أثار تصديق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على مذكرة التفاهم بين حكومتي جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة بشأن التعاون المالي والفني والموقعة في أبو ظبي بتاريخ (23 من يناير 2017) بقرار رقم (279 لسنة 2017) ، الكثير من التساؤلات عما تتضمنه من بنود ترسخ للنفوذ الإماراتي في مصر.
المذكرة التي تم نشرها في الجريدة الرسمية، الخميس 19 من أكتوبر 2017 ووافق عليها مجلس النواب (البرلمان) يوليو الماضي، في جلسة لم تستغرق سوى عدة دقائق، تعطي أبو ظبي حزمة من الامتيازات الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخ مصر، مقارنة بالدول الأخرى، فضلاً عما تحمله من ضمانات لحماية المصالح الإماراتية من الملاحقات القضائية، داخليًا كانت أو خارجيًا.
وضع بند يمنع الجانب المصري من سن أي قوانين تتناقض مع الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، فيه نوع من تهديد الإرادة المصرية وإجهاض استقلالية القرار
بالقانون: تأمين النفوذ الإماراتي
الملفت للنظر في بنود الاتفاقية ما يتعلق بأهداف المجلس التنسيقي المشترك المعني بالتعاون المالي والفني بين البلدين، والذي اُتفق علي تشكيله في المادة (13) التي تنص على: يقوم الطرفان بتشكيل مجلس تنسيقي معني بالتعاون المالي والفني والذي يتكون من ممثلين عن الطرفين، وسوف يترأس الجانب المصري نائب وزير المالية للسياسات الضريبية، فيما يترأس الجانب الإماراتي وكيل وزارة المالية، ويجوز للمسؤولين من الهيئات الحكومية والقطاع الخاص تقديم العون إلى كلا الطرفين، طبقًا لما تقتضيه الظروف وسوف يجتمع المجلس مرة واحدة سنويًا أو حسب رغبة أي الطرفين”.
أما المادة (14) فتعد الأخطر والأكثر جدلاً في المذكرة والتي تنص في جزء منها على “تجنب سن قوانين يكون لها آثار تتناقض مع اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمار الموقعة بين الطرفين”، هذا بخلاف المادة (15) والتي حالت دون اللجوء إلى المحاكم حال نشوب أي خلاف بين الجانبين، حيث نصت على أن “أي اختلاف في تفسير وتطبيق هذه المذكرة يسوى وديًا عن طريق التفاوض والمشاورات بين الطرفين” ومن ثم مستبعدًا أي خيارات قضائية أو تصعيدية أخرى.
تساؤل آخر يفرض نفسه بقوة عند مناقشة بنود هذه المذكرة، يتعلق بمناخ السرية والتكتيم الذي أظلها منذ توقيعها في يناير الماضي وحتى تصديق السيسي عليها منذ خمسة أيام، فضلاً عن السرعة الشديدة في الموافقة عليها من مجلس النواب دون مناقشتها من الأعضاء حيث اقتصرت دراستها على أعضاء لجنة الخطة والموازنة فقط، والموافقة عليها بشكل عام دون تلاوة بنودها بندًا بندًا كما هو معمول به في بقية مذكرات التفاهم بين الدول، مما أثار حزمة من علامات الاستفهام.
استعمار اقتصادي طويل الأمد
العديد من القنابل الموقوتة تحملها تلك المذكرة، أولها إعطاء دولة الإمارات العديد من الصلاحيات غير الممنوحة للدول الأخرى وربما هذا له ما يفسره – من وجهة نظر نظام السيسي – وسيتم التطرق إليه لاحقًا إلا أنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام المستثمرين الإماراتيين للتوغل في المشهد الاقتصادي المصري بأريحية كاملة دون قيود أو ضوابط.
كما أن وضع بند يمنع الجانب المصري من سن أي قوانين تتناقض مع الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، فيه نوع من تهديد الإرادة المصرية وإجهاض استقلالية القرار، فهو كما يطلق عليه خبراء الاقتصاد “تقييد القانون الوطني لصالح الاتفاقيات الدولية” وهو ما لا يجوز دستوريًا.
هذا بخلاف غلق باب اللجوء للمحاكم الدولية حال خرق أي من الطرفين لبنود الاتفاقية، فإن استشعرت القاهرة خطرًا ما نتيجة التدخل الإماراتي في شأنها الاقتصادي عبر بوابات المشروعات والاتفاقيات المبرمة، لا يمكنها فسخ هذا التعاقد أو تدويله حال رفض الجانب الآخر، إذ عليها أن تتوصل إلى صيغة ودية تفاوضية مشتركة مع الطرف الثاني، وهو ما قد يوقعها أسيرة ابتزاز أو مساومة.
ومن هنا فإن إفراد وضع قانوني خاص بدولة الإمارات دون غيرها خاصة في مسألة الازدواج الضريبي قد يجعلها ملاذًا آمنًا لأباطرة المال في مصر ممن قامت عليهم ثورة يناير، وهذا ما يتعارض مع القانون الذي تقر أولى قواعده بالعموم والتجريد وعدم اختصاص أحد بعينه، لذا فإن إلزام القوانين المصرية بفرض نوع من الحماية لأي دولة مستثمرة يجعل الاتفاقية بذلك أقوى من إرادة الدستور ذاته، وهو ما يعني تهديد للقرار الاقتصادي المصري، إن لم يكن شراءً للإرادة ويعطي الاتفاقية صفة “احتلالية” وليست استثمارية بحسب وصف البعض.
وفي هذه الحالة كيف يكون الوضع حال أرادت القاهرة وقف التمدد الإماراتي في شؤونها الداخلية؟ هل تستطيع في ظل هذه المظلة التشريعية التي منحتها لأبو ظبي؟ وفق ما كشفته المذكرة فقد لا تستطيع مصر ذلك، حتى اللجوء للمحاكم الدولية ليس خيارًا متاحًا، مما قد يضعها في حرج إذا ما تعقدت الأمور مستقبلاً.
صورة ضوئية من بنود مذكرة التفاهم
وقوف الإمارات بجانب النظام المصري كان لا بد أن يكون له فاتورة
غطاء للتوغل
التكتم الشديد على بنود هذه الاتفاقية ثم الموافقة السريعة للبرلمان عليها ربما يسير في اتجاه توفير الغطاء اللازم لمزيد من التوغل الإماراتي في الشأن المصري لا سيما في الجانب الاقتصادي، والذي يأتي في إطار الدعم المقدم من حكومة أبو ظبي لنظام السيسي خلال السنوات الأخيرة.
فالعبارات الفضفاضة التي تتضمنها المذكرة وغيرها من الاتفاقيات الثنائية الأخرى بين مصر ودول الخليج والمتعلقة بتشجيع الاستثمار الأجنبي وغيره تفتح أبوابًا جديدة لمزيد من التحكم السياسي عبر أدوات الاقتصاد وهو ما قد يسمح للمستثمرين الخليجيين وعلى رأسهم الإماراتيين في هذه الحالة لتملك المشروعات العملاقة داخل مصر، بما فيها المشروعات ذات أبعاد استراتيجية خطيرة يصعب التعاطي معها مستقبلاً في ظل القوانين – سالفة الذكر – المكبلة للإرادة المصرية.
استشعار الخطر حيال ما يمكن أن يترتب على هذه البنود الواردة في مذكرة التفاهم يتضاعف بشكل أكبر حين يتم الوقوف على حجم التدخل الإماراتي في الشأن المصري، حيث أبرم الجانبان منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 أكثر من 18 اتفاقية مشتركة في العديد من المجالات، التجارية والاقتصادية والزراعية والصحية والبشرية، استطاعت من خلاها أبو ظبي في اقتحام معظم مفاصل الدولة المصرية، إلا أن هناك أربع اتفاقيات تتصدر قائمة هذه الحزمة وهي اتفاقية التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والفني، وتشجيع الاستثمار، واتفاقية تجنب الازدواج الضريبي على الدخل، ومنع التهرب المالي بين البلدين، واتفاقية حماية وتشجيع الاستثمار بين البلدين.
الوثيقة أوضحت كيفية اختراق أبو ظبي للشأن الداخلي المصري من خلال بوابة الاستثمار والدعم الاقتصادي
فاتورة الدعم والانتداب المالي
البعض ذهب إلى أن البنود المكبلة للإرادة المصرية والتي باتت أشبه بما يسمى “الانتداب المالي” التي حوتها الاتفاقية هي نتاج طبيعي للدور الإماراتي في مصر، كونها اللاعب الأبرز والورقة الأكثر محورية في تصعيد نظام عبد الفتاح السيسي والإطاحة بنظام الإخوان ورئيسهم الدكتور محمد مرسي.
