بين اغتيال صحافية وثائق بنما واغتيال بايزيد

daphnenoon

هناك في البلد التي تُدعى “مالطا” وفي الـ16من شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2017 وقد قاربت الساعة الثالثة مساءً، يدوي صوت انفجار لسيارة “بيجو 108″، وتناثرت أشلاء الصحافية الاستقصائية “دافني غاليزيا” التي كانت تقود السيارة باتجاه منزلها.

“لا يمكن أن أنسى كيف كنت أركض حول النيران المشتعلة، لا يزال بوق السيارة مدويًا ورجلا شرطة يصرخان وخرطوم إطفاء حريق واحد، حدقا بي وقال أحدهم: “آسف، لا يوجد هناك ما يمكننا فعله”، نظرتُ إلى الأسفل حيث أشلاء جسد أمي متناثرة حولي فأدركتُ أنهم كانوا محقين كان أمرًا ميؤوسًا منه، سألاني: “مَنْ في السيارة؟”، “إنها أمي التي في السيارة، وهي ميتة، هي ميتة بسبب عجزكم”، نعم العجز والتقصير اللذان منعا عدم حصول هذا”.

كان هذا جزء من منشور الصحافي “ماثيو غاليزيا” أحد العاملين في الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ونجل الصحافية “دافني”، على الفيسبوك عقب اغتيال والدته التي قضت 30 عامًا تحارب الفساد كصحافية، اُستهدفت دافني أكثر من مرة لقلمها الأدق من حد السيف، ففي عام 1996 تم إحراق باب منزلها وقُتل كلب العائلة ومُدد على عتبة المنزل كرسالة تهديد يبدو أنها لم تصل لمسامع دافني، بعدها بعام تم إحراق سيارة جيرانها فيما اُعتبر استهداف خاطئ، وفي عام 2006 أكوام من الإطارات المحترقة بالبنزين على باب منزل عائلة دافني ليلًا أدت إلى حريق تم استدراكه قبل أن يشب في المنزل، تهديدات شبه يومية كانت تصل دافني سواء بالمكالمات الهاتفية أو الرسائل البريدية أو النصية أو الملصقات على باب منزلها وكذلك بالتعليقات على مدونتها الإلكترونية الشهيرة بتعقب قضايا الفساد.

اعتبرت الصحيفة الأمريكية “بوليتيكو” الصحافية دافني واحدة من 28 شخصية أثروا في أوروبا، ولقبتها الصحيفة بـ”امرأة واحدة بويكليكس” للكناية على قدراتها الصحافية الاستقصائية التي تعادل وكالة استقصائية بأكملها

محاولات كتم صوتها وإخماد قلمها طرقت كل الأبواب الممكنة لذلك، ففي شهر مارس/آذار لعام 2013 أُعتقلت لكسر “الصمت السياسي” لنشرها على مدونتها فيديو لرئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات قبل موعد الاقتراع للانتخابات بيوم واحد فقط، وفي شهر فبراير/شباط لعام 2017 جُمدت حسابات دافني البنكية بناءً على طلب وزير الاقتصاد لمالطا كريس كاردونا بموجب قرار المحكمة على إثر دعوى تشهير، وحتى تاريخ اغتيالها كانت تواجه دعاوى قضائية لـ12 شخصًا اتهموها بالتشهير.

في شهر فبراير/شباط لعام 2016 وقبل صدور تسريبات وثائق بنما كشفت دافني على مدونتها علاقة كونراد ميزي وزير الصحة آنذاك بشركات بنما ونيوزلندا بالتعاون مع كيث شميبري رئيس موظفي رئيس الوزراء لمالطا جوزيف موسكات، وجاءت تسريبات وثائق بنما في شهر أبريل/نيسان لعام 2016 لتؤكد ما توصلت إليه دافني، ولدورها في سبقها الصحفي اعتبرت الصحيفة الأمريكية “بوليتيكو” الصحافية دافني واحدة من 28 شخصية أثروا في أوروبا، ولقبتها الصحيفة بـ”امرأة واحدة بويكليكس” للكناية على قدراتها الصحافية الاستقصائية التي تعادل وكالة استقصائية بأكملها، استمرت دافني بالتنقيب في سراديب الفساد المستشري داخل نخاع الدولة فنشرت عام 2017 عن شركة أخرى في بنما تملكها ميشيل موسكات زوجة رئيس الوزراء جوزيف موسكات، هذه الادعاءات دفعت موسكات لعقد انتخابات مبكرة في شهر يونيو/حزيران لعام 2017 انتهت بفوزه.

