عندما تتجول في شوارع مدن تونس وقراها المختلفة من شمالها إلى جنوبها، غربها وشرقها، كثيرا ما يشدّ انتباهك عدد المقاهي التي غزت الشوارع والأرصفة، فبين كل مقهى ومقهى تجد مقهى آخر، يكتظ بالشباب الذي لم يجد متنفسًا غير هذه الأماكن يقضّي فيها أغلب وقته في ظل انعدام فرص التشغيل وارتفاع نسب البطالة في البلد الذي شهد يناير 2011 ثورة نادت بالتشغيل والكرامة الوطنية.
هروب من واقع مرير
في أحد مقاهي العاصمة تونس يجلس زياد وأصدقاؤه العاطلون عن العمل لتبادل الأخبار العامة والحديث عن مستجدات سوق الشغل في البلد الذي ما زال يعاني من أزمة اقتصادية حادة عمقت أكثر أزمة البطالة لدى الشباب، ولا سيما الحاملين لشهادات عليا، في حديثه لنون بوست يقول زياد البالغ من العمر 29 سنة: “ليس لنا غير المقاهي نرتادها ونقضي فيها أغلب وقتنا”، مضيفًا “منذ حصولي على الإجازة الأساسية في علوم الحياة والأرض، قبل 5 سنوات، والمقهى ملاذي، بعد أن أغلقت أمامي جميع الأبواب الحكومية والخاصة التي طرقتها، إلا باب المقهى الذي يفتح أمامي كل يوم ولا يغلق إلا بذهابي”.
تعود أسباب هجرة الشباب التونسي للمقاهي في أغلبها، إلى العامل الاقتصادي وانتشار البطالة بينهم
ويعاني زياد، مثله مثل أصدقائه، من بطالة خانقة بسبب انخفاض فرص التشغيل، وغياب الحلول الملائمة رغم تعهّد الحكومات المتعاقبة على البلاد بإيجاد حل لهذه المعضلة التي أرّقت شباب تونس، وأصبحت شغلهم الشاغل الذي لا يفارق تفكيرهم، حتى في الأوقات المخصّصة للترفيه، بجانب زياد جلس حاتم، وهو يقلب في هاتف بين يديه، وفي لحظة تأمل، قال لنون بوست: “هذا حالنا كلّ يوم، نأتي صباحًا إلى هنا ثم نغادر مجلسنا للغذاء ونرجع بعد صلاة العصر إلى وقت العشاء، فلا شغل يشغلنا، حتى إننا نبقى في المقهى وقتًا أكثر من النادل الذي يشتغل 5 أيام فقط في الأسبوع”.
يقضي الشباب في تونس أغلب وقته في المقاهي
يعود حاتم إلى هاتفه قليلاً ثم يرفع رأسه قائلاً: “تخرّجت منذ أكثر من 6 سنوات، وحصّلت على شهادة جامعية في المحاسبة، وبعد رحلة طويلة في المؤسسات الخاصة بحثًا عن وظيفة تناسب مؤهلاتي لم يحالفني الحظ، فاخترت المقهى الذي احتضنني وفتح لي أبوابه، على أمل الحصول على فرصة عمل. وتعود أسباب هجرة الشباب التونسي للمقاهي في أغلبها، إلى العامل الاقتصادي وانتشار البطالة بينهم، حيث بلغت نسبة البطالة في تونس خلال الثلث الثاني من هذه السنة 15.3%، وبلغ عدد العاطلين عن العمل 625 ألف عاطل مع نهاية الثلث الثاني، مقابل 626 ألف عاطل عن العمل في الثلث الأول من 2017، ويسعى العديد من التونسيين إلى الهروب من الواقع المرير من خلال التوجه إلى المقاهي.
مسؤولية مشتركة
من جهته يقول الصحفي حمدي الزايدي لنون بوست: “بالنسبة إلى المقاهي اليوم فهي المتنفس الوحيد خاصة للشباب في ظل تفاقم البطالة التي طالت شريحة كبرى قرابة 650 ألف عاطل عن العمل أكثر من نصفهم من خريجي الجامعات”، وتعود كثرة المقاهي في تونس، حسب حمدي، إلى الغياب الكلي لمنافس لها سواء ثقافي أو شبابي آخر كدور الثقافة والمسارح وقاعات السينما لا سيما في الجهات الداخلية.
حمدي: “لا مبرر للبقاء في مقهى لساعات تصل لـ4 أو 5 ساعات وحتى أكثر يوميًا”
ويرجع حمدي سبب امتلاء المقاهي بالشباب طيلة أيام الأسبوع إلى الدولة والشباب، ويقول حمدي في حديثه لنون بوست: “المسؤولية مشتركة بين الدولة والشاب فالدولة لم تتجه لفئة الشباب بتوفير مساحات خاصة للإبداع ولم تسع إلى غرس عادات ثقافية جديدة تحفز الشباب على الابتكار والعمل، أما مسؤولية الشباب فتكمن في كونه أصبح يفضل المقاهي على البحث عن عمل”، ويرى محدثنا أن لا مبرر للبقاء في مقهى لساعات تصل لـ4 أو 5 ساعات وحتى أكثر يوميًا.
جميع المواضيع متاحة
لم تعد المقاهي في تونس، لاحتساء فنجان من القهوة بأنواعها المختلفة ولا الشاي، فقد باتت اليوم أشبه بحلقات نقاش، يرتادها الشباب لتحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية للبلاد، فكل المواضيع متاحة كأنك في مؤسسة إعلامية تناقش منابرها حال البلاد، كل يوم وموضوعها، فالمقاهي صدى لما يحصل في الشارع وفيها يناقش كل شيء.
تحولت المقاهي إلى ما يشبه القنوات التليفزيونية
تجد البعض يحللّ الواقع الاقتصادي لتونس وأسباب الأزمة الحادة التي تواجهها البلاد وتراجع المقدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع نسب البطالة في صفوف الشباب، والحلول الكفيلة للخروج منها، فيما يحلّل آخرون ما وصل له الوضع في بعض البلدان المجاورة وتأثير ذلك على تونس وأمنها، فيما يختار آخرون الحديث عن الرياضة وكرة القدم والدوريات العالمية. وأمام ارتفاع عدد مريدي المقاهي، كان أصحاب المقاهي المستفيدين الأبرز، فقد أصبحوا يكسبون رزقهم من عملائهم العاطلين عن العمل، فرغم بطالتهم ينفقون أموالاً كثيرة داخل المقهى.