في الوقت الذي تدعم فيه دول أوروبا استفتاءات الانفصال التي تكون خارج دول القارة وحتى داخلها عندما تكون متيقنة تمام اليقين بخسارة داعمي الانفصال مثلما حدث في إسكتلندا سنة 2014، تجنّد دول القارة العجوز جميع إمكاناتها وإن كان ذلك بطريقة غير بارزة للعيان، لمنع تفعيل استفتاء إقليم كتالونيا الغنيّ رفضًا لانفصاله عن إسبانيا، فما أسباب ذلك؟
خشية أوروبية
ليس إقليم كتالونيا فحسب من يروم الانفصال أو الاستقلال عن الدولة التي ينتمي إليها، بل إنه فقط إقليم واحد من مجموعة مناطق وأقاليم لديها طموح مماثل في دول القارة الأوروبية، مما جعل أوروبا تحبس أنفاسها وهي تترقب ما يجري في إسبانيا بحذر يدفعها إلى الزهد في البلاغات والتصريحات.
فما يجري في إقليم كتالونيا الواقع شمال شرق إسبانيا، لا يهم الحكومة المركزية في ذلك البلد فقط، بل يهم جميع دول القارة التي يهدّدها خطر الانفصالات، فما يشعر به الكتلان من خصوصية ثقافية مستقلة عن باقي مناطق البلاد، وما يحسّون به من مرارة وهم يقدمون خيرة ما لديهم للحكومة المركزية دون أن يستفيدوا منها (المواد الأولية التي يملكونها وعائدات السياحة وقطاع الخدمات تعود بالنفع على الحكومة المركزية للدولة)، يشعر به ويحسّ به، سكان أقاليم عدّة في أوروبا، ترمي الانفصال والاستقلال هي الأخرى.
قرب إعلان انفصال كتالونيا عن إسبانيا سيفتح الأبواب لحركات انفصالية أخرى تسعى منذ وقت بعيد للاستقلال في أوروبا
وكانت حكومة إقليم كتالونيا الذي يسكنه نحو 7.5 مليون شخص (يتمتع الإقليم حاليًا بحكم ذاتي موسع من حكومة مدريد بما في ذلك السيطرة على السياسات الخاصة بها، والتعليم، والعناية الصحية)، قد أعلنت أن قرابة 90% صوتوا لصالح الاستقلال الذي تم في الأول من الشهر الحاليّ، وقرابة 2.26 مليون شخص أدلوا بأصواتهم، أي أقل بقليل من 42% من سكان الإقليم، الأمر الذي ترفضه حكومة مدريد التي قررت تفعيل المادة 155 من الدستور، التي تمكنها من فرض الحكم المباشر على كتالونيا في حالة اندلاع أزمة بين الحكومة المركزية في مدريد والحكومة المحلية وبالتالي إلغاء الحكم الذاتي الموسع الذي يتمتع به الإقليم حاليًا.
ما تخشاه دول أوروبا وحكوماتها المركزية من هذا الاستفتاء الذي ستكون ارتداداته ملموسة الأثر على خطوط الصدع الكامنة تحت السطح في مناطق عدّة داخلها، كثير، فهي تخشى أن تشقّ بادرة الكتالونيين مسارًا جديدًا يعيد رسم خرائطها، فهذه البادرة لا تقف عند حدود إقليم كتالونيا بل تمتد إلى فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
فقرب إعلان انفصال كتالونيا عن إسبانيا سيفتح الأبواب لحركات انفصالية أخرى تسعى منذ وقت بعيد للاستقلال في أوروبا، حيث تظهر من حين إلى آخر مناطق أوروبية تطالب بهذا بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة، ويستخدم دعاة الانفصال عن الدولة ما أقره ميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بـ”حق الشعوب في تقرير مصيرها”، وتُعرف الحركات الانفصالية على أنها سياسية شعبية للمطالبة بالانفصال والاستقلال عن دولة أو كيان ما، من أجل تكوين كيان أو دولة قومية أو دينية أو عرقية، نتيجة الإحساس بالتهميش والإهمال من طرف الجزء أو القومية التي تسيطر على تلك الدولة.