في الصورة الأكثر تداولًا لدافني وهي تقف خارج السفارة الليبية في مالطا يكمن آخر ألغاز الفساد الدموي التي كانت تسعى لفضحه قبيل اغتيالها، “كان إعدام ببصمة المافيا” يؤكد أحد المحققين المشاركين في كشف ملابسات حادث الاغتيال، من ليبيا مرورًا بمالطا إلى إيطاليا سُفن محملة بالنفط الليبي المهرب، خليط من المافيا الإفريقية والإيطالية والمالطية للمخدرات تُشرف على عمليات التهريب بالتنسيق مع المافيا الروسية صاحبة الناقلات البرية في هذه العملية، هذا ما كانت تعكف دافني في الأشهر القليلة الماضية على كشفه بالوثائق والصور ومحاولة ملء الفراغات بالأسماء المتورطة في مالطا بهذه العملية وفقًا لما أكدته صحيفة “لا ريبوبلكا” الإيطالية التي التقت بدافني مؤخرًا قبل عملية الاغتيال.

مَنْ اختزل الصحافة والإعلام في مركزية أسماء بعينها؟ ومَنْ ذلك الذي بارك جعْل ثورات الشعوب والأسلمة وفلسطين مَدْرَجًا لـ”أنا” صانع الأفلام؟

“عندما يكون الدم والنيران كل ما حولك، فهذه حرب، نحن أناس في حرب ضد الدولة والجريمة المنظمة التي لم يعد ممكنًا تمييزها”، بهذا المنشور على الفيسبوك عنون ماثيو نجل دافني المعركة الدائرة بين صحافة الحقيقة وسدنة الباطل، بالدم والنيران.

 وعلى ذات نصل الحقيقة الذي مِن كل بتارٍ أحد في حالة مماثلة اجتمع فيها مصطلح الاغتيال وافترقت دلالة المسمى في حادثة عُرفت بـ”محاولة اغتيال المخرج محمد بايزيد”، في وقت انتفضت فيه مالطا تُطالب بكشف اللثام عن ملابسات اغتيال دافني وعجت وسائل التواصل الاجتماعي بهاشتاغ الغضب والألم #DaphneCaruanaGalizia، كانت الصحافة الرقمية العربية تنفض متأرجحة عن ساحات آخر معاركها “هل محاولة اغتيال بايزيد حقيقة أم مُفبركة”؟ ورغم هشاشة المقاربة بين الحالتين وكثافة الضباب، لكننا مرغمون على الإجابة عن الأسئلة التي يجب أن تُطرح وبالتأكيد ليس من بينها “هل محاولة اغتيال بايزيد حقيقة أم مُفبركة”؟، تقارير طبية تُنشر هنا وتردها أخرى هناك وضجيج عالٍ يحرصُ على إضمار الحقيقة وإبقاء الصورة عبثية. لذا ستبقى دائمًا الإجابة مُشوشة طالما السؤال المطروح يتعاطى مع الشخص لا الظاهرة، فمَنْ الذي يتحمل مسؤولية تبخيس حقيقة الصحافة والإعلام قدرها لتُقزم حصرًا في إطارات المظهر المجرد؟ ومَنْ اختزل الصحافة والإعلام في مركزية أسماء بعينها؟ ومَنْ ذلك الذي بارك جعْل ثورات الشعوب والأسلمة وفلسطين مَدْرَجًا لـ”أنا” صانع الأفلام؟

