مع اندلاع أزمة الاستفتاء في كردستان العراق، نشر الدكتور أحمد داوود أوغلو، رئيس الحكومة التركية السابق، مقترحًا من عدة نقاط لتفادي التصعيد والصدام في كركوك، عندما بدا أن الصراع على المدينة/ المحافظة قد يشعل الحرب بين بغداد والإقليم الكردي.
ارتكز مقترح داوود أوغلو إلى تجربته في التعامل مع مسألة كركوك، منذ توليه وزارة الخارجية التركية في 2009 ـ 2014، مؤكدًا ضرورة اعتراف الأطراف العراقية كافة بوضع المدينة الخاص، وحقيقة أنها لا تتعلق بهوية محددة، بل بالتركمان والعرب والأكراد معًا، لم يكن مقترح داوود أوغلو غريبًا، فالرئيس العراقي السابق، الكردي جلال طالباني، كان تقدم باقتراح مشابه، يقضي بتقاسم ثلاثي متعادل لمجلس المحافظة بين المجموعات الإثنية الثلاثة، مع منح عدد محدد من المقاعد للجماعات السكانية الأخرى.
بيد أن المزاج السياسي في أنقرة لم يكن مواتيًا للحديث عن السلم والتفاوض، كانت تركيا، كما إيران والعراق والولايات المتحدة، دعت أربيل إلى التخلي عن استفتاء تقرير المصير، قبل عقده بالفعل في 25 من أيلول/سبتمبر، وربما حسبت أنقرة أن لها من الدالة على الإقليم الكردي، وعلى رئيسه، تؤهلها لتوقع استجابة لدعوتها.
دعمت تركيا الإقليم الكردي في أكثر اللحظات صعوبة، منذ اكتسب وضعه الدستوري في 2005، بما في ذلك تسهيل تصدير النفط، تقديم القروض المالية، الانفتاح الكامل على السوق الإقليمية وحاجاتها، حماية بارزاني نفسه من مؤامرات إطاحته.
ولكن السيد بارزاني، كما هو معروف، تجاهل الدعوة التركية، كما تجاهل دعوات إلغاء الاستفتاء وتأجيله، التي صدرت من الجهات الأخرى كافة، وهذا ما ولد ردود فعل تركية بالغة الحدة، يصعب فصل الشخصي فيها عن السياسي والاستراتيجي، لم تنظر تركيا لمشروع استقلال الإقليم وتقسيم العراق باعتباره مصدر تهديد للأمن القومي والإقليمي، وحسب، بل وشعرت بأن بارزاني لا يستحق ما استثمرته في قيادته للإقليم، وأنه خان الثقة وتنكر لما قدمته تركيا له طوال سنوات.
إلى جانب حسابات أربيل الخاطئة، لم يظهر السياسيون الكرد، لا في أربيل ولا السليمانية، أنهم مؤهلون لقيادة مشروع كبير بحجم تأسيس دولة قومية مستقلة
لم تتردد تركيا، ما إن أعلنت بغداد وقف الرحلات الدولية إلى مطار أربيل، في حظر الحركة الجوية بين الإقليم والمدن التركية، كما أعلنت دعمها الكامل لبغداد وأي إجراءات تتخذها للحفاظ على وحدة العراق، تدرك تركيا، بالطبع، أن إيران هي الراعي الإقليمي الرئيسي لبغداد وحكومتها، وهي التي ضبطت إيقاع التصعيد العراقي ضد الأقليم، منذ عقد الاستفتاء، وكان واضحًا، في سلسلة من الاتصالات والزيارات المتبادلة، أن أنقرة تتفق بلا تحفظ مع طهران على إيقاع الهزيمة بحكومة الإقليم وفرض الاستسلام على قيادته.
في ظل هكذا مناخ، لم يكن متوقعًا أن يستقبل مقترح داوود أوغلو في أنقرة بأي درجة من الحماس، الحقيقة، أن أنقرة نظرت بصورة إيجابية إلى تقدم القوات العراقية الاتحادية للسيطرة على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، منذ صباح 16 من تشرين الأول/أكتوبر، وخلال الأيام القليلة التالية، وبدا أن مقترح داوود أوغلو جرى تجاهله، لولا أن الرجل وجد نفسه هدفًا لهجوم بالغ الحدة، مباشرة بعد سيطرة القوات العراقية على كركوك.
لم يأت الهجوم من الجهات الرسمية، بل من رئيس حزب الحركة القومية السيد دولت بهتشلي المعارض السابق والحليف اللاحق لحكومة العدالة والتنمية، موجهًا الحديث إلى داوود أوغلو، قال السيد بهتشلي، بلغة لا تحتمل التأويل: “عندما يتفق كل من الرئيس ورئيس الحكومة والقوات المسلحة التركية، فمن التخيل والجهل أن يقوم رئيس حكومة سابق بإصدار تصريحات ضد سياسة الدولة، تستهين بحقوق التركمان، من أنت؟ بأي جرأة تتحدث؟ أنت تخدم اللوبي المؤيد لرئيس الإقليم (مسعود بارزاني)”.
يرى السيد بهتشلي نفسه الحارس لميراث القومية التركية والمسؤول عن الدفاع عن ميراث الأتراك في العالم، ولكن اندفاع بهتشلي للهجوم على واحد من أبرز دارسي تاريخ المشرق وخريطته السياسية، وزير الخارجية ورئيس الحكومة السابق، لم يصدر من حدته القومية وحسب، بل وعن شعوره بالانسجام مع سياسات الحكومة التركية وموقفها من الأزمة الكردية العراقية، لم يعدم داوود أوغلو الرد على بهتشلي، وذكره في سلسلة تغريدات بهجومه السابق على حكومة العدالة والتنمية عندما كشفت عناصر من الجندرمة الموالية لتنظيم غولن عن شحنة سلاح، أرسلتها أنقرة لتركمان سوريا، وبتخاذله في الدفاع عن أتراك القرم، عندما قامت روسيا بضم الإقليم الأوكراني.
دولة كردية مستقلة لن تقوم في شمال العراق، لا بضم المناطق المتنازع عليها ولا ضمن حدود إقليم الحكم الذاتي المعترف بها
مهما كان الأمر، لم يعد من السهل التغطية على انقسام الطبقة السياسية التركية بشأن الأزمة الكردية، فحتى عندما كان بهتشلي يطلق هجومه على داوود أغلو، كانت الأزمة قد تجاوزت مسألة كركوك والسيادة عليها، ليس ثمة خلاف، لا داخل تركيا ولا خارجها، ولا حتى في أوساط العقلاء من الكرد، أن مسعود بارزاني تصرف بقدر كبير من الغباء وأن قرار الاستفتاء بني على حسابات خاطئة وهشة.
ما قام به بارزاني أقرب إلى اختيار ابن طبقة وسطى، سئم من رفاه العيش، القيام بعملية انتحارية، وإلى جانب حسابات أربيل الخاطئة، لم يظهر السياسيون الكرد، لا في أربيل ولا السليمانية، أنهم مؤهلون لقيادة مشروع كبير بحجم تأسيس دولة قومية مستقلة، مؤسسو الدول لا يغرقون في الفساد وصراع النفوذ والثروة، لا يتصرفون كرؤساء عشائر، يحكمون بعصبية العائلات والأتباع المطيعين، ولا يتصرفون مع شركائهم في الوطن بشوفينية مرضية، تعمل على التطهير العرقي.
بيد أن المسألة، يقول المعارضون لسياسة عقاب بارزاني والقطيعة معه في أنقرة، تجاوزت كركوك، وحتى استفتاء تقرير المصير، دولة كردية مستقلة لن تقوم في شمال العراق، لا بضم المناطق المتنازع عليها ولا ضمن حدود إقليم الحكم الذاتي المعترف بها.
لم يمت الاستفتاء وحسب، بل وأقيمت جنازته، أيضًا، من جهة أخرى، سيطرت قوات بغداد وحشدها الشعبي، مدعومة من إيران، على المناطق المتنازع عليها كافة، على الشريط الحدودي مع تركيا، وباتت تهدد وجود الإقليم الكردي ذاته، بينما ترتفع الأصوات في طهران وبغداد لإصدار أوامر اعتقال لبارزاني وقادة البيشمركة، وتشجيع الموالين لأسرة طالباني في السليمانية على الانشقاق عن أربيل وتشكيل إقليمهم الخاص في حلبجة والسليمانية، إن استمرت واشنطن في تأييدها للعبادي، وتركيا في تواقفها مع إيران على إخضاع إربيل، فربما لن يكون أمام بارزاني سوى الانتقال إلى المعسكر الإيراني.
قبض حلفاء إيران منذ ما بعد الغزو والاحتلال على مقاليد الحكم والدولة، ولكنهم لم يسيطروا على العراق كله مطلقًا، بصورة أو أخرى، حافظت تركيا على نفوذ ملموس في أربيل وبين السنة العرب والتركمان، فإخضاع بارزاني لا يعني إخضاع الإقليم الكردي فقط، بل وشمال العراق برمته.
وبذلك، تصبح إيران القوة المسيطرة بالفعل على العراق كله، كما على سوريا، ولا يجب أن يكون هناك شكًا في أن المراهنة العربية والتركية والأمريكية على وطنية العبادي واستقلاله ليست سوى وهم، فالعبادي لن يستطيع طرد إيران من العراق، بل إيران من تستطيع إطاحته، متى شاءت، وهذا ما يدفع معارضي سياسة القطيعة مع بارزاني في أنقرة إلى دق ناقوس الخطر.