لقد صوَّت برلمان كيبيك على قانون أسماه قانون “حيادية الدولة الدينية وتطويق طلبات الاستثناءات لأسباب دينية”، ولكن رغم عنوان حيادية الدولة الذي اختاره المشرعون لهذا القانون فإن نصه لا يترك أدنى مجال للشك بأن المقصود منه المسلمات المنتقبات في كيبيك اللواتي لا يزيد عددهن على 50 امرأة، حسب نص هذا القانون على كل من يقدم خدمات باسم المؤسسات الحكومية بما فيها البلديات، أو يتلقى الخدمات من هذه المؤسسات أن يقوم بذلك بوجه مكشوف. من الواضح أن تطبيق هذا القانون سيمنع أي منتقبة من الحصول على وظيفة في المؤسسات الحكومية أو البلدية، وسيحرم أي منتقبة أيضًا من حقها في الحصول على الخدمات الحكومية، فلن يكون بإمكانها على سبيل المثال استعمال وسائل النقل البلدية أو الذهاب إلى المستشفى الحكومي أو المكتبة البلدية.
كثير من المسلمين في كيبيك وكندا يتوجسون خيفة من هذا القانون ويخشون أن يكون خطوة تتبعها خطوات للتضييق عليهم وسلبهم حقوقهم الدينية التي تضمنها القوانين المتبعة حاليًا في كيبيك وكندا، كما أن هذا القانون قوبل بموجة عارمة من الرفض والتنديد من أوساط سياسية وإعلامية عديدة في كندا ابتداءً من الحكومة الاتحادية التي يترأسها السيد جوستان ترودو.
أمام تخوف المسلمين من العواقب التي قد يخلفها هذا القانون وأمام الموجة العارمة من التنديد التي قوبل بها، لا بد للمراقب المحايد من طرح السؤال التالي: هل هنالك مشكلة حقيقية تفرض على البرلمان التحرك لإيجاد الحلول اللازمة؟ وهل هذا القانون يوفر هذه الحلول؟ وسنجيب في هذا المقال عن هذا السؤال من نواحٍ خمسة: الناحية الشرعية، الناحية الاجتماعية، الناحية السياسية، الناحية الحقوقية، وأخيرًا الناحية الإنسانية.
المجتمع الكيبيكي أسير تجربته التاريخية، فلقد عاش هذا المجتمع منذ وصول الأوروبيين لهذه القارة حتى الستينيات من القرن الماضي تحت وطأة تحكم الكنيسة الكاثوليكية
الناحية الشرعية: ليس هناك إجماع بين علماء الإسلام على فرضية النقاب، فمنهم من يقول إنه واجب ومنهم من يقول مستحب ومنهم من يجعله عبادة ومنهم من يعتبره عادة وعلماء الوسطية ينظرون إليه بلا تقديس ولا تبخيس، والاختلاف فيه واسع، وقد لخص الموضوع الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي – رحمة الله عليه – عندما سئل عن النقاب فأجاب: “لا مفروض ولا مرفوض”. لذا فإننا نرى أن المسألة مسألة قناعة شخصية أكثر مما هي مسألة شرعية، فالمرأة التي تقتنع أن عليها ارتداء النقاب وستحاسب يوم القيامة إن لم تتنقب، فلها الحق بارتداء النقاب ولا يحق لأحد أن يجبرها على نزعه حتى لو كان نائبًا أو وزيرًا أو رئيس وزراء، والمرأة التي تملي عليها قناعتها أن القناع ليس فريضة فلا يحق لأحد أن يفرضه عليها حتى لو كان أباها أو أخاها أو زوجها. يظهر مما تقدم أن النقاش عن مسألة النقاب، خاصة في الساحة الكندية أو الكيبيكية، سيكون نقاشًا عقيمًا إذا حصر في الناحية الشرعية ومن الأفضل للمسلمين العمل مع محيطهم المجتمعي والوطني لإيجاد حل للمسألة من النواحي السياسية أو الحقوقية أو الإنسانية كما سيلي بدلاً من التركيز على الناحية الشرعية.
