أخيرًا، وبعد مضي أكثر من أربعة أشهر على اندلاع الأزمة الخليجية، زار الرئيس السوداني عمر البشير دولة قطر التي أحجم عن زيارتها منذ بداية الأزمة، مما أثار تساؤلات عدة في أذهان المراقبين لسببين: أولهما قوة العلاقات التي تربط حكومة السودان مع دولة قطر، فقد كانت الدوحة حليفًا للبشير طيلة فترة حكمه (28 عامًا)، وثانيهما تكرار زيارات البشير إلى الرياض وأبو ظبي رغم الموقف المعلن لحكومة السودان من الأزمة الخليجية وهو الحياد ودعم الوساطة الكويتية.
الرأي العام السوداني كان أقرب إلى مساندة قطر
انقسم موقف الشارع السوداني من الأزمة، حيث فضلّ الحزب الاتحادي الديمقراطي وبعض أحزاب اليسار دعم المحور السعودي الإماراتي، لكنّ الحزب الحاكم والمؤتمر الشعبي المشارك في الحكومة وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدي كانوا أقرب إلى دعم قطر، وهو الموقف الذي لاقى سندًا شعبيًا عامًا بحسب استطلاعات الرأي وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي في السودان، إذ إن قطر هي الأقرب لوجدان السودانيين الذين يذكرون دعمها المستمر لبلادهم حكومةً وشعبًا دون أن تنظر إلى المقابل كما ذكر الطيب مصطفى مالك صحيفة الصيحة.
السودان في موقف حرج
بطبيعة الحال وقع البشير وحزبه الحاكم في موقف حرج، حيث تحّسنت العلاقات بعد جهد كبير مع السعودية والإمارات وتبنّت الدولتان مشروعًا لرفع العقوبات عن السودان التي فرضتها الولايات المتحدة منذ 20 عامًا، وفي المقابل كانت قطر ترعى اتفاقية سلام دارفور بكل التزاماتها وتكاليفها الباهظة، إلى جانب تمويلها لمشروع ترميم الآثار والمواقع السياحية شمال البلاد، فضلًا عن مواقفها الداعمة للسودان منذ ما يزيد على ربع قرن.
دعا إبراهيم السنوسي الذي يشغل منصب مساعد الرئيس في حكومة الوحدة الوطنية إلى رفع الحصار عن قطر ورد الجميل إليها، وتساءل في تصريحات غير مسبوقة قائلًا: “كيف لمسلم أن يحاصر أخاه المسلم في شهر رمضان؟”
يتردد أن قطر لم تكن راضية عن موقف حكومة الخرطوم من الأزمة الخليجية، فربما كانت تتوقع أن يكون للسودان موقف أقوى يدعمها ويدعو صراحةً إلى رفع الحصار عن الدوحة كما طالبت تركيا بوضوح، أو ضمنًا على الأقل، كما فعل المغرب الذي أرسل طائرة تحمل موادًا غذائية لقطر، فقد ذكر بيان للخارجية المغربية أن إرسال الشحنة يأتي “تماشيًا مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وما يستوجبه – خاصة خلال شهر رمضان الكريم – من تكافل وتآزر وتضامن بين الشعوب الإسلامية.” وأضاف البيان المغاربي “هذا القرار لا علاقة له بالجوانب السياسية للأزمة القائمة بين دولة قطر ودول شقيقة أخرى“، لا داعٍ بالطبع إلى أن نشير لرمزية إرسال المغرب مواد غذائية للدوحة، فقطر لم تكن بحاجة إلى مساعدات والموقف برمته كان يشير بذكاء إلى رفض المغرب حصار قطر ومنع وصول الغذاء والدواء إليها.
ضغوط شعبية على حكومة البشير
في السودان كذلك، واجه الرئيس البشير ضغوطًا هائلة من قواعد وأُطُر الحزب الحاكم، والأحزاب المتحالفة معه بل حتى من كُتّاب الصحف ونشطاء التواصل الاجتماعي الذين ذكّروا الحكومة بأن قطر دعمت اقتصاد السودان عدة مرات بمنحٍ وودائع، وأشاروا كذلك إلى أن الأمير القطري تميم بن حمد هو الزعيم الخليجي الوحيد الذي زار السودان ووصل حتى إقليم دارفور المضطرب، كما زار والده الأمير السابق حمد بن خليفة البلاد، وشهد افتتاح الطريق القاري الذي يربط بين السودان وإريتريا بتمويل قطري كامل.
