في السابق، عندما كنتَ تأكل وجبة جيدة، كنتَ تصف ذلك لأصدقائك على الهاتف أو وجهًا لوجه، ولكن في أيامنا هذه بتنا نميل للتعبير عن التفاصيل الدقيقة للوجبات التي لا تُنسى، أو ربّما والعاديّة منها والتي سوف تّنسى أيضًا، عن طريق الصور، التي أصبحت تنافس أكثر من ستة آلاف لغة منطوقة في العالم وعدد لا يحصى من رموز وأنظمة الاتصالات المختلفة على مرّ التاريخ.
أثناء كتابتي لهذا المقال، كان هناك أكثر من 242 مليون صورة في إنستجرام مندرجة تحت هاشتاج #food، وأكثر من 139 صورة استخدمت هاشتاج #foodporn، فيما حمل الوسم العربيّ #أكل أكثر من مليون صورة. وبالتأكيد فعدد الصور آخذ بالتزايد مع كلّ دقيقة تمرّ على مستخدمي إنستجرام وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.
مما لا شكّ فيه أنّ تصوير الطعام لا يقتصر على المصوّرين المحترفين وحسب، وإنما بات يشمل كل من الطبّاخين المحترفين، أو سيدات البيوت، أو أيّ شخصٍ يذهب لمطعم أو يصنع في بيته وجبةً من المفترض أن تكون “عادية”، فيميل لتصويرها قبل أن يمدّ يده للطبق، ثمّ ينشغل بتعديل الصورة لإظهارها بطريقةٍ أفضل قبل نشرها. أو قد ينشغل قبل ذلك كلّه باختيار الزاوية المثاليّة للتصوير، بإضائتها وظلّها، لتكون الصورة بأجمل ما تكون.
وقد لا يتوقف الموضوع على التقاط الصورة ونشرها وحسب، بل يتعدّى لفحص الهاتف والمواقع لرؤية التفاعل معها، من أُعجب بها، ومن علّق عليها، ومن مرّ بصمتٍ عنها.
عمل كلٌّ من نشر ومشاركة صور الطعام في مواقع التواصل الاجتماعي على إعادة صياغة الطرق التي نتفاعل بها معه وننظر بها إليه، بشكلٍ جوهريّ وملحوظ.
تتعدّد النظريات والأفكار حول لماذا يجد الأشخاص الكثير من المتعة في مشاركة صور الطعام، قد يكون أبسطها ميل الفرد للحديث عن نفسه وعن فعاليّاته وما يقوم به، فتوثيق ما تأكله على مواقع التواصل الاجتماعي قد يُخبر أصدقاءك الكثير عنك و عن عاداتك، وشخصيتك، وتفضيلاتك وطقوس أكلك أو طهوك.
بالنهاية فالأكل لا يُعتبر فعلًا فرديًّا محضًا على الإطلاق، وإنما هو فعالية تشاركية اجتماعية تعمل على جمع الأشخاص وتقوية علاقاتهم وتعريفهم ببعضهم البعض، وكما أشرنا في المقال السابق، فهو يُعدّ وسيلةً للتواصل يمكن له أن يساعدك على التعبير عن ذاتك حين تخذلك اللغة، وتجد نفسك غير جيّد في العثور على الكلمات والأحاديث، أو تتعثّر في تعبيرك عن نفسك ومشاعرك، وتدخل في تعقيدات ذاتك وعواطفك.
إذن فالطعام فِعل حميمٌ جدًا، يرغب الفرد عادةً بفعله مع الأشخاص القريبين منه أو الأصدقاء، وبالتالي فهو حين يقوم بنشر صور طعامه على انستجرام أو غيره من المواقع، فهو يرغب بالانفتاح على متابعيه ومشاركتهم أمورًا عن نفسه.