أقاليم إيطالية على الخط
لا شك أن لندن وباريس وروما وعواصم أخرى، يتابعون ما يجري في إسبانيا عن كثب كأن الأمر في بلادهم، فنجاح هذا المسار الانفصالي قد يُنعش حالات شبيهة داخل بلدانهم، وهو ما حدث بالفعل في إيطاليا، الأحد الماضي، فقد شهد إقليما لومبارديا والبندقية (المعروف باسم فينيتو)، وكلاهما تحت إدارة حزب رابطة الشمال، إجراء استفتاء من أجل الانفصال، رغبة في الحكم الذاتي.
وكشفت النتائج الأولية، أن إقليمي لومبارديا وفينيتو الغنيَّين في شمال إيطاليا صوَّتا، بأغلبية ساحقة، لصالح مزيد من الحكم الذاتي، وصوَّت بالموافقة على الحكم الذاتي، ما يربو على 90% من ملايين المشاركين في التصويت بالإقليمين الخاضعين لإدارة حزب الرابطة الشمالي، ويمثل الإقليمان ثلث الاقتصاد الإيطالي.
تسعى أقاليم إيطاليا للاستقلال عن روما
وتطالب بالاستفتاء في الإقليمين الإيطاليين، الرابطة الشمالية المناهضة للمهاجرين الإقليميين، وهي رابطة طالما احتجت على جمع الضرائب من شمال إيطاليا، وذلك لدعم المناطق الجنوبية ذات الدخول الضعيفة، وتمثل الضرائب التي يدفعها سكان إقليمي لومبارديا والبندقية قرابة الـ30% من الناتج المحلي لإيطاليا، ويطمح الإقليمان من خلال الاستفتاء الى استعادة نحو نصف رصيد الضرائب الراهن، فهناك فارق بين ما يدفعه السكان من ضرائب ورسوم وما يتلقونه من نفقات عامة، حيث يقولون إن هذا الرصيد بلغ 45 مليار يورو للومبارديا، و15.5 مليار يورو للبندقية، في مقابل 8 مليارات لكتالونيا.
وتعتبر نتيجة الاستفتاءين غير ملزمة قانونيًا، لكن تسمح لرئاستي المقاطعتين بالطلب من الحكومة المركزية في روما، الدخول في مفاوضات للحصول على المزيد من الصلاحيات في المسائل التي طالب بها الاستفتاء وأخرى مثل الإشراف على المالية العامة والعمل والطاقة والبنية التحتية والحماية المدنية، ويطالب سكان الإقليميين الراغبون في تفعيل الاستفتاء الحكومة الإيطالية بتفعيل المادة 116 من الدستور، التي تتيح للأقاليم المتمتعة بميزانية ثابتة ومستقرة بالإضافة إلى مطالبة الحكومة، بمنحها مزيد من السلطات ودرجات أعلى للحكم الذاتي.
ويبلغ عدد سكان مقاطعة فينيتو، وعاصمتها البندقية، 4 ملايين و903 آلاف نسمة، في حين يبلغ عدد سكان لومبارديا وعاصمتها ميلانو، الحاضرة الاقتصادية الأولى لإيطاليا، 10 ملايين و12 ألف نسمة، lما يشير إلى عدد الراغبين في الحكم الذاتي يبلغ ربع سكان إيطاليا حيث يسكن البلاد 60.2 مليون نسمة وهي سادس دولة من حيث عدد السكان في أوروبا، وتحل في المرتبة الـ23 بين الدول الأكثر سكانًا في العالم.
يتحدث 70% من الذين يعيشون في جنوب تيرول اللغة الألمانية
حمى الانفصال في إيطاليا لا تتوقف عند هذين الإقليمين فقط، بل تتعداهما وتصل إلى جنوب البلاد، حيث تلعب العوامل الاقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية جميعها، دافعًا من أجل الانفصال عن إيطاليا إلى جانب منطقة “تيرول” التي كانت تنتمي إلى النمسا والمجر قبل الحرب العالمية الأولى، لكنها أصبحت جزءًا من إيطاليا، في نهاية الصراع على الهيمنة على هذه المنطقة المهمة.
