بطول نحو كيلومتر، يمتد وسط مدينة غازي عنتاب التركية شارع يُعرف بـ”السوق الإيراني”، تطلق هذه التسمية على الجزء الجنوبي من شارع إينونو في غازي عنتاب، أو شارع عصمت إينونو (الرئيس الثاني للجمهورية التركية (1938-1950))، مع أن المقصود بالمكان تمامًا ليس الشارع نفسه وهو شارع رئيسي، بل أحد فروعه المسمّى بشارع التركمان، لكن التسمية انصرفت إلى الشارع الرئيسي من باب إطلاق الخاص على العام على ما يبدو، أو بسبب الاعتياد على تلك التسمية.
سألنا -خلال إعدادنا هذا التقرير- بعض المسنين الأتراك في المنطقة حول سبب هذه التسمية أصلًا (السوق الإيراني)، فأجمعوا على أنها تعود إلى 30 أو 40 سنة خلت، فقد كان المكان (شارع التركمان تحديدًا) مركز تجمع للمسافرين الإيرانيين والعراقيين على وجه الخصوص، تقام فيه الأسواق الشعبية للملابس والأغذية وغيرها.
كما كان مركزًا أو محطة انطلاق لسيارات وحافلات نقل الركاب من العراق وإيران إلى تركيا وبالعكس، لكن هذه الظاهرة اختفت منذ 10 أو 15 سنة على الأقل، ولم تعد مدينة غازي عنتاب مركزًا أو وجهة لسفر الإيرانيين على الإطلاق، وبقي بعض العراقيين الذين يعملون في قطاع السفريات.
بالفعل كانت هناك مكاتب سفريات في الجهة الأخرى، كما قال لنا محمد غسان (50 سنة) صاحب مكتب المجد للسفريات، والذي غادر مدينة الموصل هربًا من احتلال “داعش” في يونيو/ حزيران 2014: “لا يوجد إيراني واحد في المنطقة، أما العراقيون فعددنا نحو الـ 20، يعمل الجميع في 8 مكاتب متجاورة وكلها للسفريات بواسطة السيارات وليس الحافلات إلى العراق، وطبعًا عبر الحدود التركية معه فقط”.
أما السوريون الذين سألناهم عن سبب تسمية شارع التركمان أو شارع إينونو بهذا الاسم، فأجمع معظمهم على عدم المعرفة الواضحة، وقال ممدوح عبد القادر (55 سنة)، وهو صاحب مكتب الآغا للحوالات المالية، من قرية أخترين في ريف حلب، والذي فرَّ من قريته للسبب نفسه، أي “داعش”، إثر اقتحامها القرية بعد شهرَين من اقتحام الموصل: “مهما كان سبب التسمية، لكن الواقع الآن والأحوال السائدة وكل هذا الوجود السوري في المنطقة يجعل التسمية الصحيحة والمناسبة هي الشارع السوري”.
من الواضح جدًّا للعيان وبالتجربة أن هذه الفكرة لم تكن فكرةً أو مقترحًا فحسب، بل يبدو أن الكثير من الأتراك أنفسهم أصبحوا يطلقون على هذا الشارع اسم الشارع السوري، فيقبلون بهذه التسمية ويرونها معبّرة عن الواقع، واقع الوجود السوري الكثيف على صعيد الفعاليات والمحال التجارية، والاكتظاظ السوري أيضًا على صعيد السكن والإقامة، وليس هو المكان الوحيد في غازي عنتاب الذي تطلق صفة السوريين عليه، فهناك مثلًا حديقة السوريين وساحة السوريين، بسبب التجمع السوري الموجود في المنطقة.
يقول عمار ريحاوي (29 سنة) من مدينة حلب، وهو عامل في محل تاد للفروج النيء، وكذلك محمود إبراهيم (30 سنة) من حلب أيضًا، وصاحب محل سمانة سامبا، ويقع محلاهما على الشارع الرئيسي أي شارع إينونو: “المسألة بسيطة، بالإمكان عدّ المحلات وأصحابها اعتبارًا من بداية الشارع وحتى نهايته وعلى الجانبَين”، وبالفعل قمنا بالتجربة، 20 محلًّا على الجانب الأيمن من جهة الجنوب كان بينها 14 محلًّا لسوريين، و25 محلًّا على الجانب الآخر كان بينها 16 من المحلات السورية”.
يعني هذا تقريبًا 60-65% من مجموع العينة، مع الإشارة إلى أنه لا تخلو الكثير من المحال العائدة للأتراك من موظفين أو عمّال أو مساعدين سوريين، في المطاعم والمقاهي، ومحلات الألبسة والموبايلات، والحلويات والمعجنات، ومحلات السمانة والخضار، وفي الأفران والصيدليات، هذا لم نتكلم عن الباعة المتجولين وبضائعهم المتنوعة.
إحصائيات
وفق رئاسة إدارة الهجرة التركية، فإن عدد السوريين في ولاية غازي عنتاب التركية، من حَمَلة بطاقات الحماية المؤقتة وليس عددهم الإجمالي، قد بلغ حتى نهاية عام 2023 نحو 425 ألف سوري.
يتركز معظم السوريين في مدينة غازي عنتاب وليس في بقية مدن الولاية، ومع حساب أن عدد سكان ولاية غازي عنتاب قد بلغ حتى عام 2021 نحو مليونَي نسمة، فإنه تقديريًّا يمكن القول إنه من بين خمسة من سكان الولاية يوجد سوري واحد، ويوجد سوري واحد بين كل أربعة من سكان مدينة غازي عنتاب، وهذه في الحقيقة نسبة عالية قياسًا للأعداد بين المجتمع المضيف والمجتمع الضيف، وجعلت من الوجود السوري في هذه المدينة خصوصًا أمرًا واقعًا ومؤثرًا، وفي فترة قياسية.
مراد كايا (27 سنة)، وهو موظف الاستقبال في فندق مورات المعروف في “السوق الإيراني”، قال: “لقد اعتدنا تمامًا على الوجود السوري في كل مكان، وحتى زبائن الفندق قسم كبير منهم من السوريين، لقد بدأت أتعلم اللغة العربية بالفعل، خاصة أن أكثر زبائن المقهى المجاور الذي اعتدت الذهاب إليه هم من السوريين، وأنا ألعب الورق معهم، والحقيقة لا أتذكر حدوث مشاكل مع أي سوري، أهلًا بهم”.
لكن.. هل الجميع يرحّبون فعلًا بالسوريين؟
كان لا بدَّ من أخذ آراء شريحة من السوريين في الشارع أو السوق موضوع هذا التقرير، وفي المقابل أيضًا سؤال آخرين من الأتراك إضافة إلى السيد كايا، كيف يرى كل من الطرفَين السوري والتركي في “السوق الإيراني” الحالة أو العلاقات بينهما، أو باختصار: كيف تجري الأمور في ظل هذه الأوضاع التي كانت مستجدّة فأصبحت مستمرة وتحولت إلى أمر واقع؟
حرصنا قدر المستطاع أن يكون ثمة اختلاف في الأعمار والأعمال أو المهن بين الأشخاص الذين سألناهم وسمحوا لنا بذكر هوياتهم، كذلك بالنسبة إلى السوريين على تنوع محافظاتهم أو الأمكنة التي تركوها في سوريا لاجئين إلى غازي عنتاب، متخذين من “السوق الإيراني” مركزًا لتحصيل لقم العيش أو للسكن، وما هي أسباب اللجوء أيضًا.
استقبلَنا الصيدلاني التركي أهميت كالانجي (65 عامًا) صاحب صيدلية كالانجي، التي تقع تمامًا عند تقاطع شارع إينونو مع شارع التركمان، أي في وسط “السوق الإيراني”، ويعلق على واجهتها الزجاجية لافتة صغيرة باللغة العربية كُتب عليها “نصرف الدواء للسوريين”.
وطبعًا هذه اللافتة أو ما يماثلها موجودة في الكثير من الصيدليات التركية في غازي عنتاب وغيرها من المدن التركية، والسبب اشتراك أصحابها بخدمة التأمين الصحي المجاني للسوريين الحاصلين على الحماية المؤقتة في تركيا، ما يمكّنهم من صرف الأدوية التي توصف لهم بوصفات طبية رسمية من المشافي أو المراكز الصحية مجانًا.
لكن في حالة السيد كالانجي، وكما قال: “بوصفات وبغير وصفات فإن معظم زبائني من السوريين، أصلًا هل يوجد أتراك في المنطقة” قالها مبتسمًا، كان لطيفًا، وعندما سألناه كيف يرى العلاقة بين السوريين والأتراك هنا، قال: “كل شيء جيد، فقط على السوريين أن يتوقفوا عن إثارة المشاكل بين بعضهم، وستسير الأمور بشكل حسن”.
صديقي المترجم، واسمه علي الحسين من حلب، قال لي: “معه حق، لقد عانت هذه المنطقة كثيرًا من شجارات وحوادث وحتى جرائم قتل ارتكبها سوريون بأنفسهم ضد سوريين آخرين”، وأضاف علي، وهو من سكان “السوق الإيراني”: “ألم تسمع بالسوري الذي قتل سوريًّا من أجل علبة سجائر؟”.
في الحقيقة سمعنا عن مشاكل وحوادث كثيرة جرت في غازي عنتاب منذ قدومنا إليها، لكن لم نسمع عن ظواهر محددة، بمعنى أن العنف ليس ظاهرة مجتمعية لا عند الأتراك ولا عند السوريين، كما أنه إن حدث فليس مختصًّا بفئة أو طرف منهما، أو موجّهًا من طرف إلى آخر بالتحديد، يمكن القول ببساطة إن المجتمعات بطبيعتها قائمة على التنوع في كل شيء، ولا يمكن وصم مجتمعات كاملة بعينها بصفات عامة، وإن افتراض مستوى واحد من الأخلاق والمحددات العضوية والسلوكية لدى الجميع أمر غير ممكن، ولا يمكن تصوره قطعًا.
جلسنا في مقهى ومطعم القلعة، محل واسع ومؤثَّث بشكل مكلف يقدم جميع أنواع المشروبات والأطعمة، المستثمر سوري والموظفين والعمال سوريون، وأما الزبائن فسوريون وأتراك، كثير من الأتراك يأتون إلى هنا خاصة لشرب النرجيلة كما هو اسم الأركيلة بالتركية (نارجيلا).
أخبرنا عامل الأراكيل محمد وليد صالح (28 سنة)، وهو من تدمر، أنه نزح منها بسبب الحرب عمومًا، “داعش” من جانب ومن الجانب الآخر قصف قوات النظام السوري، ولجأ بعدها إلى تركيا، قُتل اثنان من إخوانه في المعارك على الجبهات الشمالية ضد قوات النظام، ولا يزال اثنان آخران في الجيش الوطني، تحديدًا في فصيل “أسود الشرقية”.
وقال محمد وليد: “أعاني كثيرًا من الوحدة، فأنا هنا بلا أي أقرباء وأريد الزواج لكنني لا أستطيع، وأما عن الأتراك الذين أتعامل معهم في المقهى فهم لطفاء ويحبون المكان، لكن خارج المقهى ليست لي علاقات مع أحد من الأتراك، أصلًا ليس لدي وقت سوى للعمل والنوم، وأتمنى أن أعود إلى سوريا في أقرب وقت ممكن”.
أحد السوريين من أصحاب محال بيع الحلويات العربية في “السوق الإيراني”، لم يشأ إجراء لقاء معه، لكنه أجاب عن سؤالنا: هل ستمنح العامل الحد الأدنى للأجور في تركيا؟، قال: “نحن ثلاثة في المحل، فليأخذ ربع الربح، أليس هذا عدلًا؟”.
يوجد محلان لبيع الأسماك في “السوق الإيراني”، يقعان على صف واحد وتفصل بينهما بضعة محلات، واحد سوري والآخر تركي يعمل فيه سوريون وأتراك، روى لنا أوسطة حسن (55 سنة) صاحب المحل التركي “أوكانوس بالك إيفي”، وهو مطعم في الوقت نفسه، أنه يتذكر منذ كان في العاشرة من عمره كيف كان الإيرانيون والعراقيون يأتون إلى هذا المكان ويقيمون الأسواق الشعبية المتنوعة.
قال إيضًا أنه كان مركزًا لتجمع الحجيج من العراق وإيران وأذربيجان وغيرها، للذهاب من غازي عنتاب إلى حلب ثم إكمال رحلتهم نحو الحجاز، هكذا يسمّي الأتراك المناطق المقدسة في السعودية، يقصدون مكة المكرمة والمدينة المنورة.
بسؤال أوسطة حسن عن علاقته وعلاقة الأتراك مع السوريين، أشار إلى أحد العاملين الرئيسيين لديه، وهو أبو أحمد (لم يشأ ذكر اسمه الصريح)، قال لنا: “اسألوه هو”، ضحك أبو أحمد وقال: “أوسطة حسن ابن عمتي أصلًا”، وأردف: “أنا تركماني من جرابلس، وبيننا وبين الأتراك خاصةً في المناطق الجنوبية من تركيا علاقات مصاهرة قديمة، عمتي سورية وتزوجها والد أوسطة حسن، وزوجتي أنا تركية أيضًا، وأنتظر قرار تجنيسي في أقرب وقت”.
مكملًا: “العلاقات هنا بين الجميع جيدة، قد تنغّصها بعض التصرفات الفردية، لكن على العموم زبائن المحل هم من الأتراك والسوريين، وقد تجد الكثيرين منهم يتشاركون وجبات الغداء، منهم الأصدقاء ومنهم من يتشاركون العمل أو يعملون في المصلحة نفسها”.
سمعنا عن العديد وربما الكثير من الزيجات المختلطة بين أتراك وسوريات أو سوريين وتركيات، في غازي عنتاب خصوصًا وفي تركيا عمومًا، ويحتاج هذا غالبًا إلى إجراء تحقيقات استقصائية خاصة، لكن لا بدَّ من الإشارة إلى أهمية وأثر هذا “الاختلاط العائلي”، وما يضيفه ويضفيه على تحسين العلاقات بين المجتمعَين، وعلى تقريب الأفكار بين شعبَين قد يكون الحاجز الأكبر بينهما هو اختلاف اللغة وليست حواجز الدين أو العادات والقيم المشتركة.
يقول أحمد الأبرص (30 سنة) من حريتان في ريف حلب الشمالي، وهو صاحب محل رمسيس، محل صغير لبيع وإصلاح الموبايلات، وقد نزح من قريته بسبب “داعش” والنظام: “علاقاتنا مع الأتراك جيدة جدًّا، ولا توجد أية مشاكل”.
وعندما أخبرناه أن أحد جيرانه في الشارع (وهو صاحب محل لبيع التبوغ وملحقاتها، رفض تمامًا ذكر اسمه) قال لنا إن التضييق الأمني وصل حدًّا لا يطاق من القسوة وعدم الاحترام، وأنهم يفكرون (أي أصحاب المحال السوريون) في القيام بإضراب بسبب الدوريات والملاحقات التي لا تتوقف، أجاب أحمد الأبرص: “غير صحيح، في الحقيقة غير صحيح أبدًّا، من حق الدولة التركية تحقيق الأمن، وما زال مئات السوريين يتدفقون عبر الحدود بواسطة المهربين يوميًّا، وكلهم بلا إقامات نظامية، وكيف يمكن التعامل مع أشخاص غير معروفين في أي بلد؟ لكن بعض الناس يحاولون تضخيم الأمور، هذه الحملة الأمنية التي يتكلمون عنها صار لها بضعة أيام فقط، وستنتهي بسرعة”.
تعرضت وأنا أتجول في السوق باحثًا عن إجابات أو لقاءات لمساءلة الدورية الثابتة التي كانت تتمركز في آخر شارع إينونو، كان كل ما في الأمر السؤال عن البطاقة الشخصية أو “الكيمليك”، فأخرجت إجازة القيادة، قام عنصر الشرطة بـ”تفييشي”، ثم سألني: “أنت من إدلب؟”، قلت: “نعم”، قال: “تفضل”، ومضيت.
عمومًا، اختلفت أو تراوحت أجوبة من سألناهم حول أسباب لجوئهم إلى تركيا بين “داعش” والنظام، أو بسببهما معًا، أو بسبب الحرب بشكل عام، وكانت أسباب الأجوبة أصلًا هي المناطق التي كانوا يقيمون فيها والأوقات التي فرّوا خلالها.
ما الذي حصل ومتى؟ فأبناء إدلب عمومًا مثل سعد ناصر (28 سنة) من قرية الدانا، ويعمل موظفًا في مكتب حوالات الهدى، ومصطفى عجوم (27 سنة) العامل في محل فطائر الحريتاني، وهو من حلب، قالا إن النظام وقصف طائراته كانا السبب الوحيد في النزوح، الأول أتى حديثًا إلى غازي عنتاب فأجاب عند سؤاله كيف يرى الأتراك: “وصلت من وقت قصير حتى أرى خيرهم من شرهم”؛ أما الثاني فأجاب عن السؤال نفسه: “يا جاري مالك ومالي، انت بحالك وأنا بحالي”، وضحك.
أم محمد (40 سنة) من حمص، وهي المرأة الوحيدة التي أجابتنا (مع طلب عدم ذكر اسمها الصريح)، تعمل في محل نوفوتيه الأمل، قالت إنها لجأت إلى تركيا بسبب قصف قوات النظام وما سبّبه لها ولعائلتها من تشريد، بعد أن قُتل زوجها بواسطة الطيران الحربي.
أضافت أن علاقتها بجاراتها التركيات في الحي ومع زبوناتها التركيات في المحل جيدة، وبسؤالها إن كانت التركيات يشترين أصلًا من هذا المحل، أكّدت أن الكثير من زبوناتها من التركيات، والبضائع رخيصة ومتنوعة.
يوجد العديد من الفتيات والنساء العاملات في “السوق الإيراني”، خاصة في مجالات الأزياء والإكسسوارات، وفي الأزقة الخلفية من السوق تعمل الكثير من الفتيات السوريات في ورشات صغيرة أغلبها للخياطة، ولم نستطع خوض أحاديث مع أي منهن بسبب الزحام الشديد والارتباك الذي يشعرن به.
نزح يحيى حموش (50 سنة)، وهو من حلب وصاحب محل الهيبة للأدوات المنزلية، بسبب الحرب؛ أما سعيد الحلاق (30 سنة)، وهو من الرقة وصاحب محل بربير آبي للحلاقة، فبسبب “داعش”؛ ونزح أحمد جمرك (27 سنة) العامل في مطعم فلافل أبو البراء بسبب النظام؛ أما بكر العامل لدى أبيه في فرن أبو بكر، وهما من دير الزور، نزح مع عائلته بسبب الاثنين معًا.
لكن محمد يحيى، وهو في العشرين من عمره فقط من قرية مارع في ريف حلب، ويدير بنفسه محل صياغة ذهب، قال إن السبب الرئيسي للجوئه مع عائلته إلى تركيا هو وفاة والده، وكان بإمكانهم لولا ذلك البقاء في حلب حيث يقيمون، والاستمرار في عملهم بسبب أحوالهم المادية الجيدة، وعند سؤال يحيى وسعيد وأحمد ومحمد عن علاقاتهم مع الأتراك، كانت الإجابة واحدة: “جيدة، لكنها رسمية”.
مثلما تنوعت الإجابات حول أسباب الخروج من سوريا، كانت الأماكن التي لجأ إليها السوريون خاصة في الشمال السوري أيضًا متنوعة، لكن الملاحَظ أن السوريين في الشمال كانوا يلجأون إلى المناطق التركية التي تحاذي مناطقهم مباشرة، فلجأ أغلب أبناء الحسكة إلى ماردين، وأبناء الرقة إلى أورفه، وأبناء دير الزور إلى الاثنتَين معًا.
وكان وجود أبناء إدلب كبيرًا في الريحانية وأنطاكية، واتجه معظم أبناء حلب فورًا ومباشرةً إلى غازي عنتاب التي تبعد عنهم أصلًا نحو 165 كيلومترًا، وطغى الوجود الحلبي في غازي عنتاب حتى ليمكن تخمين أن أكثر من 85% من السوريين الموجودين في غازي عنتاب هم من محافظة حلب، مع عدم وجود مصادر على الإطلاق لنسب وأعداد توزُّع السوريين وفق محافظاتهم في تركيا.
في تقرير عن صحيفة “العربي الجديد”، نشره أيضًا موقع “ترك برس”، تمّت الإشارة إلى انتشار السوريين الواسع في مدينة غازي عنتاب، حتى كادت المدينة أن تتحول إلى حلب ثانية، وتحول سوق غازي عنتاب المركزي الذي يطلق عليه اسم “السوق الإيراني” إلى سوق سوري بامتياز، إذ استأجر أصحاب المصالح من السوريين أغلب محلّاته، حتى بات وكأنه أحد أسواق مدينة حلب التي ارتبطت تاريخيًّا بعلاقات مميزة مع مدينة غازي عنتاب.
