الأجسام الائتلافية السورية: ظروف التأسيس وتحديات الاستمرار
واجهت قوى الثورة والمعارضة السورية في الأشهر الأولى من عمر الثورة تحديات في تشكيل قيادة سياسية وطنية جامعة، إذ لم تكن التنسيقيات التي تشكّلت في معظم المدن والبلدات السورية، كلجان التنسيق المحلية واتحاد تنسيقيات الثورة، قادرة على بناء جسم قيادي موحّد للثورة، بسبب انشغالها بتنظيم المظاهرات ونقل الأخبار وتوثيق الانتهاكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام العربي والعالمي.
كما مثّلت وجهات النظر المتنافرة تجاه الحل السياسي، إحدى أبرز العقبات التي اعترضت طريق تلك القوى الثورية وغيرها من الأجسام المعارضة التقليدية في تشكيل جسم موحّد، يضمّ مختلف الجماعات السياسية العاملة داخل وخارج سوريا.
بدأت أولى هذه المحاولات في الداخل السوري بتشكيل هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي، أعقبها تشكيل الجسم المنافس لها، على المستويين المحلي والدولي، في الخارج، المتمثل بالمجلس الوطني السوري، لتبدأ معها كذلك أولى مشكلات العمل السياسي: ثنائية الداخل والخارج.
نسلط الضوء في هذا التقرير على المرحلة التي بدأ فيها السوريون البحث عن تمثيل سياسي يعبّر عن حركة الاحتجاجات وما صاحبها من مطالبات، ما أدّى إلى إفراز عدة مكونات سياسية ائتلافية، شملت هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي والمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي
بعد أيام من اندلاع الثورة السورية، بدأت مجموعة من الشخصيات السياسية المعارضة الاجتماع لتأسيس جسم سياسي موحّد للمعارضة، والسعي إلى الحوار السياسي، رغم الخلافات السياسية والشخصية بينها.
شُكّلت لجنة لهذا الغرض، تألفت من برهان غليون، وميشيل كيلو، وحسين العودات، وحازم نهار، وحبيب عيسى، وعارف دليلة، وعبد العزيز الخير، وأجرت عدة لقاءات واجتماعات مع قوى وشخصيات سياسية سورية، تمخّض عنها تشكيل هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي خلال مؤتمر صحفي في العاصمة دمشق في يونيو/ حزيران 2011.
أكدت الهيئة أن هدفها هو دعم الانتفاضة الشعبية، والعمل على استمرارها حتى تحقيق أهدافها في التغيير الديمقراطي، وطالبت في بيانها التأسيسي بإطلاق حوار سياسي جادّ مع حكومة النظام، بعد توفير عدة شروط أهمها الإفراج عن جميع الموقوفين والمعتقلين السياسيين، والاعتراف بحقّ التظاهر السلمي، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، ورفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية، ومحاسبة المسؤولين عن القتل وإطلاق النار على المتظاهرين.
ضمّت الهيئة عند تأسيسها مجموعة من الأحزاب القومية واليسارية والعربية والكردية، أبرزها التجمع الوطني الديمقراطي المكون من 5 أحزاب، أكبرها حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، إضافة إلى أحزاب التجمع اليساري الماركسي، وأحزاب كردية كحزب يكيتي الكردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، إضافة إلى عدد من الشخصيات المستقلة.
تمثلت رؤية الهيئة السياسية بالدعوة إلى قيام حكومة انتقالية، وإجراء إصلاحات جوهرية، أبرزها وضع مشروع دستور جديد، وقوانين ديمقراطية للأحزاب السياسية، والمصالحة الشعبية، والنظر في قضية الشعب الكردي، ورفض التدخل الخارجي في الشأن السوري.
في سبتمبر/ أيلول 2011، عقدت الهيئة اجتماعًا في ريف دمشق لتشكيل اللجنة المركزية، حيث ضمّت اللجنة 80 عضوًا ينتمون إلى أحزاب وتنسيقيات شبابية وشخصيات وطنية، واتفقت في بيانها التأسيسي على 3 مبادئ ثابتة تحت لاءات ثلاث هي: لا للتدخل الأجنبي، لا للطائفية، لا للعنف.
أثارت حالة الفوضى والانقسام بين مختلف أطياف المعارضة سخط الشارع السوري، فخرجت مظاهرات في سبتمبر/ أيلول 2011 حملت شعار “وحدة المعارضة”
في المقابل، واجهت الهيئة اتهامات عديدة من بعض القوى المعارضة، خاصة من المجلس الوطني السوري، ودخلت معه في خلاف سياسي حادّ، بعد اتهامه الهيئة بتكريس الانقسام بين معارضة الداخل والخارج، وشرعنة وجود النظام ومنحه ورقة سياسية، تتمثل بتسويق النظام بوجود معارضة داخلية متمايزة ومختلفة عن معارضة الخارج.
تمحورت الخلافات بين هيئة التنسيق والمجلس الوطني أيضًا، بإصرار الهيئة على التفاوض والحوار مع النظام، وتجنّب دعوتها لإسقاطه، الأمر الذي يصرّ عليه المجلس الوطني، كما طالبت الهيئة بإيجاد حلول سياسية من خلال الضغط على النظام من الداخل، بدلًا من التدخل الدولي عسكريًّا لإسقاطه، ورفضت بداية فكرة تسليح الجيش الحر، فضلًا عن انفتاح الهيئة على قوى دولية وإقليمية مناوئة للثورة السورية وداعمة للنظام، كروسيا والصين وإيران.
محاولات الاندماج وتوحيد الجهود
لم تنجح قوى الثورة والمعارضة السورية خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة في تشكيل جسم سياسي وطني موحّد، يضم مختلف الجماعات السياسية العاملة داخل وخارج سوريا، ويمثل واجهة سياسية للثورة، وصوتًا للمعارضة في المحافل الدولية.
إذ برزت عدة مشاكل حالت دون ذلك، ولازمت المعارضة طيلة السنوات اللاحقة، لعلّ أهمها اختلاف وجهات النظر تجاه الحل السياسي، والتنافس على السيطرة على أي جسم سياسي موحّد قد ينشأ مستقبلًا، فضلًا عن حساسيات سياسية وشخصية حملتها تلك القوى معها من مرحلة ما قبل الثورة، إضافة إلى مشكلتَي المحاصصة وغياب الثقة بين أطراف المعارضة.
جرت عدة محاولات لتوحيد معارضة الداخل والخارج، حيث أقامت قوى المعارضة عددًا من المؤتمرات واللقاءات، إذ عُقد المؤتمر السلمي للتغيير في أنطاليا بتركيا، ثم مؤتمر الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية في بروكسل، ومؤتمر الإنقاذ الوطني وملتقى نشطاء الثورة السورية في إسطنبول، ثم ملتقى الوحدة الوطنية في القاهرة.
إضافة إلى اجتماع الدوحة في سبتمبر/ أيلول 2011، الذي شاركت فيه مكونات المعارضة السياسية التقليدية، كهيئة التنسيق الوطنية، وقوى إعلان دمشق، والإخوان المسلمين، والتيار الإسلامي المستقل، وشخصيات مستقلة، حيث اتفق المجتمعون على تشكيل ائتلاف وطني سوري يضمّ جميع القوى السياسية المعارضة، ورغم عدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال اجتماع الدوحة، إلا أن اللقاءات والاجتماعات تلك مهّدت لولادة المجلس الوطني السوري.
المجلس الوطني السوري
أثارت حالة الفوضى والانقسام بين مختلف أطياف المعارضة سخط الشارع السوري، فخرجت مظاهرات في سبتمبر/ أيلول 2011 حملت شعار “وحدة المعارضة”، طالب خلالها المتظاهرون المعارضة بالتوحُّد ضمن جسم سياسي واحد.
وبعد مبادرات واجتماعات ولقاءات ونقاشات مكثفة بين أطياف المعارضة في الداخل والخارج، وبعد 6 أشهر كاملة من بدء الثورة السورية، أعلن عدد من الشخصيات السياسية المعارضة في مؤتمر صحفي في أنقرة تشكيل المجلس الوطني السوري برئاسة برهان غليون، وعضوية 94 آخرين من أبرز وجوه المعارضة السورية في الداخل والخارج، بهدف دعم الحراك الشعبي في الداخل، والتحضير ليكون بديلًا عن النظام في حال سقوطه.
أكد بيان التأسيس الذي تُلي باسم شباب الثورة السورية في الداخل، اختيار هذه الشخصيات لقيادة الحراك الشعبي والالتزام بهدف الثورة الأساسي المتمثل بإسقاط نظام بشار الأسد، ووجّه دعوة إلى من أسماهم بالفئة الصامتة للتحرك والانضمام إلى الثورة.
كما ضمّ المجلس جماعات وشخصيات مستقلة، بما فيهم الإخوان المسلمون، والموقِّعون على إعلان دمشق عام 2005، والكتلة الكردية، والمنظمة الآشورية، والكتلة الوطنية المؤسسة، وكتل الحراك الثوري التي تضمّ ممثلين عن لجان التنسيق المحلية، والمجلس الأعلى لقيادة الثورة، والحراك الثوري المستقل، وغيرها من الأحزاب السياسية أو المنابر مثل ربيع دمشق والكتلة الوطنية، وممثّلي الطائفة العلوية.
بنى المجلس الوطني تصوره لمستقبل سوريا السياسي بعد الإطاحة بالنظام، على تشكيل المجلس حكومة انتقالية، وتنظيم انتخابات برلمانية في غضون 6 أشهر، يليها انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد خلال عام واحد، وإطلاق سراح المعتقلين، وإنشاء لجنة قضائية مستقلّة لمعالجة المظالم ولجنة مصالحة وطنية.
وأكد المجلس في بيانه التأسيسي التزامه ببناء دولة ديمقراطية تعدّدية مدنية، وضمان حقوق الأقلّيات، والحقوق القومية للشعبَين الكردي والآشوري، والحقوق الكاملة للمرأة، واستعادة السيادة السورية على مرتفعات الجولان وفقًا للقوانين والقرارات الدولية.
تحفّظت الولايات المتحدة على عمل المجلس، وانتقدته في أكثر من مناسبة، تحت ذريعة هيمنة الإسلاميين عليه، وعملت على تحييد المجلس واستبداله بـ”لجنة التواصل والاتصال”
حظيَ المجلس بتأييد واسع ضمن أوساط المعارضة في الداخل السوري، إذ خرجت مظاهرات تؤيد المجلس، وسمّوا أحد أيام الجمعة بـ”جمعة المجلس الوطني يمثلني“، لكنه واجه تحديات حالت دون الحفاظ على وحدته الداخلية وتماسكه، وقيّدت فعاليته السياسية، وحدّت الدعم الدولي والإقليمي المقدّم له.
يرى كثيرون أن استحواذ جماعة الإخوان المسلمين وكتل إسلامية مرتبطة بها على ما يقارب من ربع عدد مقاعد المجلس الـ 310، حدّ من فعالية المجلس، وجعله عرضة لممارسة الجماعة تأثيرًا كبيرًا على صنع القرارات والسياسات فيه وفقًا لمصالحها.
كما أدّت التباينات والاختلافات بين كتل المجلس إلى تعطيل عمله، خاصة فيما يتعلق بانتخابات قياداته، والتفاعل مع المبادرات السياسية والمكونات السياسية الأخرى خارج المجلس، فضلًا عن ما شهده المجلس من انشقاقات وانسحابات عديدة من صفوفه.
إذ انفصلت مجموعة من الشخصيات البارزة من المجلس، على رأسها هيثم المالح وكمال اللبواني، وشكّلت مجموعة العمل الوطنية السورية، ثم انسحب المجلس الوطني الكردستاني، الذي ضمّ آنذاك 11 حزبًا كرديًّا، في أبريل/ نيسان 2012، بعد رفض المجلس مطالب الأحزاب الكردية بالفيدرالية، التي من شأنها أن تمنح الأكراد حكمًا ذاتيًّا داخل سوريا.
ولا يمكن غضّ الطرف عن العامل الخارجي في التأثير سلبًا على عمل المجلس الوطني، وإفشاله، لا سيما الموقف الأمريكي السلبي من المجلس، حيث تحفّظت الولايات المتحدة على عمل المجلس، وانتقدته في أكثر من مناسبة، تحت ذريعة هيمنة الإسلاميين عليه، وعملت على تحييد المجلس واستبداله بـ”لجنة التواصل والاتصال”، التي انبثقت عن مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة عام 2012.
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية
استمرت جهود المعارضة في تشكيل هيئة أو ائتلاف جديد، إذ أعلن عضو المكتب التنفيذي في المجلس الوطني، رياض سيف، مبادرته لإعادة تشكيل المعارضة، تحت عنوان “مشروع هيئة المبادرة الوطنية السورية“، ولاقت المبادرة قبولًا دوليًّا وعربيًّا.
وبعد أسبوع من الاجتماعات واللقاءات والمناقشات بين أطياف المعارضة السورية، بما في ذلك ممثلون عن الجيش الحر والمجالس المحلية وشخصيات اعتبارية، في العاصمة القطرية الدوحة، أُعلن تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، برئاسة الشيخ أحمد معاذ الخطيب.
تم تأسيس الائتلاف بعد عدة مبادرات قامت بها قوى المعارضة، وضغط دولي وعربي على المعارضة لتسريع عملية تشكيل ائتلاف أكثر تنوعًا وشمولًا، لا سيما مع تنامي قوة الجيش الحر والفصائل الجهادية، وتراجع سيطرة نظام الأسد على الأرض، وبروز حاجة ملحّة لإيجاد بديل عنه في حال انهياره.
شملت أهداف الائتلاف الوطني، كما جاء في بنود تأسيسه، إسقاط النظام بكل رموزه وأركانه، وتفكيك أجهزته الأمنية، ومحاسبة من تورّط في جرائم ضد السوريين، ورفض الحوار والتفاوض مع النظام، وتوحيد المجالس العسكرية الثورية تحت مظلة مجلس عسكري أعلى، وتشكيل حكومة مؤقتة بعد حصوله على الاعتراف الدولي.
حظيَ الائتلاف فور تأسيسه بدعم من الجيش الحر، حيث ضمَّ ممثلين عن القيادة العسكرية العليا، ولاقى ترحيبًا من الحراك الشعبي في الداخل، حيث نُظّمت مظاهرات حملت شعار “جمعة دعم الائتلاف الوطني”.
كما لقيَ دعمًا دوليًّا وإقليميًّا وعربيًّا واسعًا، واعترفت به مجموعة أصدقاء الشعب السوري المكونة من أكثر من 100 دولة، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا وإسبانيا ودول الخليج العربي، إضافة إلى الجامعة العربية، ممثلًا وحيدًا للشعب السوري.
واجه الائتلاف عدة مشكلات تسبّبت في تعطيل عمله وتعثره سياسيًّا طيلة السنوات التي أعقبت تأسيسه، ولعلّ أهمها غياب التناغم والتناسق بين مكوناته، والخلافات والانقسامات المتكررة، والرؤى السياسية المختلفة، والمقاربات المتضاربة بين التيارات المختلفة داخله، وفشله في تعزيز شرعيته لاحقًا مع الداخل السوري، إضافة إلى أثر العاملَين الدولي والإقليمي على مسار عمل الائتلاف وفاعليته.
مثّل المجلس الوطني السوري حلبة منافسة بين مكونات سياسية مختلفة الرؤى والأيديولوجيا، حيث تنافست تحت مظلتها الأحزاب الكردية، وتيارات اليسار السوري، إضافة إلى الإسلاميين والعلمانيين.
وشكّلت المتغيرات المحلية والدولية التي انعكست على الملف السوري، عاملًا هامًّا في تقارُب أو تباعُد تلك الأجسام داخل المجلس، ودخلت في صراع محموم على التمثيل السياسي على المستوى المحلي والدولي.
في المحصلة، عانت المعارضة السورية خلال تلك الفترة صعوبات كبيرة في توحيد جهودها للوصول إلى كيان سياسي واحد، يمثل الحراك الشعبي والمعارضة داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما اتضح جليًّا من كثرة المبادرات وتنوع مطالبها، التي أشارت إلى كمّ الخلافات الكثيرة التي واجهت المعارضة، وأسهمت في تعطيل عمل الأجسام السياسية الائتلافية، التي نشأت من توحُّد عدة كيانات مختلفة الرؤى السياسية.