ويتحدث 70% من الذين يعيشون في جنوب تيرول اللغة الألمانية. ويطالب سكان هذا الإقليم بالاستقلال عن إيطاليا منذ استعمارها، إلا أن الحزب المحلي فشل في التحول إلى حركة سياسية قوية يمكنها أن تأخذ خطوة مثل إجراء استفتاء، واكتسبت المنطقة المزيد من الأهمية وذلك بسبب العائدات الاقتصادية الجيدة، خاصة بعد تراكم الديون على إيطاليا.
استفتاء ثانٍ في إسكتلندا
يبدو أن الاستفتاء الذي أجراه إقليم كتالونيا الإسباني الشهر الماضي، فتح الشهية أمام الحركات الانفصالية في الدول التي تشكل المملكة المتحدة (إنجلترا وأيرلندا الشمالية وإسكتلندا وويلز)، خاصة أنه تزامن مع قرار المملكة المتحدة مغادرة الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، ومن المنتظر أن تكتسب الحركة الانفصالية في إسكتلندا (جزء من المملكة) زخمًا بعد التطورات الأخيرة في إقليم كتالونيا.
ورغم أن الإسكتلنديين ظلوا يسعون جاهدين من أجل المزيد من الحكم الذاتي منذ فترة طويلة، ففي الفترة الأخيرة يطالب الحزب الوطني الإسكتلندي بالحكم الذاتي الكامل، فلديهم بالفعل برلمان خاص بهم، وفي مارس الماضي، صوَّت البرلمان الإسكتلندي، لصالح طلب إجراء استفتاء للاستقلال عن المملكة المتحدة، وحدَّد موعد إجراء الاستفتاء في خريف عام 2018.
فشل الاستفتاء الأول في منح الإسكتلنديين استقلالهم عن بريطانيا
وفي عام 2014، وافقت لندن على تنظيم استفتاء مستقل من أجل تحديد مصير الاتحاد، حيث صوت غالبية الإسكتلنديين ضد الانفصال، إلا أن نتائج البريكست البريطاني عام 2016، وما تبعه من مطالبة بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أثار النزاع مجددًا بين إسكتلندا الراغبة بالبقاء في الاتحاد الأوروبي وبقية المناطق البريطانية الراغبة بالانفصال، فهناك توجه في الإقليم لإجراء استفتاء ثانٍ لتحديد مصير الروابط المستقبلية، وهو ما ترفضه حكومة تيريزا ماي.
إقليم الباسك
داخل إقليم كتالونيا نفسه، هناك حركات انفصالية أصغر، حيث يتطلع العديد من الكتالونيين إلى استقلال منطقة الباسك الموجودة في الإقليم الإسباني، ويؤكد هؤلاء أن الحكومة المركزية في مدريد تجمع ضرائب من مختلف المناطق الإسبانية وتوزعها على المناطق الإسبانية الأخرى، باستثناء إقليم الباسك، الذي يتمتع بمجلس نيابي خاص به وتتكفل مؤسساته المحلية بتحصيل الضرائب الأساسية، ويحظى بدرجة عالية من الاستقلالية الذاتيةِ تسمح له بالحكم والإدارة المباشرين في عدد من المجالات كالمالية والسكن والبيئة والتعليم والصحة والأمن العام.
تبلغ نسبة البطالة في إقليم الباسك 16%، ويصل الدخل الفردي إلى 31 ألف يورو
ويعتبر حزب اليسار الوطنى الباسكي، الذي أسسه مطالبون بانفصال الباسك، ومؤيدون لحركة إيتا الانفصالية التي أعلنت في سنة 2011 تعهدها بالتخلي عن العنف، ثاني أكبر حزب في الإقليم، ويبلغ عدد سكان الإقليم 2.5 مليون نسمة، فيما تبلغ نسبة البطالة فيه 16%، ويصل الدخل الفردى إلى 31 ألف يورو.