بغض النظر عن اختبار صحة فرضية محاولة الاغتيال، هل بالفعل محمد بايزيد هو فقط المذنب؟ نعم صحيح هو مَنْ نشر الخبر وكذلك زوجته وأولهم صديقه، لكن من أجبر آلاف الأشخاص على إعادة نشر وتأكيد وتضخيم الحدث! مَنْ أرغم الآلاف على اقتضاب الثورة السورية بشهدائها وجرحاها ومعتقليها ومبعديها ومهجريها بليال السقم واضمحلال الأمل المنحوت في أنين السنين، اقتضاب هذا كله وأكثر في شخص! هل على بايزيد وحده الاعتذار للوطن وللقضية أم هو ومعه ثلة المثقفين وزمرة الصحفيين والإعلاميين وجوقة المتابعين ومنظمي المؤتمرات وعاقدي الندوات وممولي الدورات على مدار السنوات الماضية! والمتبرئون الذين جاؤوا مؤخرًا على عجل يتنصلون بالصمت والانسحاب الهادئ أو التحليل الاستدراكي يرون في موقفهم الإنصاف بعدما عزفوا لحن الأسلمة حينًا والثورة حينًا آخر على كَمَان بايزيد! كم تبدو معارك صحافتنا الرقمية العربية هزيلة تُقارع الريح فينهزم الوطن بصورته الافتراضية وتستسلم المبادئ.

ويبقى سؤالنا قائمًا: مَن أكره الواقع على العيش في ظل العالم الافتراضي؟ الظاهرة مركبة بين الشخص ومجموعة الأشخاص الذين يسبحون في فلكه الافتراضي لتصبح الظاهرة نمطًا يلزمنا لاعتباره حقيقة لها مكانها بالإجبار في الواقع دون دليل ولا مرجع، ومَن يخرج عن سلوك القطيع هو الزائغ الضال، مِن بين آخر الكلمات التي دونتها دافني غاليزيا وقبيل اغتيالها بقرابة النصف ساعة: “هناك محتالون أينما نظرت، الوضع يائس“، محظوظة دافني كانت لديها القدرة على تمييز المحتالين بالنظر رغم جسامة اليأس الرابض بالواقع.

كم تبدو معارك صحافتنا الرقمية العربية هزيلة تُقارع الريح فينهزم الوطن بصورته الافتراضية وتستسلم المبادئ

وبالعودة إلى حقيقة لا تختلط فيها المركبات في مظاهرة حاشدة يوم الأحد الـ22 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2017 خرج الآلاف في مالطا بأجسادهم وحناجرهم للتعبير عن احتجاجهم على اغتيال الصحافية دافني، هجروا الصحافة الرقمية لساعات واحتلوا الساحات على الأرض، هي ذاتها الصحافة الرقمية التي أتاحت لدافني زعزعة الفساد باتت اليوم صغيرة على زئير قلمها، جميع الصحف المحلية السبعة في مالطا نشرت في افتتاحيتها صفحة سوداء بعبارة واضحة واحدة بالخط العريض: “القلم يقهر الخوف“.

القاتلون قرروا إسكاتها لكنهم لن يسكتوا روحها، لن يسكتونا، لن يجدوا منا أكثر من دقيقة صمت” يقول كريستوف ديلوار الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود.

 ومن قلب المظاهرة صورة اُلتقطت كأنها اُنتزعت من أجمل مشاهد السينما العالمية وكأنها أُعيدت المرة تلو الأخرى لتبدو بهذه المصداقية، بهذه الروعة، إلا أنها هذه المرة صورة حقيقية من الواقع، حيث يرتفع القلم يمسكُ به المُتظاهر الغاضب تعلوه عدسة الكاميرا يرتقي وكأنه يحاول إيصال كلمة الحقيقة لتراها الشاشة، ويُعلق ناشر الصورة “أشد بأسًا من السيف”.