شكّلت الحوالات المالية الخارجية القادمة إلى سوريا عماد حياة العائلات التي تقيم في مناطق سيطرة نظام الأسد، والتي تعاني تدهورًا اقتصاديًّا ومعيشيًّا على كافة المستويات، تبدأ من انخفاض متوسط الدخل، وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل غير مسبوق، وغياب القدرة الشرائية لليرة السورية.
ورغم سدّها جزءًا من احتياجات المواطنين السوريين، في ظل عجز الحكومة عن تغطية الفجوة المعيشية، إلا أن ذلك لم يمنعها من إصدار قرارات وتعاميم تهدف إلى التضييق على شركات والحوالات المالية، ومشاركتها في عمليات استغلال السوريين بهدف تغطية العجز عن توفير القطع الأجنبي، ما انعكس سلبًا على الحوالات النقدية التي تعتمد عليها العائلات خلال رمضان.
الحوالات المالية تنقذ العائلات في رمضان
تتحايل العائلات السورية في مناطق سيطرة نظام الأسد على الأزمة المعيشية والاقتصادية التي تشهد انهيارًا غير مسبوق، من خلال الاعتماد على الحوالات المالية الخارجية، التي تصنع فارقًا في حياتهم.
موقع “أثر برس” المحلي، كشف عن ارتفاع نسبة الحوالات المالية التي تصل العائلات في مناطق سيطرة نظام الأسد من قبل أبنائهم اللاجئين والمغتربين، إلى أكثر من 50% مع مطلع شهر رمضان الحالي، نقلًا عن شركات الصرافة والحوالات المالية في العاصمة السورية دمشق.
هشام خطاب (31 عامًا) يعمل صيدلانيًّا ويقيم في حي الحمدانية في مدينة حلب شمالي البلاد، مع عائلته وعائلة والده، قال خلال حديثه لـ”نون بوست” إن شقيقه لاجئ في تركيا، ويرسل لهم حوالات مالية بشكل شهري تقريبًا، وتتراوح بين 100 و150 دولارًا أمريكيًّا كحدّ أقصى.
وأضاف أن الحوالة المالية التي يرسلها شقيقه تعينهم على تأمين بعض الاحتياجات الأساسية، كون راتبه مقابل العمل في الصيدلية لا يغطي كافة المصاريف المعيشية، بسبب انخفاض المرتب الذي يصل إلى نصف مليون ليرة سورية (ما يعادل 35 دولارًا أمريكيًّا) شهريًّا”.
ذكر أيضًا أن غياب القدرة الشرائية لدى الأهالي تسبّب في تراجع نشاط معظم المهن، ومن بينها الأدوية رغم أنها من الأساسيات، لكنها اليوم لا تغطي تعبها في ظل فارق الأسعار ومستوى الدخل المنهار.
وأوضح أنه خلال مناسبات رمضان وعيدَي الفطر والأضحى، كان شقيقه يضاعف المبلغ المالي المرسل لتغطية النفقات التي تحتاجها العائلة، لكنه يخشى أن تنخفض خلال العام الجاري، لأن السوريين في تركيا باتوا يعيشون ظروفًا اقتصادية مماثلة.
لا يختلف واقع عائلة الخطاب عن واقع معظم العائلات التي تعيش في مناطق سيطرة نظام الأسد، والتي تبحث عن وسائل أخرى تعوّض مخاوفها من انقطاع وتضييق الحكومة المستمر على الحوالات المالية التي يعتمدون عليها.
يرسل اللاجئون والمغتربون السوريون في ألمانيا والسويد وتركيا والعراق والإمارات والأردن حوالات مالية شبه شهرية، عبر شركات ومكاتب الصرافة والحوالات المالية، إلى أهاليهم وأقاربهم في مناطق سيطرة نظام الأسد، حيث تساعد تلك الحوالات المالية في تغطية العجز المعيشي والاقتصادي الذي تعاني منه العائلات، في ظل ارتفاع الأسعار الذي شمل معظم المواد الرئيسية، بما فيها المحروقات والخبز.
محاولة لتضليل الشارع
في يناير/ كانون الثاني، تحدثت وسائل إعلام موالية عن ازدياد نسبة الحوالات المالية من اللاجئين والمغتربين السوريين إلى سوريا بنسبة تصل إلى 30% مقارنةً مع عام 2023، معلّلة أن سبب الازدياد ناتج عن ارتفاع الأسعار وندرة المحروقات في السوق السورية التي تعجز 40% من العائلات عن توفيره.
