ظل الحكام المسلمون يستخدمون الدين ليومنا هذا كوسيلة لإثبات شرعيتهم، أي أن الحديث عن العلمانية في الدول العربية أمر محل نظر، فهنا أمير مؤمنين وشريف في الأردن وخادم حرمين في السعودية والأزهر من جانبه يبارك السيسي والبشير يدعي أنه حاكم إسلامي، فأي نموذج علماني يحاربه الإسلاميون في العالم الإسلامي.
وهناك تناقض آخر وهو الحديث عند البعض أن العالم الإسلامي يعاني من الجماعات الإسلامية التي تريد اختطاف مدنية الدولة وعلمانيتها، وينطلق البحث من علمانية الدولة العربية وهو أمر غير مفهوم، وكذلك الدول الغربية التي تنظر للعالم الإسلامي وفق هذا المنظار فتقرب هذا وتبعد هذا، والمتأمل من الباحثين يقول إن افتراض وجود حيز عام علماني أمر نادر في التاريخ، بل إن النظرة لقضية فصل الدين عن الدولة صارت محل نظر، لأن الهدف من العلمانية وهو الحياد لم يتحقق، بل إنها صارت معيارًا للتصنيف والانقسام المجتمعي.
يقول مايكل نزار على في كتابه خطر العلمانية والتشدد الإسلامي والتعددية: “العلمانية المتشددة تفترض أنها تعادي كل الأديان، ترى المسيحية الديانة المنافسة لها، لذا تسعى لاستخدام الأديان الأخرى للحد من خطر المسيحية وتأثيرها على الرأي العام، مباركة التشريعات في المحليات حتى في البرلمان، الاحتفالات الدينية والمؤسسات الخيرية المرتبطة بالكنيسة، كل ذلك يراد له أن يختفي بالادعاء أننا مجتمع متعدد” لذا يرى الكاتب أن المسيحية فيها ما يحدد هذه المعاني ولا يمكن أن تكون التعددية طريقًا للتأثير في الرأي العام “الإنجيل يعطينا الوسيلة لنقد أنفسنا، وهذا قد يفيد جسم الدولة وحتى الملكية والكنائس القائمة، وقد ينفع كذلك في السياسة الخارجية والأمن القومي”.
المؤسسات الدينية التي كانت تنظم الكثير من القضايا المجتمعية تفسح المجال لقطاعات أخرى اقتصادية واجتماعية وبهذا يصبح القطاع الديني أكثر تخصصًا وتركيزًا في مهامه
لقد انتبه كثيرون لسيطرة العلمانية غير المبررة، والتي صارت وسيلة للترزق والتكسب والظهور، والمعيارية التي صارت تمارسها ضد خصومها خاصة أن الممارسة التاريخية تدل أن الدين كمحرك للتاريخ ظل فاعلًا طيلة الفترة التي يدعي البعض أنها علمانية تقصي الدين من الحياة، هذا ما تعكسه مراجعات كثيرة للنموذج العلماني السائد. ولو رجعنا للمسيري ومراجعته للعلمانية سنجد الحديث يطول وربما يقف عند ماكس ويبر، والحديث عن النازية كحالة نموذجية للعلمانية، ولعل بيتر برجر قد لخص نموذج العلمانية بقوله إن العلمانية التي من خلالها تتحول قطاعات من المجتمع من سيطرة المؤسسات الدينية ورموزها، لكن الفترة التي تلت خاصة في نهاية القرن 20 وبدايات القرن 21 والتغير الذي لحق النموذج يستحق منا شيئًا من التأمل.
إن نشأة العلمانية ارتبطت بالحركة البروتستانتية وكثير من المفاهيم العلمانية كالفرادانية والحرية كانت نتاجًا للحركة البروتستانتية التي استطاعت أن تصل لما اعتبره بيتر برجر الصورة الأولى للمسيحية بعيدًا عن سيطرة الكنيسة الوظيفي، هذا النموذج لتالكوت بارسون ينطلق من الميول لدى طبقات المجتمع المتعددة نحو الدين أو الاقتصاد أو السياسية، والعلاقة بين الدين والسياسية تأخذ شكل التمايز الوظيفي.
