يصادف بعض ما أكتب هوى عند الإسلاميين في تونس، فيتداولون المنشور فأصنف من قبل تيار الاستئصال (خوانجي) وأتعرض للإقصاء، والسبيل الوحيد للنجاة (أي القبول في النخبة) هي أن أكتب ضد الإسلاميين. من هنا يبدأ الاستئصال السياسي للإسلاميين، ألا يكونوا أبدًا موضوع تفهم أو تعاطف أو حتى تجاهل، بل أن يكونوا موضوع تحقير وامتهان وربما تهجير لو توافرت وجهة.
لذلك سأكتب عن الاستئصال وأكشف حيل الاستئصالي وهو في كل الحالات سهل الكشف لأنه سلوك غريزي عدواني يسهل الانتباه له في ثنايا القول والممارسة.
الاستئصال غريزة عدوانية
ما يكتب عن تونس يصح في الجزائر والمغرب ومصر وبلاد الشام ويشارك فيه عباس وشلة التنسيق الأمني المقدس، لذلك نتحدث عن تونس كعَيِّنَة إذ تذكرنا معارك الاستئصال التي عشناها كلما ظهر إسلاميون يودون المشاركة في إدارة بلدانهم بمعارك حيوانات الغابة حيث المفترس لا يقبل شريكًا في طريدته حتى يشبع، والفارق الوحيد أن من يمارس الاستئصال السياسي لا يشبع أبدًا فلا يترك شيئًا من فضلته لحيوانات أدنى منه في السلسلة الغذائية (بعض الإسلاميين يحبون أن يكونوا موضوعًا للاستئصال ليدخلوا الجنة وهؤلاء يمارسون استئصالًا مقلوبًا وسنكتب عنهم).
في تونس يقول الاستئصالي ويحظى قوله بالترحيب بل بالإجماع: لا يمكن أن يكون رئيس تونس إسلاميًا، فتسأل لماذا؟ فيقول لك الغرب لا يحب ذلك، وإذا فاز إسلامي فسيحاصر البلد اقتصاديًا وربما يتعرض لغزو خارجي.
يظهر الاستئصالي هنا غيورًا على سلامة الوطن مشفقًا على أهله، لكنه لا ينتبه إلى أنه يسلم بمبدأ أن للغرب (فرنسا في حالتنا التونسية) له حق مطلق في اختيار من يحكمنا، وقد قرر الغرب أن الإسلامي لا يكون رئيسًا، فيقول الاستئصالي مرحبًا.
لقد تحول الأمر إلى مسلمة سياسية تفرعت عنها ممارسات استئصالية، وبما أن الإسلامي ممنوع من تصدر الحكم فإن مواقع أخرى ذات تأثير تصبح حرامًا عليه منها وزارات السيادة (الأمن والدفاع والدبلوماسية والعدل)، وتزيد فرنسا في تونس شرط عدم إشراف الإسلامي على وزارات صناعة الرأي أي الثقافة والتربية.
لقد فرض مبدأ تحريم مناطق سياسية على الإسلاميين، فوسع الاستئصاليون المناطق إلى كل موقع، ولو قدروا لكانت لهم في كل موسم محرقة رابعة، إنما أعجزهم عددهم وخضوعهم لإملاءات خارجية لا ترغب في توسيع أزمات محلية قد يصلهم أذاها.
الاستئصاليون خونة الأوطان
لا يطرح الاستئصالي أبدًا السؤال: ما دخل الغرب في أمر بلده وكيفية حكمه؟ لكنه يوافقه ويستعد لقبض الثمن، فكل موقع يُمْنَع على الإسلاميين هو موقع محرر لفائدة الغرب، وقبول هذه الاشتراطات دون مقابل يحول كل عمل استئصالي إلى عمل من أعمال الخيانة. إن كل استئصالي يقبل أطروحات الغرب في حكم بلده هو خائن بالقوة وبالفعل وعمله يجرم، وهذا لا يختلف في شيء عن التنسيق الأمني المقدس في ضفة عباس.
الاستئصالي في تونس (العينة) أعطى نفسه حق ملكية الفكر التقدمي، فصار يصنف الناس طبقًا لذلك ويضع كل إسلامي (وبالتبعية كل من لا يشارك في معارك الاستئصال) في خانة الرجعية، وككل معارك التقدميين وجب محق الرجعيين ليكون عصر الرقي والتقدم.
على الأرض ومنذ الربيع العربي وجدنا أن التقدمي يعادي الديمقراطية ويخربها بالتحالف مع الغرب (سافر نواب من المجلس التأسيسي التونسي إلى البرلمان الأوروبي ليستعينوا به على حل برلمان فيه غالبية إسلامية)، وأحد الذين قادوا الوفد جوزي بوزارة الفلاحة بعد ذلك.