ماذا نرى الآن في “السوق الإيراني”؟
سوى الشارعَين، شارع إينونو وشارع التركمان، اللذين يحويان مع فروعهما المحال التجارية والخدمية شديدة التنوع للسوريين والأتراك، توجد البيوت والعمارات القديمة البسيطة بل المتآكلة في أغلب أرجاء المنطقة، ويسكنها سوريون وأتراك أيضًا يلعب أولادهم في الشوارع معًا ويرتادون المدارس نفسها في المنطقة، ممّن يرتادها منهم.
قال أغلب من حاورناهم من السوريين المشتغلين في “السوق الإيراني” إنهم يعيشون في المنطقة نفسها التي يعملون فيها، ولسببَين أساسيَّين: الأول انخفاض قيمة إيجارات البيوت كثيرًا عن غيرها من أحياء غازي عنتاب، حتى الأحياء المتوسطة منها، وأما السبب الثاني فلتوفير الوقت للوصول إلى أعمالهم بسرعة، كما توفير أجور المواصلات.
مع أنه -ومن المفارقة الشديدة هنا- ترتفع إيجارات الكثير من المحلات في “السوق الإيراني”، رغم ضيق المساحات وقدم الأبنية، عن إيجارات المحلات في مناطق عمرانية مركزية ومهمة من المدينة، والسبب الرئيسي لذلك ازدحام منطقة “السوق الإيراني”، وإقبال السوريين والأتراك على التسوق منه بسبب وفرة المنتجات والسلع وانخفاض الأسعار.
ولم نتوجّه بسؤال من قابلناهم عن إيجارات محالهم، فلم نحصل على أجوبة حقيقية وشافية من لاجئين مغتربين يبحثون عن لقم العيش في أضنك الظروف، عدا عن اعتبار هذا من المسائل الشخصية، وبالنسبة إلى العاملين في المحلات، فنكاد نجزم أنهم لا يمتلكون المعلومة، مع أن الوقوف على هذه المسألة أو محاولة تقديرها وقياسها قد يعدّ عاملًا مساعدًا في فهم أوضاع السوريين في “السوق الإيراني” في غازي عنتاب المدينة التركية، وهو موضوع هذا التحقيق.
لا يوجد طابق سكني أرضي واحد في كل الشارع الرئيسي لإينونو، ويوجد بعضها في شارع التركمان، ولا تقتصر الشوارع الفرعية أو الخلفية أو الأزقة على المنازل، فثمة الكثير من المحلات الأخرى أسوأ موقعًا وأرخص إيجارًا، وقد رفض أبو محمد، وهو سوري تركماني، استقبالنا في البداية، لكنه تراجع وقال تفضّلوا.
الرجل لم يفصح عن اسمه أصلًا، لكنه وبلا سؤال أفشى لنا عن قيمة إيجار محله، وكان الرقم صادمًا نحو 6 آلاف ليرة تركية أي ما يقارب 200 دولار، والرقم صادم لأن المحل في زقاق خلفي متهالك، ومساحته لا تتجاوز 8 أمتار مربعة، أضف إلى ذلك أنه مخصّص لبيع الخردة والأشياء المستعملة.
يغلي “السوق الإيراني” الذي غدا سوريًّا إلا ربعه غليانًا بالناس والأعمال على مدى ساعات النهار والمساء، بل يمكن تلبية بعض الاحتياجات أو شراء بعض الأغراض في ساعات متأخرة بعد المساء وفي الليل، حين تكون معظم محال غازي عنتاب قد أغلقت، والسبب السوريون أنفسهم بالطبع، السوريون الذين انتقلوا كما هم بطبائعهم ونقلوا معهم آثار تلك الطبائع، ومنها الجدّ في العمل والسهر.
فغازي عنتاب مدينة تنام مبكرًا، لأن الأعمال تنتهي فيها نحو السابعة أو الثامنة مساءً على الأكثر، وفي هذا الوقت بالذات يمكن للمرء الذهاب إلى “السوق الإيراني” لشراء الخضار أو الحلويات أو المكسّرات، أو حتى لشرب الإسبريسو على قارعة الطريق.