والمؤسسات الدينية التي كانت تنظم الكثير من القضايا المجتمعية تفسح المجال لقطاعات أخرى اقتصادية واجتماعية، وبهذا يصبح القطاع الديني أكثر تخصصًا وتركيزًا في مهامه. هذا يرتبط بنموذج أعم عند باريسون يرى المجتمع بـ4 مكونات، تنطلق من الثقة وترتبط بالعلاقة بين المكون المجتمعي والثقافي والعلاقة بينهما، والأهداف التي ينطلق منها الأفراد وهذا الحيز الخاص بالأفراد، و الجوانب التي يمكن أن تتكيف في مسرة المجتمع وهي الاقتصاد وعلاقة ذلك بالقيم السلوكية داخل المجتمع، فالمجتمع يتكيف وفق محددات من السلوك والأهداف للأفراد والعلاقة بين القيم العليا والمجتمع، هكذا تصبح الموسسة الدينية لها علاقة بالقيم وارتباطها بحركة المجتمع، وهذا خروج عن النموذج الثنائي السائد (100,103) .
– التناسق والتوازن، هنا نجد بيتر برجر يبين أن نشأة العلمانية ارتبطت بالحركة البروتستانتية، وكثير من المفاهيم العلمانية كالفرادانية والحرية كانت نتاجًا للحركة البروتستانتية التي استطاعت الوصول لما اعتبره الصورة الأولى للمسيحية بعيدًا عن سيطرة الكنيسة، والمفاهيم العلمانية كالسببية والموضوعية وغيرها ما زالت تتأثر بالمسيحية، من ذلك مثلًا أن المسيحية والعلمانية بينهما نوع من التوازن والتنسيق، وإن كان لكل منهما مجال يتحرك فيه، والدعوة للعلمانية هي في الواقع دعوة لشيء خفي هو المسيحية بالمفهوم البروتستانتي، وهذا يعني الحث على العمل والثروة والرأسمالية، فهو يربط بين البروتستانتية والعلمانية كما ربط ماكس ويبر بين البروتستانتية والرأسمالية .
الدول العربية في الغالب دول شمولية تستخدم مؤسسات الدولة لإقصاء مناوئيها، والحركات الإسلامية في المقابل تحاول أن تطيح بهذه السلطات من أجل إقامة دولة إسلامية
– الاقتصاد الديني،(أنثوني جيل) يؤكد أن الاحتفاء بالعلمانية لم يعد كما كان، ونشأة التيارات الدينية والقوة التاريخية المحركة للدين جعلت الكثير من الأبحاث تنظر للدين كمحرك أساسي للحياة الاجتماعية والسياسية وهو ما يعرف بالاقتصاد الديني، يبدأ أنثوني مراجعته بأن الحديث عن موت الإله ونهاية المجتمعات الدينية هي ببساطة نبوءة خاطئة، ويؤكد ذلك باستبيان القيم العالمي الذي أقيم عام 1998 في أكثر من 43 دولة والذي أكد استمرار وجود الإيمان والدين كمحرك للرأي العام، حيث أظهر الاستطلاع 63% يعتبرون أنفسهم متدينين، و70% يتبعون أحد المذاهب الدينية .
مؤشرات كثيرة تدل على أن الممارسة الدينية لم تتغير إن لم تكن في ازدياد، وظهور الكثير من الجماعات الدينية أكثر مما توقعت النظرية العلمانية، المسيحية والإسلام حتى في الجمهوريات التي كانت تحت حكم الشيوعية، ويبين أنثوني أن الساسة وقعوا تحت وطأة نموذج سائد ينطلق من تهميش الدين في التحليل السياسي، الأمر الذي انعكس على قدرة تفهم الثورة الإيرانية عام 1978 وكيف أن جمعية التضامن الكاثوليكية المسيحية كانت وراء نجاح الثورة البولندية وانتخابات البيرو التي نجح فيها التيار البروتستانتي بقيادة البيرتو فيورجيني عام 1992، ولا يخفى تحفيز الدين لأحداث كثيرة في الجزائر والهند ويوغوسلافيا وغيرها من دول العالم .