الدعم الإماراتي لمصر كان الأكثر خليجيًا منذ الانقلاب العسكري حيث قدمت أبو ظبي ما يقارب 25 مليار دولار في صورة مساعدات ومنح وقروض واستثمارات وتسهيلات، مما جعلها أكثر الدول حظًا من إجمالي المساعدات الإماراتية الخارجية حسبما جاء على لسان لبنى بنت خالد القاسمي وزيرة التنمية والتعاون الدولي الإماراتية، التي أشارت أن حصة مصر من المساعدات الخارجية لبلادها تجاوزت 52% من جملة المساعدات.
وقوف الإمارات بجانب النظام المصري كان لا بد أن يكون له فاتورة، فبعض المراقبين ذهبوا إلى أن الدول الخليجية لا تنفق كل هذه المليارات بدون مقابل، بل تبحث عن مصالحها في المقام الأول، وحين رأت الإمارات وغيرها أن السيسي ونظامه هم الأجدر على تحقيق طموحاتهم الإقليمية التي على رأسها تضييق الخناق على تيار الإسلام السياسي والوقوف أمام مد ثورات الربيع العربي، لم تدخر جهدًّا في تقديم المساعدات والدعم بشتى صوره.
كيف يكون الوضع حال أرادت القاهرة وقف التمدد الإماراتي في شؤونها الداخلية؟ هل تستطيع في ظل هذه المظلة التشريعية التي منحتها لأبو ظبي؟ وفق ما كشفته المذكرة فقد لا تستطيع مصر ذلك
المساعدات والمنح بوابة الإمارات للتوغل في الشأن المصري
الممول يضع الشروط
في 2015 سرب موقع “ميدل ايست آي” وثيقة استراتيجية لمحمد بن زايد كشفت عن الأهداف التي تسعى الإمارات لتحقيقها من وراء دعمها للقاهرة، وملامح الاستراتيجية المتبعة لترجمة هذه الأهداف إلى واقع ميداني.
الوثيقة أوضحت كيفية اختراق أبو ظبي للشأن الداخلي المصري من خلال بوابة الاستثمار والدعم الاقتصادي، حيث حددت ثلاث مراحل للاستثمار في مصر بدأت جولتها الأولى في 2016، بينما في المرحلة الثالثة تسعى الإمارات أن تتحول من مجرد ممول إلى شريك كامل، من خلال تمويل المؤسسات الفكرية والبحثية والجامعات والمنصات الإعلامية، وهو ما تظهر ملامحه بشكل واضح هذه الأيام حيث دعم وسائل إعلام وقنوات تواصل ومراكز دراسات وأبحاث.
التكتم الشديد على بنود هذه الاتفاقية ثم الموافقة السريعة للبرلمان عليها ربما يسير في اتجاه توفير الغطاء اللازم لمزيد من التوغل الإماراتي في الشأن المصري
علاوة على ذلك فقد كشفت عن الشروط التي وضعتها حكومة أبو ظبي لمواصلة دعمها للسيسي والتي تمحورت في ثلاثة شروط هي: رفع الدعم عن الوقود على مدار السنوات الثلاثة المقبلة تدريجيًا برفع 30% في العام الأول ثم 30% في العام الثاني ثم 40% في العام الثالث، وضع الإمارات لاستراتيجية تسعير الجنيه المصري أمام الدولار والذي سيكون بمثابة السيطرة على السياسة النقدية في مصر، بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على النظام البيروقراطي، هذه الشروط الثلاث تتركز حول سياسات الدولة داخليًا، وهو ما تحقق معظمه خلال العام الأخير على وجه الخصوص.
ومن ثم فقد كشفت الوثيقة المسربة النقاب عن النوايا الحقيقية للإمارات من وراء دعمها المستمر للسلطات المصرية، والمتمثلة في الرغبة الكاملة في السيطرة على مفاتيح الأمور في مصر، وربما جاءت مذكرة التفاهم الأخيرة التي صدق السيسي عليها من خمسة أيام والتي تعطي أبو ظبي الضوء الأخضر نحو من مزيد من التوغل داخل مفاصل الدولة في إطار غطاء قانوني يحمي تحركاتها كافة دون ملاحقة قضائية داخلية أو خارجية، لتؤكد ما خلصت إليه الوثيقة، لتعيد مصر مجددًا عهدها مع الانتداب لكنه هذه المرة ليس انتدابًا بريطانيًا بل إماراتيًا وإن تباينت أشكاله وملامحه إلا أن الهدف واحد.