ابراهيم العرجاني من التمرّد إلى التعاون والشراكة، ومن السجن إلى ذراع السلطات المصرية ويدها العسكرية والاقتصادية في شبه جزيرة سيناء. أصبح صاحب إمبراطورية تجارية ضخمة تشمل البناء وتعدين المحاجر والسفر والضيافة والأمن الخاص، وبات صاحب النفوذ الأكبر على معبر رفح، والمتحكم في دخول المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، يستولي على أموال أهالي غزة الراغبين بالخروج من القطاع للنجاة بأنفسهم من ويلات الحرب والحصار..
من هو ابراهيم العرجاني؟
وُلد إبراهيم جمعة العرجاني في منطقة الشيخ زويد بمحافظة شمال سيناء في 4 ديسمبر/كانون الأول عام 1974، وبحسب بطاقة هويته فإن عنوانه الرسمي هو قرية أبو طويلة، وينحدر من قبيلة الترابين، إحدى أكبر 3 قبائل في شمال سيناء، إلى جانب قبيلتي السواركة والرميلات.
قفزات ابراهيم العرجاني
بدأ ابراهيم العرجاني حياته المهنية كسائق سيارة أجرة في شمال سيناء، مستخدمًا شاحنته الصغيرة، وعمل في مجالي المقاولات والمحاجر، وكان متورطًا في أنشطة تهريب مربحة إلى غزة و”إسرائيل”، ويُعتقد أيضًا أنه حصل على أموال من خلال فرض رسوم على رجال الأعمال الذين استخدموا أراضي سيناء في مشاريع البناء، لكن بروز اسمه لم يكن بسبب ذلك، بل لتعاونه مع الأمن، فبحسب قوله: “كانت الشرطة تستعين بهم لحل المشكلات وكانوا يفعلون ذلك بما يرضي الله”.
بين عامي 2004 و2006، اختارت السلطات المصرية الحل الأمني في سيناء، وكثَّفت إجراءاتها مع شن حملة اعتقالات ومداهمات في مناطق الترابين والسواركة والرميلات، استهدفت عدة آلاف من رجال القبائل، بحثًا عن عناصر مجهولة متهمة بتنفيذ “اعتداءات إرهابية” على منشآت سياحية في طابا وشرم الشيخ ودهب.
وكثيرًا ما تسببت الإجراءات الأمنية المبالغ فيها، واتهام البدو بالضلوع في قضايا تهريب للسلاح والمخدرات مع “إسرائيل”، واعتقال أبناء القبائل واحتجاز الشيوخ والنساء لإجبار أقاربهم الذكور على تسليم أنفسهم، في اعتراضات من البدو، ودفعت حملة القمع الشرسة القبائل إلى تنظيم سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات في أبريل/نيسان ويوليو/تموز 2007، وكان يُشار إلى الحركة الاحتجاجية في ذلك الوقت في وسائل الإعلام باسم حركة “ودنا نعيش”.
تحوَّل ابراهيم العرجاني – الذي يبلغ من العمر الآن 50 عامًا – من طريد سابق للعدالة خلال فترة الصراع بين البدو والشرطة إلى قائد كتيبة من القبائل وأكبر حليف للجيش
وفي أوائل الثلاثينيات من عمره، شارك العرجاني في الاحتجاجات التي وصلت حد الاعتصام على الحدود مع “إسرائيل” أكثر من مرة، ومحاولة اجتياز الأسلاك الشائكة عند معبر كرم أبو سالم، والتهديد باللجوء إلى تل أبيب.
في نفس الوقت، عمل العرجاني أيضًا – كونه أحد رموز أكثر القبائل انتشارًا في سيناء – كوسيط بين الأجهزة الأمنية والقبائل، إلى جانب شخصين آخرين أكثر نفوذًا من قبيلة الترابين في ذلك الوقت، وهما موسى الدلح وسالم لافي، وامتلك أيضًا علاقات وثيقة مع قيادت سيناء الأمنية بسبب أنشطته في مجال التهريب، وعاونهم في ملفات أمنية منها ضبط المتفجرات وتهريب المتسللين.
استمر ابراهيم العرجاني في لعب دور الوساطة وتبادل المصالح مع الأجهزة الأمنية حتى شهد نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008 نقطة تحول في علاقة العرجاني بالدولة، عندما قتلت الشرطة 3 أفراد من قبيلة الترابين، قال إنهم أُرسلوا – كجزء من جهود الوساطة التي قام بها – لمحاولة تهدئة الوضع أمام مقر الشرطة في سيناء، بالقرب من الحدود الإسرائيلية، حيث اعتصم الناس احتجاجًا على ما اعتبروه قتلًا خارج نطاق القضاء لرجال القبائل على أيدي ضباط الشرطة في ذلك الشهر.