وإذ ما صحّت رواية ارتفاع نسبة الحوالات المالية الخارجية إلى سوريا، فإنها تدلّ على ازدياد معدلات الفقر ووصولها إلى الذروة، لا سيما أن أكثر من 70% من العائلات في مناطق نظام الأسد تعتمد على الحوالات الخارجية المرسلة من أبنائهم في الخارج، فيما بلغت الحوالات المالية التي تصل إلى سوريا شهريًّا مطلع العام الجاري نحو 6 ملايين دولار، وفق تقديرات مسؤول في شركة حوالات مالية عاملة في دمشق خلال حديثه لـ”أثر برس”.
من جهته، قلل الباحث الاقتصادي يونس الكريم من حجم زيادة الحوالات المالية خلال الأسبوع الأول من رمضان، معتبرًا أن أوضاع السوريين في تركيا ولبنان ومصر صعبة، بينما تعتبر أوضاعهم جيدة نسبيًّا في دول أخرى كالسعودية والدول الأوروبية، إلا أن الحوالات إلى سوريا انخفضت بسبب العقوبات الدولية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست” إن الحوالات المالية شريان حياة الناس وتمنعهم من الوقوع في المجاعة، ورغم قلتها كانت تقلّل الفجوة ما بين حجم الانهيار الاقتصادي والحد الأدنى للمعيشة وتخلق عامل مساعدة، لكن سياسات الأسد في ترتيب الاقتصاد السوري بناءً على مصالحه، تسبّب في انخفاض الحوالات المالية خاصة خلال الشهرَين الماضيَين.
وأضاف أن فشل نظام الأسد في الحصول على مساعدات عربية كان يعوّل عليها بعد مرحلة التطبيع العربي، دفعه إلى البحث عن حلول لتجاوز الأزمة، من خلال الترويج لارتفاع نسبة الحوالات المالية الخارجية، دون تحقيق أي تحسّن ملحوظ على المستوى المعيشي، ما يدل على أنها تهدف إلى التلاعب بالعامل النفسي للمواطنين.
قرارات حكومية تسبّبت في خفض الحوالات المالية
خفضت شركة الهرم للحوالات المالية في مناطق سيطرة نظام الأسد، في 22 يناير/ كانون الثاني، سقف تحويل الأموال اليومي إلى مليون ليرة سورية للشخص الواحد، بعدما كانت نحو 5 ملايين ليرة سورية، لأسباب لم تفصح عنها الشركة.
لكن في 28 يناير/ كانون الثاني كشفت مصادر لـ”أثر برس” عن تخفيض جديد، وصل فيه سقف الحوالات المالية الأسبوعي إلى مليون ليرة سورية للشخص الواحد، ذلك شريطة إبراز سجلّ عقاري لصاحب التحويل، وفي حال عدم توافر السجلّ التجاري يمكن الحصول على مبلغ دون المليون ليرة سورية.
جاء ذلك عقب إصدار رأس النظام بشار الأسد مرسومَين تشريعيَّين، في 20 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، في سياق الهيمنة على الاقتصاد المتهاوي واحتكار القطع الأجنبي، نصَّ أولهما على منع التعامل بالعملات الأجنبية في سوريا، بينما يفرض الثاني عقوبات مشددة على شركات ومكاتب صرافة دون ترخيص، وتحويل النقد الأجنبي إلى خارج سوريا.
وكانت شريحة واسعة من السوريين تعتمد على الحوالات المالية غير الرسمية، التي تحوَّل عبر السوق السوداء عبر أشخاص متجولين، لأن شركات الصرافة تضع تسعيرة البنك المركزي لتسليم الحوالات المالية، إلا أنها تقلصت نتيجة تلك القرارات، في وقت تشكّل فيه الحوالات المالية مصدرًا رئيسيًّا للقطع الأجنبي الذي يستحوذ عليه البنك المركزي السوري بهدف تغطية الاستيرادات.
يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم أن التدهور الاقتصادي والقرارات الحكومية التي اتخذها نظام الأسد منذ منتصف عام 2023، وما تبعها مطلع العام، تسبّبا في تعميق فجوة الفقر ومضاعفة معاناة الناس، لا سيما أنها قلصت حجم المساعدات التي كانت تأتي من الخارج، سواء كانت على مستوى الأفراد والشركات، وحتى المساعدات الأممية التي حاصرها بقرارات مماثلة.
واعتبر أن قرارات نظام الأسد قيّدت حركة الحوالات المالية إلى سوريا، وحصرتها ببعض الشركات التي تربّحت من القرار بشكل مبالغ فيه، من خلال إصرارها على استخدام سعر الحوالات الرسمي الذي يقلّ عن تسعيرة السوق السواء بنسبة 25%، فضلًا عن التوتر بين مناطق السيطرة في الشمال، والتي كانت تعدّ بوابة عبر تركيا للحوالات المالية للالتفاف على العقوبات.