يوكد أنثوني أن العلمانية لا يمكن أن يؤكدها البحث العلمي، واستمرارها كان نتاجًا لعملية سياسية كانت تهدف للسيطرة، الثورة الفرنسية مثلًا، والكثير من الأبحاث التي وقعت تحت طائلة تلك السيطرة الفكرية قد بدأت تنظر للأمر بنظرة أكثر عقلانية، نظرًا للدلائل الكثيرة في التاريخ واستطلاعات الرأي التي تثبت أن النموذج السائد لم يعد قادرًا على تفسير كل هذه الأحداث التي شعارها الأول هو المعتقد والصراع الديني الظاهر للعيان. هذا الأمر عزز بدراسات أخرى تحاول أن تدخل الدين في فهم النظرية السياسية، فالعلاقة بين الحكم الرشيد والتدين وبروز التيارات الدينية قد تكون علاقة سياسية تفسر الصعود والهبوط في معدلات التدين والعلمنة .
عالمنا الإسلامي يمكننا أن نسأل ثوريًا: هل هذا السيناريو الذي استمر لمدة قرن من الزمن، وهو أن الدول العربية دول علمانية وتعمل على تغييب الدين، والحركات الإسلامية من جانبها تسعى لإعادة الأمر إلى نصابه، سيناريو صحيح؟. الواقع يقول إن الدول العربية في الغالب دول شمولية تستخدم مؤسسات الدولة لإقصاء مناوئيها، والحركات الإسلامية في المقابل تحاول الاطاحة بهذه السلطات من أجل إقامة دولة إسلامية، من هنا تكون الفرضية هو وجود دولة علمانية وأخرى اسلامية تريد الإطاحة بها، لكن الإسلاميين كما سبق رضوا بالديمقراطية ولا شك أنهم حتى وإن رضوا بالعلمانية وأعلنوها صراحة ستبقى المسألة السياسية كما هي، لأن البعد السياسي هنا لم يحدد، كما أن البعد الديني، باستثناء مسألة الشريعة كما سيأتي، هي غير واضحة أيضًا.. كيف ولماذا؟ العمل المهم الذي يمكن أن يبين.
ما فعله أتاتورك لم يكن علمنة للدولة كما حاولت التنظيمات الخيرية في الدولة العثمانية أن تفعل – إلى حد ما – بل محاولة للسيطرة على المؤسسة الدينية (الإسلامية) وتحويرها فقط
“دين الدولة” وهو الدين الذي تتبناه السلطة وتدافع عنه، كما هو الحال في الدولة الرومانية حين تبنت المسيحية والدعم الذي تحظى به المسيحية في الدنمارك.
الخروج من هذه الثنائية بنماذج أكثر واقعية هو الدراسة التي قدمتها دكتور جوسيلان سيياري تحت عنوان “صحوة الديمقراطية في العالم الإسلامي” (104) والتي كسرت جدار الثنائية التي سيطرت على الدراسات التي تناولت الإسلام السياسي في الغرب، فالمسلّمة التي تقول إن الحداثة والعلمانية والديمقراطية حزمة واحدة لايمكن أن يحدث تحول ديمقراطي في الدول العربية دونها هي في الواقع أمر غير مسلم به، ولا توجد علاقة مثبتة بين هذه العناصر .
كما أن المسألة لا تتركز في علاقة الدين بالسياسة بل في موسسات الدولة، هذا المدخل يرتبط بفكرة ذكية تقول إن المؤسسات الدينية في التاريخ الإسلامي ظلت منفصلة عن مؤسسة الحكم، كما بين بوضوح ابن خلدون في مقدمته، فالأئمة والعلماء والقضاة والمدارس الفقهية ومؤسسة الوقف كلها كانت ضمن إطار المجتمع المدني ولم يكن هناك تحكم وتخطيط شمولي فوقي لهذه المؤسسات. وترى الكاتبه أن نشأة الدولة الوطنية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية هو الذي أدخل السياسة في الإسلام (Politization of Islam) فأتاتورك عندما كان يراقب المدارس ويغير الحروف العربية لحروف لاتينية لم يكن يقوم بعلمنة الدولة، بل بالربط المباشر بين المؤسسات الدينية والسلطات، أي أن الأمر صار من اختصاص الدولة فرض صورة معينة للدين داخل المجتمع، هذا الأمر هو الذي وفر البيئة لنشأة تيار مضاد لدولة ليست بعلمانية بل هي دولة أشبه بالدول الشمولية حاولت السيطرة على الدين واستخدامه لاستمرارها في الحكم .