وردًا على مقتل الأشخاص الـ3 (شقيقه واثنين من أقاربه)، حاصر أفراد من القبائل عدة أقسام للشرطة في سيناء، واستولوا على الأسلحة، واحتجزوا العشرات من ضباط الشرطة، واستقل عدد آخر من البدو 3 شاحنات صغيرة، واعترضوا طريق شاحنة أمنية في طريقها إلى معبر العوجة بوسط سيناء على الحدود بين مصر و”إسرائيل”، وأجبروها على التوقف، واصطحبوا عشرات الضباط والجنود، وعلى رأسهم ضابط كبير برتبة عميد، إلى مكان جبلي مجهول.
كان المتهم الأول باحتجاز قوات الأمن هو ابراهيم العرجاني، الذي سعى للانتقام لمقتل أخيه على يد ضابط عند نقطة تفتيش في سيناء، وظهر في مقطع فيديو شهير يسأل فيه المخطوفين عن سبب قتل شقيقه، ما أدَّى إلى اعتقاله لمدة عامين، في حين تمكَّن سالم لافي من الهروب من السجن في فبراير/شباط 2010 بمساعدة رجال القبائل.
في يوليو/تموز من ذلك العام، أفرجت السلطات عن ابراهيم العرجاني – ومعه 32 آخرين بينهم الناشط والروائى السيناوى مسعد أبو فجر الذي يصفه إعلام النظام في مفارقة واضحة بـ”الخائن” – لظروف صحية يعاني منها، وبقرار من الرئاسة بعد مفاوضات وضغوط مارسها سالم لافي، المطلوب الأول من أجهزة الأمن، وأحد أضلاع مثلث يضم ضلعيه الآخرين العرجاني وموسى الدلح، أحد أبرز المطلوبين أمنيًا في ذلك الوقت.
لاحقًا، اتهم ابراهيم العرجاني كبار ضباط الشرطة بالتعذيب الشديد، وتسببهم في إصابته بجلطة، وانتهى به الأمر في المستشفى وهو مصاب بالشلل الجزئي، وقال إنه تم نقله عمدًا بين سجون بعيدة عن سيناء، منها برج العرب والوادي الجديد، وإنه كان يتمتع بشعبية لدى السجناء الآخرين، وفي أثناء احتجازه تم انتخابه ممثلًا عنهم لدى سلطات السجن.
رحلة ابراهيم العرجاني المسلحة
مرت بضعة أشهر قبل أن يشارك ملايين المصريين في ثورة يناير 2011 التي عمَّت البلاد، التي انتهت بالإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك، وقد اندلعت الاحتجاجات بسبب عدة حوادث تعذيب موثقة على أيدي ضباط الشرطة والأمن.
وفي مقابلته مع مجلة “روز اليوسف” المصرية في سبتمبر/أيلول 2011، والتي لم تعد موجودة على الموقع، صوَّر ابراهيم العرجاني نفسه على أنه ضحية لوحشية الشرطة ومدافع عن حقوق قبيلته ضد قمع قوات الأمن، وقال إن الاحتجاجات في سيناء كانت مقدمة لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 ضد نظام مبارك.
بعد سنوات قليلة قليلة، تحوَّل ابراهيم العرجاني – الذي يبلغ من العمر الآن 50 عامًا – من طريد سابق للعدالة خلال فترة الصراع بين البدو والشرطة إلى قائد كتيبة من القبائل وأكبر حليف للجيش، وأثبت نفسه كزعيم “مجموعة مسلحة” مؤثر في سيناء في مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء التي ظهرت خلال السنوات التي أعقبت ثورة 2011، كانت في البداية تابعة لتنظيم القاعدة، لكنها أعلنت فيما بعد الولاء لتنظيم الدولة “داعش”، وأعادت تسمية نفسها باسم ولاية سيناء.
بعد الانقلاب العسكري ضد أول رئيس منتخب ديمقراطيًا بمصر في يونيو/حزيران 2013، كثَّف “ولاية سيناء” عملياته الإرهابية في سيناء، فتحركت القوات المسلحة نحو القبائل البدوية المحلية، بما في ذلك قبيلة العرجاني، لمساعدتها في حربها ضد التنظيم، والتزامًا بمعاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، التي تعني أن هناك حدودًا لعدد القوات المصرية المسموح لها بالتمركز في سيناء.
هنا عاد ابراهيم العرجاني للواجهة من خلال قبيلة الترابين، التي أعلنت الحرب مع الجيش ضد التنظيم كأول قبيلة تفعل ذلك، إلى جانب قبيلتي السواركة والرميلات، اللاتي اشترطت كل منهما أن تقاتل كل قبيلة داخل أراضيها، لكن الجيش رفض، واعتمد بدلًا من ذلك على تعاون أفراد القبائل، بما في ذلك ابراهيم العرجاني ولافي والدلح وأعضاء آخرين من السواركة والرميلات، وقدمت القبائل خبرة قتالية إضافية بسبب معرفتها بالبيئة الصحراوية وتكتيكات القتال، بحسب ابراهيم العرجاني.
في عام 2015، أسس الثلاثي “اتحاد قبائل سيناء” من عشرات القبائل المسلحة من الدولة، وأصبح الاتحاد الحليف الرئيسي للجيش في مواجهة “ولاية سيناء”، وبدأت القبائل المنضوية تحت لوائه العمل في مواجهة “التنظيمات المتطرفة” وتقديم الدعم اللوجستي لأفراد القوات المسلحة.
وجمع ابراهيم العرجاني القبائل تحت مظلة ظاهرها قبلي وباطنها استخباراتي، لكن الهيمنة كانت لقبيلته “الترابين”، واقتصرت أنشطة الاتحاد على حماية أراضي القبيلة، بينما توسع تنظيم “ولاية سيناء” في أراضي القبائل الأخرى والمدن الساحلية، حتى إنه وصل إلى عاصمة محافظة شمال سيناء.
كان ابراهيم العرجاني، في البداية مسؤولًا عن تمويل اتحاد قبائل سيناء، ثم تولى القيادة بعد مقتل لافي والتقاعد المفاجئ للدلح في عام 2017، وأصبحت عضوية الاتحاد مثل وظيفة تحت قيادة ابراهيم العرجاني، وأصبح أعضاؤه يحصلون على راتب شهري ويحملون بطاقات هوية خاصة، وبدأ أيضًا في جذب أفراد من القبائل الأخرى، بحسب تحقيق لموقع “مدى مصر“.
وأصبحت علاقة الحاج ابراهيم – كما يسميه أهالي سيناء – بالأجهزة الأمنية أقوى من أي وقت مضى بعد تشكيل الاتحاد وإقحام القبائل في “الحرب على الإرهاب”، لهذا، استهدف تنظيم “ولاية سيناء” أفرادًا من عائلة العرجاني مرارًا، وقتلوا ابن شقيقه، وهاجم مسلحو التنظيم منزله ودمروه في عام 2015، انتقامًا لمقاومة عناصره المسلحة.
وعلى الرغم من الإعلان رسميًا عن انتهاء العملية العسكرية، وهزيمة “ولاية سيناء” نهائيًا في عام 2022، لم يتم تفكيك اتحاد القبائل، ولا يزال هدفه غير واضح، غير أن أعضاءه تورطوا في عدة حوادث قتل خارج نطاق القضاء بمساعدة الجيش المصري، وثقتها “هيومن رايتس ووتش” ومؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان”، وصنفت جماعات حقوق الإنسان أفعالهم “جرائم حرب”.
ومع ذلك، ما زالت أعلام الاتحاد ترفرف إلى جانب العلم الرسمي للدولة، ففي زيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى محافظة شمال سيناء في أكتوبر/تشرين الأول، خلال الحملة الانتخابية للسيسي، ظهر العرجاني جنبًا إلى جنب مع مدبولي وكبار ضباط الجيش، ورافقت شاحنات تحمل اسم اتحاد قبائل سيناء موكب رئيس الوزراء.
إمبراطورية ابراهيم العرجاني التجارية
في مايو/ أيار عام 2014، عندما كان السيسي وزيرًا للدفاع، اجتمع مع مشايخ وعواقل قبائل سيناء، كان من بينهم ابراهيم العرجاني بصفته شيخ قبيلة الترابين، وأهدى السيسي سيف القبائل، وألبسه العباءة السيناوية كنوع من التكريم والدعم في الانتخابات الرئاسية.
وبصفته رجل أعمال أيضًا، جلس العرجاني على مقربة من السيسي، وتحدث بحسب قوله في مداخلة هاتفية في قناة “المحور” عن كيفية استغلال الثروات المنتشرة فى ربوع سيناء، وإنشاء مشروعات استثمارية تشمل مصانع في مناطق جبل الحلال ويلق والمغارة التي تحتوي على رخام ورمل زجاج.
بعد شهرين فقط من انتخاب السيسي رئيسًا، تأسست شركة “مصر سيناء للتنمية الصناعية والاستثمار”، والمساهم الأكبر فيها هيئة تابعة للجيش المصري، وفتحت علاقته مع نجل السيسي أبواب الأعمال التجارية مع الجيش بشكل مباشر ودون رقابة أو مضايقة من أحد، وبلغت الأعمال ذروتها في مسقط رأس الحاج ابراهيم بشمال سيناء.
بعد سنوات، أصبح ابراهيم العرجاني رئيس مجلس إدارة شركة “سيناء للاستثمار”، التي أُنشئت برأس مال يصل إلى نحو 3 مليارات جنيه لإنشاء مصانع للرخام والرمل الرجاني والأسمنت، وتعتبر أول استثمار مشترك بين الجيش ورجال الأعمال، تساهم فيها القوات المسلحة بنسبة 51% بالشراكة مع شركتين أخرتين مملوكتين لجهاز المخابرات العامة الذي يسيطر بشكل نهائي على معبر رفح الحدودي، ويساهم رجال أعمال من سيناء بنسبة 49%.
لاحقًا، تحوَّل الاسم إلى “مجموعة العرجاني القابضة” (ORGANI GROUP)، التي باتت واحدة من أباطرة الأعمال في مصر خلال السنوات القليلة الماضية، وارتبطت بشراكات ممتدة مع المجموعة الصناعية التابعة لوزارة الدفاع المصرية، الممثلة في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وتعاونت مع الدولة بعشرات المشاريع خارج سيناء.
تعمل تحت المجموعة 8 شركات في مجالات مختلفة يديرها ابراهيم العرجاني، ويتولى نجله عصام الدين الملقب بـ“الكابتن”، منصب المدير التنفيذي للمجموعة، أبرزها: “شركات أبناء سيناء” ويتفرع منها شركة “أبناء سيناء للتشييد والبناء”، التي ظهرت لأول مرة في عام 2014 عندما أعلن السيسي عن مبادرة لإعادة بناء المنازل التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة، في ذلك العام، وكانت الشركة الوحيدة الحاصلة على تفويض من الجيش لإدخال مواد بناء في أثناء إعمار غزة.
وبعد الحرب على غزة في عام 2021، احتكرت شركته أعمال الإعمار، وأصبحت المستفيد الأكبر منها في غزة بعد تكليفها بجهود إعادة الأعمار في عقد بقيمة 500 مليون دولار مدفوع من الدولة، وبالتالي يمكن للشركة التعاون مع مقاولين من غزة دون أن تتعاون القاهرة مباشر مع حماس بحسب وصف المحلل السياسي زفي برائيل لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية.
الفرع الثاني لـ”أبناء سيناء” هي شركة الخدمات اللوجستية المصرية “أبناء سيناء للتجارة والمقاولات”، ويصفها موقع المجموعة على الإنترنت بأنها “المشروع الافتتاحي” للعرجاني في عام 2010، وأطلقها بعد وقت قصير من خروجه من السجن، وعملت في مجال المحاجر، وهو “البيزنس” الرائج في شمال ووسط سيناء.
وبعد ذلك بعامين، أصبحت الشركة إحدى شركتين متعاقدتين مكلفتين بجهود إعادة الإعمار بغزة في أعقاب الحرب الإسرائيلية عليها، وهي الآن واحدة من الشركات التي يستخدمها الجيش كواجهة لتحصيل أرباح ضخمة من وراء بيع البضائع إلى قطاع غزة المحاصر بعد هدم الأنفاق.
وبعد أن أصبح إبراهيم العرجاني رئيسًا لاتحاد قبائل سيناء عام 2017، وسع شركتي “أبناء سيناء” و”مصر سيناء”، وبدأت الأخيرة في تصدير البضائع إلى غزة، وأصبح رئيس المخابرات العسكرية السابق في شمال سيناء، اللواء لؤي زمزم، نائب رئيس مجلس الإدارة بحسب صفحة الشركة على فيسبوك.
خلف هذه “الأوليغارشية” التي صعدت إلى مكانة بارزة في قطاع الأعمال المصري والمجتمع الراقي، تقبع “مؤسسة سيناء للخير والتنمية” لتجميل ودرء الأنشطة المشبوهة
إضافة إلى ذلك، توفر شركته “هلا للاستشارات والخدمات السياحية” خدمات خاصة “VIP” لـ”تسهيل وتسريع وثائق الإقامة وتأشيرات السفر من غزة عبر معبر رفح لضمان عملية خالية من المتاعب لأولئك الذين يسعون للسفر”، حسب نبذة تعريفية منشورة على موقع “العرجاني جروب”، لكن نشاظها تزايد بعد وصول السيسي إلى السلطة وتهجير أهالي مدينتي رفح والشيخ زويد وإقامة منطقة عازلة بين مصر وقطاع غزة.
هذه الشركة التي يقع مقرها في مدينة رفح بغزة، يعرفها الفلسطينيون جيدًا، لكنها غير مسجلة في دليل شركات السياحة التابع لوزارة السياحة المصرية، وتخضع مباشرة للمخابرات العامة المصرية، ولا تملك أي جهة أخرى مراقبة عملها، ما جعل العرجاني أحد السماسرة الذين لا يخرج أو يدخل من المعبر أحد إلا بتنسيق عن طريق شركته.
في عام 2021، أُعيد إطلاق الشركة “لتقوم حصرًا بنقل المسافرين من وإلى قطاع غزة”، ووُصفت حركة المرور عبر الحدود التي تديرها الشركة بأنها تأتي في إطار استجابة القاهرة لـ”مطلب كبير للفصائل الفلسطينية بشأن تسهيل السفر عبر معبر رفح للتخفيف من معاناة الفلسطينيين”.
هناك أيضًا شركة نيوم (NRD) للتطوير العقاري والاستثمار واستصلاح الأراضي الزراعية وتطوير المشروعات، ووقعت اتفاقيات في يناير/كانون الثاني الماضي مع الحكومة الموازية في شرق ليبيا للمشاركة في إعادة إعمار درنة في أعقاب الفيضانات المدمرة التي دمرت جزءًا كبيرًا من المدينة الليبية العام الماضي، وظهر إبراهيم العرجاني بعد الاتفاق مع رئيس صندوق إعادة إعمار درنة بلقاسم حفتر، النجل الأصغر للمشير خليفة حفتر حليف السيسي.
تضم “إمبراطورية العرجاني” التي تعمل كمظلة لشركاته أيضًا شركة “إيتوس” للخدمات الأمنية، وتقدم خدمات الحراسة والأمن، وتعمل في جميع أنحاء مصر، وتولت تأمين العديد من الأحداث الرياضية الكبرى، وسرعان ما تحول العرجاني بسببها إلى داعم لأحد أكبر الأندية في مصر، وأصبحت مجموعته الراعي الرسمي للنادي الأهلي في كأس العالم للأندية بالمغرب.
وفي يناير/كانون الثاني 2023، أعلن النادي الأهلي توقيع عقد تحالف إستراتيجي مع مجموعة العرجاني، في مجالات عدة من بينها ضلوع شركة “إيتوس” بتأمين المباريات ومنشآت النادي وأي من شركاته ورحلات الجماهير والفاعليات التي ينظمها النادي.
خلف هذه “الأوليغارشية” التي صعدت إلى مكانة بارزة في قطاع الأعمال المصري، تقبع “مؤسسة سيناء للخير والتنمية“ لتجميل ودرء الأنشطة المشبوهة، وتتخفى وراء المبادرات التي يرعاها السيسي مثل مبادرة “كتف في كتف”، فقد أطلقت بالتزامن مع حلول شهر رمضان المبارك مبادرة “الوسيم” الخيرية، التي تحمل اسم نجل العرجاني الذي توفي في أغسطس/آب 2020، في حادث سير، وافتتحت أيضًا مجمعًا إسلاميًا بملايين الدولارات يحمل نفس الاسم على مساحة 2200 متر بحضور وزير الأوقاف ومحافظ شمال سيناء.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، رُفع الستار عن اسم وكيل سيارات “بي إم دبليو (BMW)” و”ميني كوبر” في مصر، بعد تنافس كبرى شركات السيارات العربية على مدار 4 سنوات للحصول على “الصفقة”، قبل أن يتحالف الجانبان الكويتي (مجموعة على الغانم وأولاده للسيارات) والسعودي (شركة محمد يوسف ناغى موتورز) في مجموعة واحدة أطلق عليها اسم “جلوبال أوتو” للسيارات، وضمن هذا التحالف ظهرت مجموعة مصرية لا خبرة لها في عالم السيارات يرأسها ابراهيم العرجاني.
وفي العام التالي، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023، جاءت مكافأة السيسي بتعيين ابراهيم العرجاني بقرار جمهوري عضوًا في الجهاز الوطني لتعمير شبه جزيرة سيناء، وهو هيئة عامة اقتصادية تتبع رئاسة مجلس الوزراء، وتتمتع بالسيطرة الحصرية على أنشطة التطوير والبناء في سيناء، وبالتالي يمنحه هذا المنصب حقوقًا حصرية للموافقة على مثل هذه المشروعات، وهو ما يشكل تضاربًا في المصالح، بسبب مكانته كرجل أعمال.