بدأ نظام الأسد منذ مطلع العام الحالي سياسة اقتصادية جديدة، مارس خلالها التضييق على الحوالات المالية، من حيث توثيق الأسماء، وتحديد سعر صرف الليرة حسب تسعيرة البنك المركزي، والكشف عن الجهات التي تحوّل الأموال، وآلية الاستلام، ما ضاعف العقبات أمام ضخّ السيولة المالية.
تعدّ الحوالات المالية المصدر الثالث لتكوين الاحتياطي لدى البنك المركزي السوري، بعد تجارة المخدرات والتهريب عبر الحدود، الذي يهدف إلى تمويل المستوردات، لكن خطوات نظام الأسد في ترتيب الاقتصاد ترافقت مع حملة دولية لمكافحة المخدرات من مناطق الأسد، ما أدّى إلى انخفاض حجم الاستيراد بسبب عدم توفر القطع الأجنبي.
وأوضح الباحث أن الأسباب وراء إجراءات نظام الأسد، تهدف إلى معرفة الدول التي تجري منها الحوالات المالية، ومحاصرة الشركات التي تجمع الأموال في الخارج، ومنع تهريب أموال التجار، وتحقيق أرباح مالية للشركات دون أن يكون نظام الأسد شريكًا بها؛ فضلًا عن المعرفة الأمنية بخصوص الأموال المحولة إلى الداخل، للكشف عن أي تحركات مشبوهة في البلاد، وتسريب معلومات كثيرة أراد النظام مراقبتها، والضغط على السوريين بعمليات التجنيد والانصياع للأسد.
تكاليف معيشية مرهقة في رمضان
مع تراجع الحوالات المالية إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، ازداد الركود الاقتصادي وسط استمرار ارتفاع الأسعار، ما ساهم في انهيار القدرة الشرائية للناس وارتفاع تكاليف المعيشة، الذي كشف حجم الفجوة بين مصادر الدخل وتكلفة المعيشة، مع غياب كلّي للحلول الحكومية الحقيقية.
وبلغت كلفة سحور ليوم واحد من عائلة مؤلفة من 5 أشخاص نحو 100 ألف ليرة سورية (ما يعادل 7 دولارات أمريكية)، بينما تبلغ تكلفة السحور والإفطار على امتداد شهر كامل نحو 8 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 570 دولارًا أمريكيًّا)، حسب أمين سر جمعية حماية المستهلك عبد الرزاق خبزة، خلال حديثه لـ”شام أف أم”.
وتعليقًا على ذلك، رأى الباحث أن الكلفة تعتمد على آلية التقييم، بمعنى أنها تختلف من عائلة إلى أخرى من خلال تنوع أطباق الطعام، لكن السوريين تجاوزوا هذه المرحلة، وباتوا يعتمدون على طبق، وطبقَين بالأكثر، وهذا إن وُجد فإنه يعتمد على عمل كافة أفراد العائلة.
وتابع أن الكلفة في الوضع الحالي تتراوح بين 6 و7 ملايين ليرة سورية بالشهر للعائلة المكونة من 5 أفراد، لكن إذا ما قيّمناها على مستوى المعيشة في عام 2010، فإن مستوى الإنفاق اليومي للعائلة في رمضان يصل إلى 700 ألف ليرة سورية (قرابة 50 دولارًا أمريكيًّا).
دفع ذلك إلى نشاط التضامن الاجتماعي بين العائلات، من خلال تقسيم الحوالة المالية التي تتراوح بين 100 و300 دولار أمريكي كانت ترسل إلى عائلة واحدة، أصبحت توزّع على عدة عوائل، ما يعني أن العائلة تحصل على مبلغ يتراوح بين 50 و150 دولارًا كحدّ أقصى، ورغم ذلك لا يغطي تكاليف المعيشة شهريًّا.
تسبّبت الضغوط المعيشية ومحاولات نظام الأسد في الهيمنة على قطاع الحوالات المالية، في البحث عن بدائل جديدة علّها تنقذهم، ولعلّ أبرزها الهجرة من سوريا إلى دول الإمارات وأربيل ومصر وتركيا، وهذا ما يحصل بأعداد ضخمة، إضافة إلى مغادرة رجال الأعمال البلاد نتيجة فشل مشاريعهم في ظل انهيار القدرة الشرائية، فضلًا عن القرارات الاقتصادية غير المدروسة.