على الأرض وقف التقدمي التونسي والمصري والعربي عامة مع محرقة رابعة ومع جزار سوريا ومع عسكر الجزائر وحتى مع حفتر وأخيرًا مع آل سعود، فالمهم منع الإسلاميين من الوجود والمشاركة. إنه العمل الغريزي نفسه. توجد منفعة مادية ويحب التقدمي أن يأكلها وحده، والإسلامي بقانون الديمقراطية يمكن أن يقسم معه غنيمته لذلك نستعين عليه بالغرب ونصمه بالرجعية ونستبيحه حيًا وميتًا، فحتى موتى الإسلاميين في سجون الأنظمة ينعتون بالإرهابيين ولا يجب بحال ذكرهم كشهداء للقمع المنظم.
الاستئصالي لا يتوب
في المواعيد الانتخابية يقفز بعض الاستئصاليين معلنين توبتهم عن الاستئصال مثلما فعل أحدهم هذه الأيام في تونس بزيارته لقيادة حزب النهضة في سجنهم وقوله عنهم قولًا لطيفًا وبشكل فجائي.
تعتبر الزيارة في ذاتها عملًا استئصاليًا، فقد جاءت من غير ذي صفة ولوقت مخالف لكل تراتيب السجون، ثم تفضل الزائر بفقرة قصيرة عن حسن خلق الإسلاميين وصبرهم وجلدهم. لقد تبين له فجأة وبلا مقدمات أنهم طيبون وأنهم أصحاب حق لا يمن عليهم ولا يتفضل أحد، وكان نصه بمثابة إعلان توبة عن سيرة استئصالية وهنا يكون الاستئصال بالتوبة الكاذبة.
لأن التوبة عن الاستئصال تبدأ بكشف سيرة التائب الاستئصالية فيقول وجوبًا لماذا مارس ذلك وكيف ولمصلحة من وما الضرر الذي أحدثه بممارسته الاستئصالية؟ معرفة هذه السيرة تكون مقدمة محترمة للاعتذار وتمهيدًا مقبولًا لإصلاح ما فسد وقطع الطريق على عودته.
أما كتابة شهادة حسن سيرة للإسلاميين فتعني شكلًا جديدًا للاستئصال، لأن كاتبها غير مخوّل بذلك ومن خوله ليشهد لهم بحسن السلوك. إن مجرد التفكير في أنه مرجع أخلاقي وسياسي يشهد للآخرين بحسن السلوك هو موقف استئصالي يكشف أن التوبة مزيفة بل هي استمرار للغي الاستئصالي، إنه نفس تفكير التقدمي المتفضل على الرجعي ببعض حق في وجود، لذلك عنونا الورقة بدورة جديدة للاستئصال في تونس على عتبة انتخابات رئاسية بلا جمهور يمكن تحريكه.
الاستئصاليون في تونس ومنهم الزائر ذهبوا مع الانقلاب شوطًا طويلًا لأنهم توسموا فيه آلة محق للإسلاميين، فلم يلب رغبتهم ولم يمنحهم غنائمهم المنتظرة بل أطردهم من حماه، فمالوا عنه ورأوا في الانتخابات فرصة لإبعاد الرئيس لكنهم انتبهوا إلى أنهم بلا جمهور يصوت لمرشحهم فكانت زيارة قيادة النهضة في السجون.
وليس أدل على الانحطاط الأخلاقي والسياسي من التفاوض مع سجين على خروجه مقابل أثمان يدفعها خارجه ربما قبل خروجه أصلًا، فالصورة بشعة: أحدهم يتمتع بحريته كاملة يرغب في غنيمة سياسية لا قدرة له عليها بجهده الخاص فيقاول عليها مع سجين فاقد لحريته وكرامته.
نحن نشهد في تونس ممارسة نسقية للاحتقار يقوم بمقتضاها شخص بلا أخلاق سياسية (مارس التعذيب والكذب ولم يعتذر ولم يقدم نقدًا ذاتيًا علنيًا) بمساومة سجناء على حريتهم بوعد إطلاق سراحهم دون أن يقدم لهم ضمانات مكتوبة تلزمه. إنه فعل احتقار وامتهان يمسّ الناس (وهم سجناء ومقصيين) في أعمق ذواتهم وإنسانيتهم، وهذا هو الشكل الأرقى للتوحّش الذي يمكن أن يُمارسه الإنسان على الإنسان، من أجل محو هويّته ومصادرتها.
هل يتوب الاستئصالي الذي يفكر بهذه الطريقة فيفاوض سجينًا مظلومًا على حريته؟ لا نرى توبة وإنما دورة استئصال تتهيأ يجد فيها الإسلامي نفسه في موضع الطريدة التي عليها أن ترش البهارات لتحلو في أنياب الاستئصال.