ومن منظورٍ اجتماعيّ آخر، فالأشخاص دومًا عرضةً للمحاكاة والتقليد، سواءً بوعيٍ أو غير وعي، وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعيّ دورًا كبيرًا في تعزيز الرغبة بالتقليد ومحاكاة الغير، خاصة المشهورين منهم. فقد ترغب بشراء رداءٍ ما فقط من وراء رؤيتك لصورة أحدهم وهو يرتديه، أو قد ترغب بالسفر لمكانٍ ما بسبب صورة وضعها أحد آخر، وتمامًا هذا ما يحدث في حال أسقطنا الموضوع على مشاركة صور الأكل والطعام.
فقد تشاركين وجبة الطعام اللذيذة والمزيّنة التي أعددتها لتخبري من يتابعك عن قدرتك العالية في الطبخ والطهو، تمامًا مثل تلك الفتاة، أو قد تذهب لمطعمٍ ما وتصوّر وجبة طعامك فيه لتتشر ذلك على حسابك كما فعل صديقٌ لك من قبل.
ويندرج تحت نظرية التقليد، أو ما يمكن أن نسميه “trend“، فسواء وعينا لذلك أم لا، تغيرت نظرتنا للكثير من أنواع الأطعمة بناءً على مدى شهرتها ونشرها على انستجرام وغيره من المواقع، وعلى سبيل المثال لا الحصر، خذ موجة الأكل الصحيّ التي انتشرت وما زالت تنتشر بشكلٍ واسع على تلك المواقع.
قضية ال”تريند” ليست سيئة تمامًا، لكنّها تتحول كذلك حين يصبح التركيز على الألوان والمنظر والإضاءة ومحتوى الصورة من أدوات وإضافات وزخارف أهم كثيرًا من الطعم وعلى حساب جودة الأكل وفائدته.
العديد من الأطباق المزخرفة، ترتيبٌ متقَن، ألوان براقة، فواكه متعددة، أنواع مختلفة من الزيوت “الصحية”، وغيرها الكثير الكثير من الأطعمة التي لم تكن يومًا جزءًا من روتيننا اليوميّ وباتت كذلك بفعل ما نراه من صور وما ينشره الآخرون.
وعلى صعيدٍ آخر في كيفية تأثير انستجرام ولعبه دورًا كبيرًا في طرق اختيارنا لما نأكله من طعام، الكثير من صور وفيديوهات هذا الموقع تدفعنا لتجريب صنع أصناف جديدة، أو تجربة طرق جديدة في صنعه وطهوه. كما يعتمد اختيارنا للمطاعم التي نذهب إليها بشكلٍ أساسيّ على الصور التي ينشرها ذلك المطعم في حسابه في انستجرام، أو بناءً على صورةٍ وضعها صديق أو شخص مشهور آخر.
وبات ليسَ من الغريب على الإطلاق أنْ تستخدم المطاعم هذا الجانب وتقوم بالاتفاق مع ما يسمّون باسم “المؤثّرين” أو أصحاب الحسابات ذات العدد الكبير من المتابعين، فتدفع لهم مبلغًا من المال مقابل وجبةٍ مجانية، بشرط أن يقوموا بنشر صورها على حساباتهم، طمعًا في جذب انتباه الآلاف من متابعيهم.
وهنا ندخل في شفافية التسويق ومدى مصداقيته، أو في الجانب الاستهلاكي لتلك المواقع والحسابات، وكيف يقع مستخدم مواقع التواصل الاجتماعيّ ضحيةً لصورة طعامٍ منتقاة بعناية ومعدّلة بكلّ دقة، في حين أنّ طعمها أو جودتها قد لا تكون بالمستوى المطلوب، أو لا تليق بالطريقة التي تمّ الترويج لها فيها.
ذات الأمر يجعلنا نتجاهل عدة مطاعم لفقدانها للصور الكافية، أو لعدم احترافيتها في استخدام انستجرام وغيره. ولا أدعو هنا لعدم الاعتماد على آراء الآخرين وصورهم، لكن لماذا لا يكون لديك الخيار لتجريب المكان من تلقاء نفسك؟ بعيدًا عن بهرجة الصور وزيفها وكلام الآخرين الذي قد يصيب وقد يخطئ؟