الكتاب نموذج مهم لفهم العلاقة بين الدين والسياسة، هذا النموذج يفرق بين 3 صور للدين، فهناك 3 أنواع من الدين وعلاقته بالدولة، فهناك الدين السائد كما هو في أوروبا وأمريكا حيث توجد تعددية دينية ومع ذلك هناك دين هو السائد (المسيحية في الولايات المتحدة مثلًا)، وهناك دين الدولة ( established ) وهو الدين الذي تتبناه السلطة وتدافع عنه كما هو الحال في الدولة الرومانية حين تبنت المسيحية والدعم الذي تحظى به المسيحية في الدنمارك. . وهناك الدين المسيطر (hegemoney ) وهي الحالة التي تكون فيها القوانين والسياسات تعطي ميزة لأصحاب دين بعينه، وعادة وليس دائمًا هو دين الأغلبية (السائد (Dominant ، وهناك فرق كما تذكر بين التشريعات المنظمة للأديان داخل الدولة وحياد الدولة تجاه الأديان، الأول يعني حماية الدولة عبر تشريعاتها للأقلية الدينية ولا تقتضي هذه الحماية فصل الدين عن الدولة، هذه الحماية قد تقوم بينما تكون هناك علاقة تعاضد بين الدين والدولة (مثال معظم الدول الأوروبية) .
وهذا لا يقتضي كذلك أن يكون القانون محايدًا وهذا هو التحدي أمام أغلب الدول التي تدعي حماية حقوق الأقليات الدينية، من هنا تنطلق إلى أن الدين في الدول الإسلامية هو دين من النوع الثالث المسيطر من خلال وجوده في أغلب نواحي الحياة وتضع لذلك نموذجًا يشمل: المناهج التعليمية تكون لدين واحد، التمييز في القوانين، والتعليم والدعم المقدم من الدولة لأصحاب دين واحد مسيطر، منع أصحاب الأديان المختلفة من ممارسة حرية التعبير ومنع حقوق المرأة في الزواج والإجهاض والطلاق وفقًا للدين المسيطر.
وتدرس تلك المؤشرات والتي اختصرت في 3 (المواطنة، التعليم، القانون) على الدول الإسلامية، فمن بين 41 دولة نجد أن 32 دولة لها تصل إلى 3 على 3 من بين النقاط الموضوع للنموذج، هذا الأمر قد نشأ من الحالة التاريخية التي حاول فيها القوميون السيطرة على المؤسسات الدينية من أجل علمنتها، فما فعله أتاتورك لم يكن علمنة للدولة كما حاولت التنظيمات الخيرية في الدولة العثمانية أن تفعل (إلى حد ما) بل محاولة للسيطرة على المؤسسة الدينية (الإسلامية) وتحويرها فقط. لهذا كان سعيد النورسي لا يعترض على الجمهورية ويرى أن استمرار التعليم والمساجد والأوقاف ستستمر وكل ما تفعله الدولة هو محاولة للسيطرة، وهذا ما حدث في بلداننا العربية ولا نستغرب ساعتها من نشأة تيارات معارضة، فتسيس الدين هو ما فعلته الدولة وليس كما هو شائع بأن الحركات الإسلامية سيست الإسلام.
هذه بعض النماذج التي يمكن أن ندرس بها هذه العلاقة من خلال معرفة المدخلات والمؤشرات التي يمكن من خلالها دراسة الواقع، ويمكن من خلال مثل هذا المنهج، دون أن نناقش التفاصيل، أن نجد أنفسنا أمام معرفة جديدة تمامًا خارج الأطر التي ارتكز عليها الخطاب الإسلامي، هذا المدخل المؤسسي هو ما يمكننا من إدراك الواقع بنماذج معرفية مركبة يمكن من خلالها الوصول لتوافقات مع الدول من أجل الخروج من الثنائيات الحاكمة، يبقى سؤال مهم وهو أين الشريعة من كل ذلك؟ هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم.