استيلاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطيني صاحبه عمليات ممنهجة من تزييف التاريخ والحقائق، فيما يخدم روايته أمام الرأي العام، وذلك بالتواطؤ مع دول العالم الكبرى، وما تموله من مؤسسات وأفراد يعملون لتكميم الأفواه ونقل صورة مغلوطة عما جرى ويجري حتى الآن.
في هذا السياق، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى “أسرلة” أو “عبرنة” أسماء المناطق الفلسطينية، لفرض سيطرته عليها، وخلق هوية إسرائيلية أو يهودية وهمية مقابل إخفاء الهوية الفلسطينية، حيث طال التغيير أسماء آلاف المواقع وشمل المدن والقرى والبلدات والوديان والمغارات والكهوف والخرب والأحياء والشوارع.
نقلًا عن مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، فقد تعرض 2780 موقعًا تاريخيًا للعبرنة، منها 340 بلدة وقرية، و1000 خربة، و560 واديًا ونهرًا، و380 ينبوعًا، و198 جبلًا، و50 كهفًا، و28 قلعة وقصرًا، و14 بركة وبحيرة.
الجذور التاريخية للاستعمار اللغوي
يقول الباحث والمختص في علوم القدس والمسجد الأقصى، عبد الله معروف، لـ”نون بوست”: “أول محاولة فعلية لتغيير الهوية اللغوية في فلسطين، تعود إلى بدايات مراحل هجرة المستوطنين الأوائل إلى الأراضي الفلسطينية في نهاية العهد العثماني، حيث حرصت هذه المجموعات على تسمية المناطق التي سكنتها في المستوطنات الأولى بالأراضي الفلسطينية تسميات عبرية، أغلبها مأخوذ من النصوص التوراتية، أو تمثل التطلعات الصهيونية”.
ويضيف معروف “مثلًا أول مستوطنة أُنشئت في الأراضي الفلسطينية على الإطلاق، كانت بيت حتيفا التي كان اسمها يعني “فتحة الأمل” في اللغة العبرية، التي تمّ بعثها في القرن التاسع عشر وإخراجها من المعابد اليهودية، لتصبح لغة معمولًا بها ولغة يومية، ثم كانت المستوطنة الثانية ريشن داتسيون وتعني “الأولى في صهيون”، وأخذت تسميتها من التوراة. إذًا لم يكن في البداية تغييرًا للأسماء، بل كان اختراع أسماء جديدة”.
يشير معروف إلى أن دولة الاحتلال توجّهت عشية النكبة إلى عبرنة المواقع الفلسطينية التي احتلتها عام 1948، وحوّلت عكا إلى عكو، وحيفا إلى خيفا، وبئر السبع إلى بير شيفا، وعسقلان إلى آشكيلون، ثم تطور الوضع مع الاستيطان الذي حدث عام 1967 في الضفة الغربية، من خلال إطلاق تسميات عبرية كاملة على المناطق والشوارع في مدينة القدس.
ولم تكن جهود العبرنة عشوائية بل ممنهجة، إذ حرصت الحكومة البريطانية عند انتدابها الأراضي الفلسطينية على إعلان اللغة العبرية لغة رسمية في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية، وآنذاك بدأت جهود العبرنة على يد حركة “شباب هاحالوتس”، التي بدأت ببرنامج عبرنة المستوطنات الحديثة التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي.
من أهم الأدوات التي ساعدت الاحتلال في المضيّ قدمًا بعبرنة المناطق وإضفاء الطابع اليهودي على الأراضي الفلسطينية، هو اعتراف الغرب بالتسميات العبرية واستخدامها بشكل رسمي، باعتبار “إسرائيل” الحكومة الشرعية في فلسطين منذ عام 1948، كما قال المحاضر الخبير في المعارف المقدسية محمود سعيد الشجراوي لـ”نون بوست”.
مؤكدًا أن هذه المسميات التي عبرنتها “إسرائيل”، دخلت إلى الحوار الغربي الإسرائيلي طوال دعم الغرب للكيان الإسرائيلي، ما أضفى عليها قوة وشرعية، حيث اعتبرت هذه الدول، خصوصًا أمريكا وبريطانيا، والتي أطلق عليها “أمهات إسرائيل”، هذا الإجراء من ضمن فرضها لـ”إسرائيل” واعترافها بها كحكومة شرعية لفلسطين.
أسباب عبرنة أسماء المناطق الفلسطينية
تهدف “إسرائيل” من خلال ممارساتها المتعلقة بتغيير وأسرلة أسماء المناطق الفلسطينية، إلى طمس وإخفاء معالم الهوية الفلسطينية المتعلقة بالأراضي الفلسطينية بالكامل، كما تضمن لها هذه الممارسات فرض وتأكيد سيطرتها على هذه الأراضي، وقطع أي علاقة بين الفلسطينيين وأراضيهم.
وفقًا لما قاله الشجراوي لـ”نون بوست”، فإن أهم سبب دفع “إسرائيل” لعبرنة المواقع وصناعة هوية وتاريخ مزيفيَن، أنها دولة بلا تاريخ ولا جغرافيا، فهي تحاول من خلال هذه الممارسات صناعة تاريخ وجغرافيا وثقافة وفلكلور، فسرقت أيضًا الكثير من الأكلات الفلسطينية التي تمثل تراثًا فلسطينيًّا، مثل الفلافل والحمّص، وصدرتها على أنها من ضمن التراث الإسرائيلي.
وأكّد الشجراوي في سياق حديثه عن أسباب عبرنة وأسرلة المرافق والمواقع الفلسطينية، أن الجيل الثاني من أبناء المهاجرين الإسرائيليين لا يعرف الأسماء الفلسطينية للمناطق، بل يعرفها بأسمائها العبرية، ما جعل العبرنة تحقق هدفها بصناعة ذاكرة الأجيال اللاحقة من المستوطنين، بالإضافة إلى تأثيرها على السياح، كما تلغي حق العودة الذي ينادي به الفلسطينيون، تبعًا لتغيُّر ملامح الجغرافيا والتاريخ الفلسطينيَّين.
ومن أهداف الاحتلال التي يرمي إليها عبر تهويد المناطق، تغييب ملامح التاريخ الفلسطيني، وتأكيد روايته الوهمية التي تربطه بالأراضي الفلسطينية تاريخيًّا، والعمل على صناعة هوية مزيفة تربط دولة الاحتلال بالأراضي الفلسطينية، باعتبار الهوية أهم مكونات ثقافة أي شعب، وعدم وجودها يعني بالضرورة عدم تجذّر هذا الشعب في الأرض، والعمل على صناعة ذاكرة مزيفة يمكن من خلالها ربط الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين بالأراضي الفلسطينية، عبر تزييف الهوية الجغرافية للمناطق والعبث بمكوناتها.
ومن المدن التي تغيرت أسماؤها، القدس التي أصبحت أورشليم، والناصرة التي صارت نتسيرت، ويافا صار يطلق عليها يفو، وعكا تغير اسمها إلى عكو، وصفد إلى صفاد، والخالصة إلى شمونة، وصرفند إلى تسريفين، وزرعين إلى يزرعيل، وتسيبوري هي بالأصل صفورية، وأحيهود هي البروة، وأشكلون هي عسقلان، واللود هي اللد، وزخاريا هي قرية زكريا، وكيرم شالوم هي كرم أبو سالم.
آليات الاحتلال في تغيير أسماء المواقع الفلسطينية
تلجأ “إسرائيل” خلال عملية تهويد المواقع الفلسطينية إلى عدة طرق، إحداها باستخدام أسماء مستمدة من التوراة، وذلك بهدف ترسيخ الرواية الإسرائيلية عن الجذور الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وتغيير الأسماء كليًّا، وترجمة الأسماء الفلسطينية إلى العبرية.
تعمد دولة الاحتلال من خلال ممارساتها إلى فرض هيمنة اللغة العبرية على كل مرافق الحياة في فلسطين، وذلك من خلال فرض اللغة العبرية كلغة أساسية في المدارس والتعاملات الرسمية، إذ يؤكد الشجراوي لـ”نون بوست” أن الكثير من الفلسطينيين يتحدثون العبرية بطلاقة، حتى لا تكاد تعرف أنهم عرب الأصل، كما أن اللغة العبرية تستخدم في الإعلانات الطرقية والمراسلات الرسمية والدوائر الحكومية.
قام ناشطون فلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي بمبادرة بعنوان “ما اسمهاش”، تسلط الضوء على أسماء وصور البلدات التي غيّرها الاحتلال، بهدف التذكير بأصول وأسماء هذه المناطق
وتعدّ عبرنة المواقع الفلسطينية والمدن جريمة من الجرائم الثقافية التي يرتكبها الاحتلال في سياق استعماره للأراضي الفلسطينة واغتصابه لها، إذ يشكّل ذلك انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي، الذي ينصّ على حماية الهوية الثقافية للشعوب، فتلزم اتفاقية لاهاي عام 1954 وفقًا لمادتَيها 3 و4، حماية الممتلكات الثقافية واحترامها، كما ترتّب المادة 5 من القانون نفسه التزامات على دولة الاحتلال التي تحتل جزءًا أو كلًّا من أرض شعب آخر، بحماية ممتلكاته الثقافية.
أكد مستشار القانون الدولي عبد العزيز النجيب لـ”نون بوست”، أن المعاهدات الدولية تعمل على حماية الأسماء الجغرافية للمناطق، وتمنع تغييرها دون سبب مشروع، مضيفًا أن قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر عن الأمم المتحدة، يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
وتدين نصوص القانون الدولي الإنساني هذه الممارسات التي تتناقض مع حماية الإرث الثقافي والتاريخي للشعوب، فيما يعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر عام 1948، أساسًا قانونيًّا يمنع “إسرائيل” من تهويد الأراضي المحتلة.
آليات مواجهة عبرنة المناطق
قام مؤخرًا ناشطون فلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي بمبادرة بعنوان “ما اسمهاش”، تسلط الضوء على أسماء وصور البلدات التي غيّرها الاحتلال، بهدف التذكير بأصول وأسماء هذه المناطق، وذلك من خلال نشر فيديوهات وصور للأسماء الفلسطينية للمواقع الجغرافية التي تمّت عبرنتها على مدى عقود.
وأكد الناشطون خلال الحملة أن إيلات اسمها أم الرشراش، وأورشليم هي القدس، ونتانيا هي أم خالد، وأحيهود هي البروة، واللود هي اللد، وبيت شيمس هي بيت شمس.
تقول رانية نصر، عضوة هيئة علماء فلسطين، لـ”نون بوست”: “يحاول الاحتلال دائمًا تزييف الوعي الجمعي، من خلال توظيف الإعلام وأدواته مثل الحرب الباردة والحرب النفسية لبلوغ غاياته، فهو يعتمد على البروباغندا في الترويج لروايته.
مؤكدة أنه يقوم بالضغط على كثير من منصات الإعلام الرقمي لتقييد الرواية الفلسطينية مقابل دعم الرواية الصهيونية، من خلال طلب غلق الحسابات الداعمة للقضية الفلسطينية، مقابل تمويلات تقدَّر بالملايين لأصحاب تلك المنصات مثل فيسبوك، وظهر هذا جليًّا بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقد اعتذرت إدارة فيسبوك رسميًّا عندما تم اكتشاف الأمر ومراجعته، ووعدت بالتقليل من سياسة الحظر لكنها زادت الحظر والتقييد”.
وحقيقة، آليات التغلب على هذا التواطؤ ربما تكون من المستحيلات، لأن هذه الشركات لا تفهم إلا لغة المال، والكيان الصهيوني يضخّ أموالًا طائلة في جيوبها لا تستطيعها شعوب العالم الثالث، ولا كثير من الحكومات التي طبعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني، لذلك يبقى الحل الفردي هو الأجدى، من خلال التوعية بما يرتكبه هذا الاحتلال من ممارسات تنتهك القوانين الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني من سرقة هويته الثقافية والتاريخية، واستثمار الفرص التي أفرزتها معركة “طوفان الأقصى” من ارتفاع التأييد العالمي للقضية الفلسطينية وتوظيفه في خدمتها على جميع الأصعدة.