لجهاز الأمن الوقائي سنينًا، فإن شئت أن تطلق لقبًا على هذا الرجل فقل عنه: “العقل المدبر للثورة المضادة” في المنطقة كلها، من وجهة نظري فإن خطة دحلان ستكون كالتالي:
المحور الأول: الشهد للشعب الغزاوي، استمالة الشعب الغزاوي وإطعامه الشهد حتى يصير لديهم فترة حكم حماس كابوسًا مرعبًا لا يريدون تكراره أبدًا، وتكوين جهاز إداري بغزة له الولاء الحقيقي لدحلان، وهذا هو الإجهاض الحقيقي للحاضنة الشعبية التي تتمتع بها حماس بغزة.
المحور الثاني: بناء منظومة استخباراتية فعالة، وهذا أكثر ما يخيفني، سيكون دحلان شبكات ومحطات استخباراتية فعالة ومؤثرة وعلى أعلى مستوى فني وتقني وبشري – وله مقومات ذلك – تضمن له القدرة على الدراية المعلوماتية كاملة بسلاح المقاومة تمامًا بعد عام أو عامين، هنا يبدأ الهجوم الفعلي على سلاح المقاومة ولن تكون حينها إلا لحم جذور بعد الكشف الأمني والاستخباري لها. فقد ظلت غزة عصية على أعدائها بسبب تلك الميزة وهي التنقية النسبية للشعب الغزاوي من الخونة ومصادر الاستخباراتية للعدو، وهذا كان بارزًا حين تمكنت من اعتقال الذين اغتالوا فقهاءً في ثلاثة أيام وإعدامهم، ولكن بعد وجود دحلان مع خبرته وإمكاناته وظروف الشعب الغزي ومعاناتهم عشر سنين فيسهل على رجل مخابرات حاذق تجنيد وإسقاط الكثير إزاء ذلك، فهذه الميزة قد تفقدها غزة تمامًا، وربما يؤخر الأمر أو يفشله وجود جهاز الاستخبارات المضاد الفعال لحماس بالداخل، ربما وأتمنى ذلك، ولكن إمكانات دحلان أكبر بكثير من ذلك، ووجود الشرعية معه ومع عباس سيجعل عملية تعطيل عمل المصادر الاستخباراتية أمرًا يستحيل التمكن منه، أي باختصار فإن حماس سترصد بصعوبة تحركات التأثيرات الاستخباراتية لدحلان، وإن رصدتها فإنها لن تستطيع التعامل معها لأنها فقدت شرعية السلطة والحكم إضافة إلى أنها تنتهج انتهاج الصبر وكف الأيدي.
المحور الثالث: الهجوم الإعلامي على حماس ووضعهم في موطن المدافع والمتهم دائمًا بإفشال المصالحة، ورمي عظمة “نزع سلاح المقاومة” لعباس يتراشق بها إعلاميًا مع قادة حماس وإلهاء الجميع في معارك إعلامية طاحنة.
المحور الرابع: المرحلة الأخيرة “الإجهاز” حينها سيتصدر أن حركة حماس تسعى لإفشال المصالحة، ولا أمل في التعامل معها، وغير ذلك من رسائل التشويه والهجوم والاتهام، وتبدأ الحرب، ولكنها ستكون تلك المرة غير سابقتها مع فقدان حماس حاضنتها الشعبية والدراية الاستخباراتية التي تحققت للعدو.
وحينها ستكون كتائب القسام كثعلب في جحر بعدما أُفقدت الحاضنة الشعبية بالمال والذهب، وبعدما نشر دحلان مصادره الاستخباراتية المدربة بكل متر بغزة، من لم يفهم ذلك ولا يراه فيستحق كسر الرقبة لا غيره!
والآن ماذا على حماس فعله؟
لو أن لي نصيحة لهم، فإنني أنصحهم بالتالي:
1- لا يمكن أن تترك حركة حماس الحقب الوزارية الأمنية – الشرطة والأمن الوقائي وأمن الحدود – في تشكيل الحكومة القادم، فإن هذا سيكون انتحارًا حقيقيًا لسلاح المقاومة إن كان على رأسها دحلان ورجاله.
2- التعامل العقلاني مع المصالحة أنها ستفشل، فعلى حماس من الآن تجهيز خطط هجومية جريئة ليس بها خطوط حمراء، للوصول لأعلى درجة من الجاهزية الهجومية حين تفشل المصالحة – وستفشل لا محالة -، وحينها ستكون حركة حماس قد فازت بالوقت وصارت الجولة لها لا عليها.
3- لا يُترك ملف سيناء أبدًا لدحلان، ويجب أن تكون حركة حماس صاحبة اليد العليا فيه، فسيناء عمق استراتيجي لغزة، والحضور الداعشي فيها قد يمتد إلى غزة أو يطرد إليها بالجملة إن شئت الدقة، وهذا سيضغط كثيرًا على الاستتباب الأمني لحماس بالقطاع والتمكن منه، إضافة إلى أن دحلان سيستفيد بسيناء استفادات استراتيجية يجب أن يتجرد منها ولا يتمكن منها لأنها عنصر قوة حيوي، لا سيما مع ضعف الأمن القومي المصري في سيناء، والتطبيع الأمني المصري الصهيوني.
4- الحفاظ على الحاضنة الشعبية لديها وتقويتها في الداخل وعمل برامج تعزز من ولائهم الكبير لحماس ومشروعها.
5- تقوية ودعم أجهزة الاستخبارات المضادة الخاصة بالحركة بالداخل لتكون على أعلى مستوى من الكفاءة لإجهاض خطط دحلان الاستخباراتية.
6- استغلال حالة الخصومة بين دحلان وعباس، وعدم تمكين أحدهما بالإجهاز على الآخر، والدفع بهما إلى التراشق الإعلامي الذي يجعل الموقف السياسي الحمساوي رصينًا بعض الشيء حين تنتهي شهور العسل الأولى.
7- عدم وضع الأمان للنظام المصري بتاتًا أو الإقامة بالقاهرة لأي من عناصر حماس.
8- استثمار الهدنة واستثمار حرية التنقل وتقوية سلاح المقاومة نوعيًا.
9- التوجه للشعوب وتجاوز الأنظمة والإيمان بالربيع العربي والاعتقاد فيه، وبدء حملات إعلامية كبيرة تستهدف بها كل شعوب المنطقة بلا استثناء لترويج القضية والحركة، وتأهيل الرأي العام العربي والإسلامي لتلقي رسائل التأجيج الهجومية على حكامه حين يبدأ الهجوم الإعلامي.
وأخيرًا كما قلت، فإنني أتمنى أن أكون مخطئًا في تقديري، وأسأل الله لحماس وكل المجاهدين التوفيق والسداد.