فرنسا تخشى أن تصلها الحمى
فرنسا هي الأخرى تخشى أن تنتقل حمى الاستفتاءات إلى بعض أقاليمها، خاصة الجزيرة المتوسطية “كورسيكا”، التي تتميّز بوضع خاص، حيث تعتبر الوحيدة في فرنسا من خارج أقاليم ما وراء البحار التي تحظى بمزيد من السلطات بعيدًا عن السلطات الفرنسية، وتقع جزيرة كورسيكا غربي إيطاليا، وشمال جزيرة سردينيا بنحو 14 كيلومترًا، بين جنوب شرقي فرنسا وشمال غربي إيطاليا، وهي الرابعة من حيث المساحة في المتوسط، يعتمد اقتصاد الجزيرة بشكل عام على السياحة، ويبلغ عدد السكان 249.700 نسمة، وتشكل الجزيرة قسمين (إقليمين إداريين رئيسين) في فرنسا، وهي مسقط رأس ناپليون الأول.
تعتمد كوستاريكا على الجانب السياحي
ورغم المحاولات المتكرّرة من الحكومة المركزية في فرنسا التخلص من اللغة الكورسيكية في المدارس والحياة العامة في الجزيرة، فقد فشلت في ذلك، مما يمكن أن يؤدّي إلى مطالب باستقلال الجزيرة وانفصالها عن باريس، كما تخشى السلطات الفرنسية من مطالبة أقاليم فرنسية أخرى مثل بريتانى أو الإلزاس بالانفصال، وهو ما تعتبره خطرًا على وحدة البلاد.
عاصمة الاتحاد الأوروبي
ما حدث في إسبانيا، لا يعدو أن يكون مجرد تمهيد لما يمكن أن يطرأ في بلجيكا خلال الأشهر القادمة، حيث قد يبادر القوميون بإثارة قضية الحق في تقرير مصير الجزيرة الفرنسية، وعلى الرغم من أن بلجيكا ليست مثل إسبانيا، فإن الوضعيتين في كلا الدولتين تتشابه إلى حد ما، ويرى مراقبون إمكانية أن ينعش استفتاء كتالونيا، هدف الشعب الفلاماني (القريب إلى الهولندية) المطالب بالاستقلال، وإذا تم الانفصال فإن بلجيكا المؤلفة من الإقليم الفلامنكي وإقليم والونيا وإقليم بروكسل، ستفقد أكثر من نصف سكانها، وستكون القضية الرئيسية ماهية وضع العاصمة بروكسل، والتي هي مقر الاتحاد الأوروبي ومقر الناتو.
الديمقراطية الأوروبية على المحكّ
خطر انفصال بعض أقاليمها عن الحكومات المركزية التابعة لها، ليس فقط ما يقلق دول أوروبا من أزمة إقليم كتالونيا، فما يقلقها أيضًا انكشاف زيف ديمقراطيتها التي طالما تغنت بها، فصور ضباط الشرطة الذين يرتدون زي أشبه “بروبوكوب” أسود وخوذات “دارث فيدر”، يمنعون العديد من الأشخاص العاديين من التصويت، ويضربون المواطنين بالهراوات وإطلاق الرصاص المطاطي عليهم، مما أدى إلى إصابة الكثير من المحتجين بجروح، لم تثر اهتمام الأوروبيين.
البرلمان الأوروبي
وعادة ما كان الاتحاد الأوروبي يدين هذا النوع من أعمال العنف ويطالب بمعاقبة مرتكبيها، ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة هذه المرة، نظرًا لأن المسألة تتعلق ببلد ينتمي له (إسبانيا).
في واقع الأمر، وضعت القضية بشأن استقلال كتالونيا الاتحاد الأوروبي وأعضاءه في موقف حرج، فلطالما دافع الاتحاد الأوروبي عن الحقوق الديمقراطية الأساسية، على غرار حرية التعبير والتجمع الحر والتصويت. وفي الوقت الذي كان عليه إدانة تصرفات الحكومة المركزية الإسبانية وأعمالها العدائية تجاه المتظاهرين، خيّرت دول الاتحاد الأوروبي التحذير من مغبة تشجيع القوى الانفصالية التي تهدد الكثير من البلدان، فضلاً عن الاتحاد في حد ذاته.