حين ارتكب جيش الاحتلال المجزرة المعروفة إعلاميًا باسم “مجزرة الطحين”، الخميس 26 فبراير/شباط الماضي، واستهدف تجمعًا من الفلسطينيين كانوا بانتظار الحصول على المساعدات، قرب دوار النابلسي شمال قطاع غزة، ما أسفر عن ارتقاء 112 فلسطينيًا وإصابة نحو 800 آخرين، زعم أن التدافع هو سبب تلك الخسائر، مستعينًا برواية مضللة لتبرئة ساحته من دماء الضحايا، بعدما قوبلت الحادثة بإدانات واسعة وأججت الغضب الشعبي في الكثير من عواصم حلفاء الاحتلال.
ورغم عشرات المؤشرات والأدلة التي ساقتها تقارير إعلامية واستخباراتية بشأن تورط الاحتلال في تلك المجزرة، فإن إصرار الكيان المحتل على إلقاء المسؤولية على الفلسطينيين المتدافعين، أوهم البعض أن ما حدث ربما كان خطأ غير مقصود من مدافع الاحتلال التي كانت على بعد أقل من نصف كيلومتر بالقرب من دوار النابلسي شمال غزة.
مجلس الأمن الدولي يبدي قلقا بالغا بعد "مجزرة الطحين" التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في شارع الرشيد
تقرير: بهية مارديني pic.twitter.com/RaQTm8B024
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 3, 2024
لكن ما إن هدأت عاصفة الغضب جراء تلك الواقعة حتى عاود الاحتلال تكرارها أكثر من مرة، ففي خلال الأيام الـ4 الماضية فقط ارتكب جيش المحتل أكثر من 5 مجازر بحق متلقي المساعدات ومراكز توزيعها في القطاع، راح ضحيتها 56 شهيدًا وأكثر من 300 جريح.
ففي ليل 14 مارس/آذار الحاليّ استهدف تجمعًا في حي الزيتون جنوب شرق غزة كان بانتظار مساعدات، ما أسفر عن ارتقاء 30 شخصًا، وقبل ذلك بيومين، أوقع قرابة 26 فلسطينيًا في مدينة رفح، من بينهم فلسطينيان يعملان في تقديم المساعدات بقصف سيارتهما في المدينة، و8 خلال استهداف مركز لتوزيع المساعدات في مخيم النصيرات وسط القطاع.
استهداف تجمعات متلقي المساعدات على مدار الـ20 يومًا الماضية، رغم التحذيرات والإدانات الإقليمية والدولية، يؤكد أن ما حدث في دوار النابلسي في 26 من فبراير/شباط الماضي لم يكن خطأ غير مقصود أو نتيجة التدافع كما زعم الاحتلال، لكنه إصرار ممنهج على ارتكاب تلك المجازر بحق متلقي المساعدات المحاصرين منذ أكثر من 5 أشهر.. فما الذي يريده المحتل؟
مساعدات تحت الضغط
الكيان المحتل لم يوافق على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع – رغم قلتها وعدم تلبيتها للحد الأدنى من المطلوب لسد احتياجات أكثر من مليوني فلسطيني داخل غزة – إلا نتيجة الضغوط الممارسة عليه من الجميع، وعلى رأسهم حليفه الأمريكي الذي بات يستشعر الخطر والقلق من تداعيات الغطرسة الإسرائيلية وعنصرية التعامل الوحشي مع المحاصرين الفلسطينيين.
العديد من الأصوات التي تميل لليمين المتطرف في الداخل الإسرائيلي كانت تذهب باتجاه منع دخول المساعدات بالكلية، وفرض حصار مطبق على القطاع من جميع الاتجاهات، أملًا أن يقود ذلك إلى انقلاب الشارع على حماس وبقية فصائل المقاومة، ما يدفعها لتقديم تنازلات بشأن مفاوضات الأسرى والاستسلام، وهو الوهم الذي طالما داعب خيال متطرفي وجنرالات الكابينت.