لذا، لم يكن الرأي العام السوداني راضيًا عن مواقف حكومته من أزمة الخليج، رغم إعلانها الحياد والوقوف على مسافة واحدة من أطراف النزاع، ربما كان ذلك مفهومًا إذا لم يخرج الرئيس في زيارات متلاحقة إلى الرياض وأبو ظبي واستثنى منها الدوحة، وقد يكون موقف الحياد مقبولًا إذا لم يلغِ رئيس الوزراء بكري حسن صالح زيارة كانت مقررة إلى قطر بصورة مفاجئة ودون أن يكلف أحد نوابه أو وزراء الحكومة بالذهاب بدلًا منه وتمثيل السودان في حفل افتتاح ميناء حمد الذي دُعي إلى حضوره، بل لم يكلف عمر البشير نفسه بمهاتفة أمير قطر وتهنئته بالحدث الذي شهدته دول عديدة بينما غاب السودان رغما عن علاقاته الوثيقة مع الدوحة.
تصريحات قوية لمساعد البشير تدعم قطر
لم يقف حزب المؤتمر الشعبي موقف المتفرج، حيث نادى أمينه العام علي الحاج بدعم قطر بشكل صريح، كما دعا إبراهيم السنوسي الذي يشغل منصب مساعد الرئيس في حكومة الوحدة الوطنية إلى رفع الحصار عن قطر ورد الجميل إليها، وتساءل في تصريحات غير مسبوقة قائلًا: “كيف لمسلم أن يحاصر أخاه المسلم في شهر رمضان؟”، تلك التصريحات التي أدلى بها السنوسي أحرجت الحزب الحاكم أيّما إحراج خصوصًا أن وسائل الإعلام ووكالات الأنباء تناقلتها بصورة مكثفة.
ورقة حرب اليمن في مواجهة كارت العقوبات
حتى نكون منصفين، يتوجب علينا أن نشير إلى إن الرئيس السوداني واجه ضغوطًا أخرى من السعودية والإمارات تحثه على الانضمام إلى المحور المعادي لقطر ملوحين بكارت العقوبات الأمريكية، لكنه أحسن في المقابل، استخدام ورقة المشاركة في حرب اليمن، وحقيقة عدم قدرة دول الحصار على التخلي عن دور الجيش السوداني في تأمين المناطق على الأرض، إلى جانب أداء مهمّات عسكرية تعجز عنها القوات البرية السعودية والإماراتية،. فقط نرى أنه لم يكن بحاجة إلى تلك الجولات والهرولة بين الرياض وأبو ظبي، فربما يكفي أن يرسل وزير الخارجية إبراهيم غندور لمثل هذه المهام كما يفعل رصفاؤه في الدول العربية ودول الجوار الذين نادرًا ما يقومون بزيارات خارجية.
مواقف متناقضة أحيانًا للبشير
ويُنظر كذلك إلى أن مواقف البشير تكون متناقضة ومتقلبة أحيانًا، فقد أشرنا في مقالٍ سابق إلى تصريحاته المفاجئة لصحيفة إماراتية اعتبر فيها تنظيم الإخوان بأنه يهدد أمن واستقرار الدول، مع أن القاصي والداني يعلم التوجه الإخواني لحكومته، وكثيرًا ما يتخذ قرارات ثم يتراجع عنها مثل قراره وقف التفاوض مع الولايات المتحدة بخصوص ملف رفع العقوبات (يوليو/تموز الماضي) قبل أن يعود ويتراجع عن ذلك القرار في ظرف 48 ساعة بعد اتصال هاتفي بينه وبين العاهل السعودي!
على كلٍ، وصل البشير إلى الدوحة وإن جاءت الزيارة متأخرة فهي خير من العدم كما يقولون، ويمكن قراءة العتاب القطري في مستوى الاستقبال المنخفض الذي وجده الرئيس السوداني عند وصوله البلاد ومغادرته
إلا أن إعلانه لصحيفة الراية القطرية التنحي وعدم الترشح لانتخابات 2015 كان أبرز المواقف المتقلبة، فقد عاد عمر البشير وترشّح بعد أشهر قليلة من الوعود القاطعة، بل تشير كل التوقعات إلى عزمه البقاء في منصبه خمس سنوات أخرى ابتداءً من 2020، على الرغم من وعوده القديمة الجديدة بإفساح المجال لرئيس آخر، وعلى الرغم كذلك من استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة التيار السودانية مطلع الشهر الحاليّ والذي أكّد أن 76% من الشباب يرفضون تعديل الدستور من أجل التمديد له لفترة رئاسية جديدة.
على كلٍ، وصل البشير إلى الدوحة وإن جاءت الزيارة متأخرة فهي خير من العدم كما يقولون، ويمكن قراءة العتاب القطري في مستوى الاستقبال المنخفض الذي وجده الرئيس السوداني عند وصوله البلاد ومغادرته، فتلك رسائل سياسية تبعث بها الدول عبر الطرق الدبلوماسية للدلالة على مدى الترحيب بالضيف وحجم الرضا عنه وتدل كذلك على درجة قوة العلاقات بين بلدٍ ما وآخر.