الناحية الاجتماعية: ككل التجمعات البشرية، المجتمع الكيبيكي أسير تجربته التاريخية، فلقد عاش هذا المجتمع منذ وصول الأوروبيين لهذه القارة حتى الستينيات من القرن الماضي تحت وطأة تحكم الكنيسة الكاثوليكية، وشهد هذا التاريخ تجاوزات عديدة عانى منها أبناء هذا المجتمع ولم يمْحُ مرور السنين آثار هذه المعاناة من ذاكرة الكيبيكيين الوطنية. ففي بداية ستينيات القرن الماضي تحرر الكيبيكيون من الكنيسة الكاثوليكية على إثر ما يعرف تاريخيًا باسم الثورة الهادئة، معاناة الكيبيكيين من تجاوزات كنيستهم وتمردهم عليها ولَّد عندهم نفورًا من الأديان بشكل عام ولهذا فإنهم ينفرون من منظر حجاب المرأة المسلمة لأن هذا الحجاب يذكرهم بماضيهم الذي لا يريدون العودة إليه، وإذا كانوا ينفرون من الحجاب فهم من النقاب أشد نفورًا، والعديدون منهم يرون في الحجاب والنقاب مظهرًا من مظاهر اضطهاد المرأة.
الناحية السياسية: الكيبيكيون يناضلون منذ قرون للحفاظ على خصوصيتهم الثقافية وهويتهم الوطنية، منهم من يحاول الحفاظ على هذه الهوية داخل الاتحاد الكندي ومنهم من يرى أنه لا بد من الخروج من كندا للحفاظ على هذه الهوية. في الوقت الذي يناضل فيه أبناء الأكثرية في كيبيك للحفاظ على هويتهم فإن أبناء الأقليات العرقية والدينية في كيبيك، ومن بينهم المسلمون، يناضلون أيضًا للحفاظ على هوياتهم الثقافية والدينية، فيأتي أصحاب الميول اليمينية المتطرفة والتيارات القومية المغالية فيضخمون تمسك الأقليات بثقافاتهم ويصورونه على أنه رفض لثقافة المجتمع المضيف ويشكل خطرًا على مستقبل هذا المجتمع، وهكذا يتم تعبئة الرأي العام ضد الأقليات، ويشكل المسلمون الهدف الأكبر لهذه التعبئة نتيجة لنفور الكيبكيين من الدين وتخوفهم منه.
التجييش ضد الأقليات بشكل عام والمسلمين بشكل خاص لم يتوقف ولم يكن الاعتداء على مسجد مدينة كيبيك الكبير الذي أودى بحياة 6 من المصلين وخلف 17 يتيمًا إلا مظهرًا من مظاهر هذا التجييش
جو التعبئة هذا فرض نفسه في السنوات الأخيرة على الساحة السياسية في كيبيك، ففي عام 2007 شكل البرلمان الكيبيكي لجنة عرفت باسم “بوشار – تايلور” لدراسة كيفية التعامل مع خصوصيات الأقليات والتمييز بين المطالب المعقولة وغير المعقولة، وأصدرت اللجنة توصياتها عام 2008 ولكن بقيت هذه التوصيات حبرًا على ورق بسبب التجاذبات السياسية، فمن السياسيين من رأى أنها تذهب بعيدًا في مساعدة الأقليات في الحفاظ على خصوصياتها وهذا ما يشكل خطرًا على هوية الأكثرية، ومنهم من رأى أنها لا تذهب إلى ما فيه الكفاية وهذا ما يشكل تضييقًا على الأقليات وانتقاصًا من حقوقها.
نتيجة لعدم تطبيق توصيات لجنة “بوشار – تايلور” أصدرت حكومة كيبيك عام 2013، وكان الحزب الكيبيكي في السلطة وقتذاك، شرعة القيم الكيبيكية التي لو كتب لها النجاح لخسرت الأقليات – خاصة الأقلية المسلمة – الكثير من حقوقها، ولكن الحزب الكيبيكي خسر الانتخابات في العام التالي نتيجة لتحول هذه الانتخابات لاستفتاء عن شرعة القيم الكيبيكية التي رفضتها شريحة كبرى من المواطنين وأدى هذا الرفض إلى تشكيل جبهة عريضة أسقطت حكومة الحزب الكيبيكي.