احتجاجات عارمة في #إسرائيل تطالب بعزل #نتنياهو وإجراء انتخابات والإسراع في صفقة تبادل أسرى#الحدث pic.twitter.com/vWYXvsgBQb
— ا لـحـدث (@AlHadath) March 16, 2024
غير أن اتساع رقعة المواجهة لتشمل لبنان واليمن والعراق، واشتعال الغضب لدى بعض العواصم المجاورة، والزخم الذي باتت عليه القضية الفلسطينية لدى الشارع الأوروبي والأمريكي، كلها أمور جعلت من التمادي في صلف العنصرية ضد المحاصرين مغامرة قد تقلب الطاولة وتضع مصالح الأمريكان على المحك، وهو ما دفع واشنطن للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو لإدخال القليل من المساعدات لحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي، وتجنبًا لأي تصعيد من نوع آخر ربما يغير قواعد المعادلة.
ومن ثم فإن إدخال المساعدات لقطاع غزة لم يأتِ جراء استشعار الاحتلال الإنسانية – لا سمح الله – لكنه نتيجة الرضوخ لضغوط الحلفاء خشية اتساع رقعة المواجهة مع التيار الداعم للمقاومة الذي كاد أن يفرض على دولة الاحتلال عزلة إقليمية ودولية لولا تدخل حلفاء تل أبيب من العرب.
تعزيز مخطط التهجير
يسعى الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب ومن خلال الإستراتيجيات العسكرية التي يتبعها على مدار الأشهر الـ5 المنقضية، إلى تعزيز مخطط التهجير ودفع سكان القطاع تحت وابل القصف والتدمير والقتل إلى النزوح نحو الجنوب كمرحلة أولى تمهيدًا لتنفيذ بقية المخطط.
وبعيدًا عن مخرجات اجتماعات حكومة الكابينت بشأن أهدافها من الحرب، فإن الهدف الأسمى بالنسبة لهم هو إزالة قطاع غزة من خريطة المقاومة، كونه الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل المتراجع بعد حالة الانبطاح والخذلان التي باتت عليها بقية الحركات في الداخل الفلسطيني.
وبعدما استقر في يقين المحتل أن الإطاحة بحماس خيال من الصعب تحقيقه، على الأقل في الوقت الراهن، كان عليه البحث عن نوافذ أخرى يقلل بها من نفوذ المقاومة قدر الإمكان ويجردها من ظهيرها الشعبي في القطاع.
وأمام اللحمة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية التي بدا عليها القطاع، لم يجد جيش الاحتلال سوى أسلوب “التهجير القسري” كخيار وحيد لتفتيت تلك اللحمة وتفتيت جبهتها المتماسكة، مستغلًا آلة البطش التي يملكها والمدعومة من أعتى جيوش العالم في مواجهة شعب أعزل لا يملك حتى قوت يومه.
تغطية صحفية | الناطق باسم الدفاع المدني في غزة يقول إن أكثر من 400 شهـ.ـيد ارتقوا أثناء انتظار المساعدات، ونتوقع إدخال الشاحنات إلى شمال القطاع كل يوم لكن إجراءات الاحتـ.ـلال تعوق ذلك pic.twitter.com/8xDO2sqv8u
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 17, 2024
وبعد أكثر من 5 أشهر كاملة من استخدام جميع أدوات الفتك وارتكاب جل الجرائم المحرمة إنسانيًا ودوليًا، لم ينجح الاحتلال في تحقيق هذا الهدف، حيث فوجئ بصمود الغزيين بطريقة لم تكن في حساباته العسكرية الخاصة، فمع كل فاجعة يتعرضون لها يزدادون إيمانًا وقوة، ومع كل فقدان يقابله احتواء وتحدي، وأمام كل تنكيل تقوى عزائمهم وإصرارهم، وفي مواجهة جرافات الهدم يتشبثون أكثر ببيوتهم ولو صارت ركامًا.
أمام هذا المشهد الأسطوري غير المتوقع، لجأ الاحتلال لـ”حرب التجويع” كسلاح أخير لكسر إرادة الغزيين، لما لهذا السلاح من قوة وتأثير من الصعب مواجهته، لكنه فوجئ برد فعل مبهر، تعاطي مع الأزمة بمرونة غير طبيعية، وتكيف مع الوضع بشكل أجهض كل مخططات الاحتلال.