ولا يكاد ابراهيم العرجاني يغيب عن مناسبة يُذكر فيها أو يرعاها السيسي، فتجده واقفًا في الصفوف الأمامية المؤيدة للانقلاب والعسكر، وفي مقدمة الحشود المروجة للحملات الانتخابية الرئاسية وتعديل الدستور، وفي مسلسل “الاختيار“، وفي منتدى شباب العالم بمدينة شرم الشيخ مستعرضًا المنتجات التراثية أمام السيسي، وتجده أيضًا في مقدمة وفد مبادرة “حياة كريمة” كسفير عن محافظة شمال سيناء، وعلى شاشات التلفاز التي يحكمها جهاز المخابرات، ويُحتفى به في قلب الوثائقيات كأحد “أبطال اتحاد قبائل سيناء في محاربة الإرهاب”.
تاجر حرب غزة
منذ بدء الحرب الأخيرة على غزة، تعرضت أنشطة ابراهيم العرجاني التجارية لتدقيق إعلامي متزايد، فقد وصف موقع “مدى مصر” المستقل سيناء بأنها “شبه جزيرة العرجاني”، في إشارة إلى نفوذه الواسع النطاق في المنطقة الشاسعة، وصوَّرته وسائل إعلام أخرى على أنه “حميدتي” مصر، وقارنته بقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو في السودان.
وتحتكر اثنتان من شركاته حركة الأشخاص والبضائع عبر معبر رفح، البوابة الوحيدة لغزة التي لا تخضع لسيطرة “إسرائيل” المباشرة، حيث تتحكم شركة الخدمات اللوجستية “أبناء سيناء”، المرتبطة بجهاز المخابرات العامة المصري، في تصاريح الخروج للشاحنات والبضائع الأخرى، في حين تمتلك شركة “هلا” للسياحة الحقوق الحصرية للتحكم في نقل المسافرين من وإلى قطاع غزة.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، أفاد موقع “ميدل إيست آي” بأن شركة “أبناء سيناء” فرضت رسومًا على المنظمات الإنسانية الدولية على شكل “رسوم إدارة”، تصل إلى 5 آلاف دولار مقابل كل شاحنة مساعدات تعبر إلى القطاع، مما أثار مخاوف بشأن التربح المرتبط بالدولة من الجهود الإنسانية.
ومع تزايد الوضع الإنساني سوءًا في غزة، وصل سعر حركة المرور التجارية المتجهة إلى غزة الذي تفرضه الشركات المملوكة لمجموعة العرجاني إلى 9 آلاف دولار مقابل نقل شاحنة بضائع إلى غزة، على الرغم من أن الأجرة التي يتقاضاها سائقو الشاحنات تبلغ عادة 300 دولار فقط للحمولة.
بعدما بنى إمبراطورية تهريب قبل عقدين من الزمن عبرت شبه جزيرة سيناء ووصلت إلى غزة و”إسرائيل” من تحت الأنفاق، أصبح يسيطر على التجارة في معبري كرم أبو سالم ورفح.
قبل الحرب، كانت شاحنات المساعدات والسلع التجارية تدخل غزة عبر طريقين: معظمها عبر معبر كرم أبو سالم مع “إسرائيل” والباقي عبر رفح مع مصر، وكلا المعبرين مفتوحان بشكل متقطع، لكن البضائع القادمة إلى رفح يتم تحويلها الآن إلى معبر كرم أبو سالم أولًا، حيث يتم تفريغها وفحصها قبل إعادتها إلى رفح للدخول، مما يؤدي إلى تباطؤ وصول المساعدات الإنسانية والسلع التجارية وارتفاع تكاليف الاستيراد بشكل كبير.
يسارع الفلسطينيون إلى شراء اللحوم المجمدة عند دخولها إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم، بعد الحصول على تصريح من السلطات الإسرائيلية.
وبينما لا يزال التفتيش الأمني والقيود المفروضة على المعابر يعوقان دخول البضائع التجارية، فإن عملية الاستيراد معقدة حاليًّا وكثيرة المراحل، وتوجد مستويات متعددة من التربح تبدأ من شراء البضائع ثم نقلها بتكاليف باهظة ثم الانتظار على المعبر لما يصل إلى ٥٠ يومًا، وشراء الدور على المعابر.
وبحسب تحقيق أجراه مشروع مكافحة الجريمة والفساد (OCCRP)، فإنه في ظل الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة وتجويع الناس وتضييق وصول المساعدات فإن نظام إدخال البضائع معطل ويتعرض للاستغلال، حيث تُجبى الأموال في كل نقطة من سلسلة توريد السلع بدءًا من النقل وحتى الشراء والبيع، ويترك الغزاويين مع إمدادات ضئيلة بأسعار مرتفعة.