ولكن التجييش ضد الأقليات بشكل عام والمسلمين بشكل خاص لم يتوقف ولم يكن الاعتداء على مسجد مدينة كيبيك الكبير الذي أودى بحياة 6 من المصلين وخلف 17 يتيمًا إلا مظهرًا من مظاهر هذا التجييش، وجاءت الانتخابات النيابية الفرعية في دائرة لوي – هابار في كيبيك مطلع هذا الشهر لتشكل صفعة للحزب الليبرالي الحاكم والمعروف تاريخيًا بأنه أكثر انفتاحًا على الأقليات وأكثر تفهمًا لاهتماماتها من الأحزاب الأخرى. تلقى الحزب الحاكم الصفعة والانتخابات النيابية العامة العام القادم على الأبواب، فأراد أن يغير سياساته ليتقرب من الأكثرية حتى لا يخسر أصواتها ولو كان هذا التقرب على حساب حقوق الضعفاء من الأقليات فكان هذا القانون الذي يستهدف نحو 50 مسلمة منتقبة، ولكن هل سيكون هذا القانون كافيًا لتحصين موقف الحزب الحاكم ومساعدته على كسب الانتخابات القادمة؟ الأمر مشكوك فيه ولكن من غير المستبعد أن تتحول الانتخابات القادمة إلى استفتاء بشأن مسألة النقاب كما حصل في الانتخابات الاتحادية الأخيرة، حيث خسر الحزب الديمقراطي الجديد الانتخابات بسبب موقفه المؤيد لحرية المنتقبات بارتداء النقاب، وهكذا مرة بعد مرة، تتحول الانتخابات في هذا البلد إلى استفتاء بشأن مسألة جانبية كمسألة النقاب ويحرم الناخبون من حقهم في اختيار الحزب الذي يرون أنه الأجدر على قيادة البلد والاهتمام بشؤون الاقتصاد والتربية والصحة والمواصلات والبيئة وغير ذلك من الأمور الحيوية بالنسبة للمجتمع.
الناحية الحقوقية: يجمع الخبراء على أن هذا القانون غير دستوري لأنه يتعارض مع شرعة الحقوق الكيبيكية وشرعة الحقوق الكندية، وبالتالي فمن المتوقع أن يتم الاعتراض عليه أمام المحاكم وهذا ما سيكلف المتضررات من المنتقبات الجهد والمال للدفاع عن حقوقهن أمام المحاكم وستضطر الحكومة أيضًا لدفع الأموال الطائلة للدفاع عن قانون غير إنساني وغير عادل وغير عملي بدل أن تصرف هذه الأموال على مشاريع يستفيد منها المواطنون.
يبدو مما تقدم أن الهدف من هذا القانون انتخابي بامتياز وأنه غير محايد كما يوحي عنوانه وغير عملي وغير عادل، ومخالف لشرعة الحقوق الكيبيكية والكندية، ولن يصمد أمام المحاكم، ولكنه سينجح في اختطاف الانتخابات النيابية القادمة وتحويلها إلى استفتاء عن النقاب
الناحية الإنسانية: كما ذُكِر في المقدمة ستحرم المسلمة المنتقبة من الاستفادة من الخدمات الحكومية بما فيها البلدية كاستعمال وسائط النقل العامة أو الطبابة في مستشفى حكومي أو استعارة كتب من مكتبة عامة أو غير ذلك من الخدمات. السؤال الذي يفرض نفسه: كيف سيكون تصرف الطبيب إذا حضرت أمامه منتقبة تحتاج للعلاج أو لعلاج أطفالها ورفضت نزع نقابها، هل سيطردها الطبيب من مكتبه أم يطلب تدخل الشرطة لنزع نقابها بالقوة؟ وما الذي سيحصل إذا حضر أحد موظفي البلدية للكشف على منزل مواطن مسلم ورأى أنَّ زوجة هذا المسلم او أمه منتقبة، هل سيجبرها هذا الموظف على نزع نقابها خلال وجوده في المنزل؟ وما الذي سيحصل إذا أرادت سيدة منتقبة ركوب الحافلة ومعها أطفالها ودرجة الحرارة في الشارع تحت الصفر؟ هل سيطردهم السائق من الحافلة ويرميهم على الرصيف تحت الثلج؟ أسئلة كهذه دفعت رئيس بلدية مونتريال، وهي أكبر المدن في كيبك، ورئيس اتحاد بلديات كيبيك للاحتجاج على القانون لأنهما لا يريدان أن يتحول الموظفون في البلديات إلى شرطة نقاب.
وأخيرًا يبدو مما تقدم أن الهدف من هذا القانون انتخابي بامتياز وأنه غير محايد كما يوحي عنوانه وغير عملي وغير عادل، ومخالف لشرعة الحقوق الكيبيكية والكندية، ولن يصمد أمام المحاكم، ولكنه سينجح في اختطاف الانتخابات النيابية القادمة وتحويلها إلى استفتاء عن النقاب وهذا ما سيسبب الشرخ في المجتمع وسيسلب المواطنيبن مسلمين وغير مسلمين من حقهم في اختيار قيادة حكيمة تسهر على مصلحة المواطن وتعمل على ازدهار المجتمع، ولكن هذا لا يعفي المسلمين من واجب فهم واقع المجتمع الكيبيكي وسبب نفور الكيبيكيين من الدين وواجب الشرح لهؤلاء الكيبيكيين أن المسلم يتعبد ربه كما أمره ولكنه لا يحاول فرض دينه على أحد فلا إكراه في الدين.