بعد كل هذا الجلد على مدار أكثر من 160 يومًا لم يجد الاحتلال بدًا من إدخال بعض المساعدات – رغما عنه – للمحاصرين في القطاع، لكنه في الوقت ذاته يأبى أن يستقوى الغزيون بتلك المساعدات – رغم قلتها – على مواصلة صمودهم وتشبثهم بالحياة ورفضهم لمخطط التهجير.
وعليه جاء استهداف التجمعات المنتظرة لتلك المساعدات على أمل أن يدفعهم ذلك إلى اليأس من البقاء في القطاع، والاضطرار أمام موجات القتل، قصفًا أو جوعًا، إلى النزوح جنوبًا، لكن صمود الغزيين كالعادة كان فرس الرهان الذي سيحسم تلك المعركة عاجلًا أم آجلًا.
في السياق ذاته يأتي مشروع ميناء غزة المؤقت الذي أعلنت واشنطن عن تنفيذه، ووافقت عليه “إسرائيل”، بزعم إدخال المساعدات لغزة عبر البحر، رغم صعوباته اللوجستية مقارنة بمعبر رفح على سبيل المثال، وهو المشروع الذي أثار مخاوف البعض من احتمالية أن يكون جسرًا مباشرًا لتهجير الغزيين خارج القطاع، ونقلهم إلى قبرص ومنها إلى مختلف بلدان العالم، حيث أبدى البعض مخاوفه من أن السفن التي ستحمل المساعدات ستعود محملة بآلاف الفلسطينيين الفارين بحياتهم من الموت قصفًا وجوعًا.
كي الوعي الفلسطيني
رغم تدمير أكثر من ثلثي القطاع وسقوط ما يزيد على 100 ألف فلسطيني بين شهيد ومصاب ومفقود، ونزوح قرابة مليون ونصف مواطن، فإن ما حدث في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لا يزال عالقًا في أذهان الإسرائيليين، كابوس يؤرق مضاجعهم، وشبح يطاردهم أينها رحلوا أو نزلوا.
في المقابل، ومع هذا التدمير الذي لم تعرفه غزة من قبل، وتلك الأرقام الكبيرة للضحايا والخسائر في الممتلكات، لا يزال الغزيون ينظرون إلى طوفان الأقصى على أنها عملية القرن الحقيقية، الانتصار الذي ستتوارثه الأجيال خلال المرحلة المقبلة، الضربة التي أسقطت القناع عن أسطورة الاحتلال المزيفة وجيشها الهش، القوة الدافعة الأكثر حضورًا وتأثيرًا التي تجعل من إزالة الكيان المحتل مسألة قابلة للتحقيق بعدما كانت ضربًا من الخيال.
غالانت: الهدف من المساعدات البحرية مواصلة الإطاحة بحكم حماس في قطاع غزة pic.twitter.com/Ft1u5RcvYX
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 10, 2024
وأمام هذا المشهد المتناقض، يجيش الاحتلال كل قدراته وإمكانياته لـ”كي الوعي” الفلسطيني إزاء ما حدث في هذا اليوم، محاولًا بآلة البطش والتنكيل التي يمتلكها طمس حالة الانتصار التي خلفها الطوفان من العقل الجمعي الفلسطيني ومحوها من ذاكرته الشعبية، والعمل لإزالة كل معلم من معالم النصر وأي رمزية من الممكن أن يكون الطوفان قد أحدثها، من خلال المزيد من الإيلام والجراح والمعاناة.
أخيرًا، يتوهم الاحتلال أن بقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، وتدمير البيوت ونزوح الملايين، وإذلالهم عبر حرب التجويع ومجازر المساعدات، أنه بذلك سيقضي على حضور الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول في الأذهان والعقول والقلوب، بل وسيدفع سكان القطاع للانقلاب على المقاومة مما يجردها من قوتها ويفقدها نفوذها وهو الانتصار الذي يأمل نتنياهو وجنرالاته أن يحملوه للشارع الإسرائيلي لتبييض وجوههم في مواجهة الغضب الشعبي واتهامهم علانية بالفشل في إدارة الحرب والهزيمة على أيدي حماس ورفقائها.