في شارع النجمة برفح جنوب القطاع مثلًا، الذي تحوَّل إلى سوق شعبي مليء بالباعة المتجولين الذين يعرضون كميات صغيرة من السلع، ويكتط بآلاف النازحين الباحثين عن حاجاتهم الأساسية، ارتفعت أسعار المنتجات والمستلزمات الضرورية إلى عنان السماء مع محدودية العرض وانهيار سبل العيش، ووصلت أسعار الكثير من السلع إلى نحو 10 أضعاف منذ بداية الحرب.
اليوم رحت ع سوق النجمة برفح اشوف بورصة البامبرز.
نفسي افهم كيف صار فينا هيك ومين سمح للتجار بهاد التمادي!
— Banyasj (@banyasj) February 6, 2024
ووسط التضييق على وصول المساعدات إلى القطاع المحاصر، تبرز شركة “أبناء سيناء للتجارة والمقاولات” التي تستفيد من احتكار فعَّال بمعبر رفح، فهي تتولى وتدير مهمة تطوير معبر رفح على الجانب المصري بأكمله، واستأجرت قاعة كاملة داخل المعبر، وتعتبر مسؤولة بشكل كامل عن جميع الخدمات اللوجستية داخل المعبر.
لكن المشكلة الأكبر أنها مسؤولة أيضًا عن إدخال المساعدات العربية والدولية من مصر إلى قطاع غزة، إذ لا يمكن استيراد أي شيء دون المرور عبر الشركة المصرية التي ضاعفت أسعارها 6 مرات، بعد أن كانت تتقاضى قبل الحرب نحو 5 آلاف دولار مقابل كل شحنة.
وبحسب مسؤول كبير بوزارة الاقتصاد في غزة، فإن “أبناء سيناء” تفرض رسومًا جديدة قدرها 75 دولارًا لكل شاحنة رسم الانتظار على الحدود لإجراء الفحوصات الأمنية، وإذا أراد التاجر تجاوز الطابور فعليه دفع رشوة تصل إلى 20 ألف دولار لتصبح تكلفة الشاحنة للوصول إلى غزة نحو 40 ألف دولار.
يزيد كل ذلك من تحكم هذا الرجل بكل ما يمكن أن يخنق سكان غزة وأهلها، فبعدما بنى إمبراطورية تهريب قبل عقدين من الزمن عبرت شبه جزيرة سيناء ووصلت إلى غزة و”إسرائيل” من تحت الأنفاق، أصبح يسيطر على التجارة في معبري كرم أبو سالم ورفح، واستحوذ على شركات تخليص الجمارك التي عملت في المعابر.
وفي مقال نشر مؤخرًا في معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط، قال الدبلوماسي الأمريكي السابق ألبرتو فرنانديز، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط، إن شركات البناء التابعة لشركة ابراهيم العرجاني شاركت في بناء منطقة مسيجة خارج رفح يمكن أن تأوي 100 ألف شخص في حالة حدوث نزوح جماعي لسكان غزة، ومن المرجح أن تستفيد إمبراطورية البناء التابعة له من إعادة إعمار غزة بعد الحرب.
سمسار المعابر
يبدو أن شركات ابراهيم العرجاني استفادت من بؤس سكان غزة ليس فقط من خلال التربح من المساعدات الإنسانية الخاصة، ولكن أيضًا من خلال رسوم المرور المفروضة على المدنيين اليائسين، ففي تلك البقعة المنكوبة من العالم، وبعد أن دخلت الحرب شهرها السادس، لا يزال السبيل الوحيد للخروج من القطاع هو معبر رفح البري.
ارتبط اسم شركة “هلا” بفرض مبالغ مالية ضخمة تفوق قدرة الفلسطينيين على من يريد الخروج من غزة عبر الممر البري الوحيد المفتوح.
لكن في ظل انسداد كل السبل لعبور المعبر أمامهم، لجأ فلسطينيون ومصريون إلى نشاط شركات الأسفار والوسطاء للخروج من غزة، وتعرض بعضهم للاحتيال وخسر أمواله، بينما لا يزال آخرون يجمعون المال المطلوب ببيع ما يحوزون من ممتلكات شخصية أو بالاقتراض من أقاربهم.
منذ بداية الحرب، كان معظم الأشخاص المسموح لهم بالمغادرة هم من الأجانب ومزدوجي الجنسية، وبالنسبة للفلسطينيين الذين ليس لديهم جواز سفر أجنبي، فإن المخرج الوحيد من خلال شركة “هلا”، التي تقوم كل بضعة أيام بإصدار قائمة بأسماء المئات من سكان غزة الذين يُسمح لهم بعبور الحدود إلى بر الأمان.
وفي مواجهة النزوح والقصف والنقص الحاد في الغذاء، برز اسم الشركة في الأشهر الأخيرة كواحدة من شركات الأسفار المرتبطة بشبكة مصالح مع وزارة الدفاع والمخابرات العامة المصرية، وارتبط اسمها بفرض مبالغ مالية ضخمة تفوق قدرة الفلسطينيين على من يريد الخروج من غزة عبر الممر البري الوحيد المفتوح، الذي تحطمت وما زالت تتحطم على بواباته أحلام أكثر الراغبين بالخروج من غزة إلى مصر.
ويكشف تحقيق صحيفة “لوموند” الفرنسية جانبًا من معاناة سكان القطاع، ويستعرض بالأرقام ما يشبه “أتاوات العبور” التي لا يمكن مغادرة القطاع لمن لا يدفعها لشبكة ممن يسمون بالسماسرة أو الوسطاء وشركات الأسفار التي انتعش نشاطها في مصر أكثر من ذي قبل منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة.
وبحسب الصحيفة، فإن الهروب من غزة يكلف ما لا يقل عن 7 آلاف دولار، حيث يبيع الوسطاء تصاريح الخروج بمبالغ تتراوح بين 4500 و10 آلاف دولار للفلسطينيين، أما حاملو جوازات السفر المصرية فيضطرون لدفع ما بين 650 و1200 دولار، وفقًا لتحقيق أجراه مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد وموقع “صحيح مصر” المستقل.
وتروج شركة “هلا” لخدمات التصاريح عبر الإنترنت كواحدة من “سماسرة الحرب”، مستغلة في ذلك حاجة الفلسطينيين للهروب من جحيم غزة، وتتحدث تقارير عن جنيها نحو مليون دولار يوميًا، حيث خرج من القطاع من خلال التنسيق مع الشركة في الفترة بين 10 و29 فبراير/شباط الماضي 2692 فلسطيني.
ووفقًا لتقرير بثته القناة 11 الإسرائيلية الشهر الماضي، فإن الشركة تفرض رسومًا بقيمة 2500 دولار على الأطفال دون سن 16 عامًا، و5 آلاف دولار على الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 16 عامًا، ويُقال إن الرسوم تُدفع نقدًا، وأحيانًا يدفعها أقارب في الخارج لوسطاء مقيمين في أوروبا والولايات المتحدة، كما واجه الرعايا الأجانب صعوبات في مغادرة غزة دون الدفع، وفقًا لتقرير شبكة “سكاي نيوز“.
وقد لجأ العديد من سكان غزة إلى حملات التمويل الجماعي عبر الإنترنت لجمع الأموال اللازمة، التي يمكن أن تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات للعائلات الكبيرة، ويدرج موقع “GoFundMe” مئات المناشدات من سكان غزة، الذين يقيمون عادة في الخارج، لجمع الأموال لأقاربهم لدفع رسوم الخروج.
وتشير مصادر أخرى مثل صحيفة “الغارديان” البريطانية إلى أن الشركة – باعتبارها أحد الوسطاء المصريين القلائل لتخطي قوائم الانتظار – تستهدف في أغلب الأحيان الأشخاص الضعفاء والأقل حيلة مثل أسر المصابين أو المرضى الذين يلتمسون العلاج في مصر، وذلك بوضع أسمائهم في قائمة المصرح بهم للمغادرة عبر المعبر أو الأنفاق مقابل مبالغ كانت تُقدر في السابق بـ500 دولار، في حين وصلت بعد الحرب إلى نحو 10 آلاف دولار بداعي أنها تأخذ جزءًا من نفقات التنسيق، مما يجعل الخروج مستحيلًا بالنسبة لمعظم سكان غزة.
بعد الضجة التي أثارتها مثل هذه التقارير بشأن تعاملات شركة “هلا” الاستغلالية، يُقال إن القاهرة أمرت الشركة بتعليق خدماتها، وفي مقابلة مع “سكاي نيوز” قبل أيام، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن القاهرة “ستتخذ إجراءات تجاه أي شخص متورط في مثل هذه الأنشطة”.
ومع ذلك، قوبلت ادعاءات القاهرة بالتشكيك من أولئك الذين يؤكدون أن الجيش المصري، الذي يسيطر على الحدود ويلعب دورًا بارزًا في الاقتصاد المصري، لا بد أنه كان متواطئًا في هذه المضاربة، فلا يمكن أن يكون هناك مثل هذا النشاط الاقتصادي، خاصة عندما يكون احتكارًا، دون ضوء أخضر من الجيش ودون مراقبة فعلية من جهاز المخابرات.