اقتحمت قوات من جيش الاحتلال، مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، فجر الإثنين 18 مارس/آذار الجاري، حيث توغلت الدبابات وعدد من الآليات العسكرية وسط تحليق مكثف للطائرات وإطلاق نار كثيف، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى فيما اعتُقل العشرات من الفلسطينيين.
يأوي المجمع الذي يعد الصرح الطبي الأكبر والأقدم في القطاع أكثر من 30 ألف نازح، فضلًا عن قرابة 5 آلاف جريح باتت حياتهم جميعًا على المحك في ظل استمرار القصف العشوائي بالآليات الخفيفة والثقيلة والقذائف المدفعية والطائرات المسيرة، فيما سادت حالة من التخبط والارتباك والفوضى جنبات المشفى في ظل انقطاع الكهرباء ومحاصرة المجمع وسط عمليات تجريف داخله.
تلك هي المرة الثانية التي يقتحم فيها جيش الاحتلال مستشفى الشفاء بعدما اقتحمها أول مرة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد حصار دام لمدة أسبوع على الأقل، حيث دمر ساحته وأجزاء من مبانيه ومعداته الطبية قبل أن ينسحب في 24 من الشهر ذاته بعدما فشل في العثور داخل المجمع على قادة للمقاومة أو محتجزين إسرائيليين لديها، كما كان يزعم لتبرير العملية.
الاحتـ،ـلال الإسرائيلي يقتحم مجمع الشفاء الطبي في #غزة منذ ساعات الفجر وسط إطلاق كثيف للنيران والقذائف المدفعية ما أدى إلى ارتقاء عدد من الفلسطينيين وإصابة آخرين.
📌 وطالب الاحتـ،ـلال السكان والنازحين في حي الرمال ومستشفى الشفاء شمال قطاع غزة بالمغادرة فورًا إلى جنوب القطاع،… pic.twitter.com/eosROO5y5v
— نون بوست (@NoonPost) March 18, 2024
يمثل مجمع الشفاء الطبي التابع لوزارة الصحة الفلسطينية قيمة رمزية للشعب الفلسطيني بصفة عامة والمقاومة على وجه الخصوص، وأحد مرتكزات المنظومة الصحية في القطاع، حيث تأسس عام 1946 ويقع على مساحة 45 ألف متر مربع، ويضم 3 مستشفيات متخصصة، ويقع وسط غرب القطاع، عند مفترق تقاطع شارعين من أكبر الشوارع في المحافظة، شارع الوحدة وشارع عز الدين القسام.
حزمة من التساؤلات بشأن دوافع الاحتلال لمعاودة اقتحام المجمع مرة أخرى رغم فشله المرة الأولى في العثور على أي صيد ثمين يبرر جريمته النكراء التي قوبلت بتنديد حقوقي دولي وإقليمي، وسط خسائر يتكبدها المحتل على أيدي المقاومة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى اليوم، في مناطق القطاع كافة، حتى تلك التي يزعم جيش الاحتلال أنه سيطر عليها كاملة.
مزاعم الاحتلال.. كلاكيت تاني مرة
بحسب الشهود وبيان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن جيش الاحتلال اقتحم المجمع بالدبابات والجنود المدججين بالسلاح والطائرات المسيرة منذ ساعات الفجر الأولى ليوم الإثنين، وأطلق الجنود النار داخل المشفى، ما أثار الذعر بين الجرحى والمرضى النازحين وأسفر عن مقتل وإصابة عدد منهم، وما زالت جثث القتلى في باحات المستشفى والطرقات المحيطة به.
اعتبر المكتب أن عملية الاقتحام بالطريقة تلك تؤكد “النية المبيتة للاحتلال بالقضاء على القطاع الصحي وتدمير المستشفيات”، محملًا الكيان المحتل والإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي مسؤولية سلامة وحياة الطواقم الطبية والجرحى والنازحين في المستشفى.
"ربما يكون هذا الفيديو الأخير لنا، العالم بأسره خذلنا" . صحفي فلسطيني من داخل #مجمع_الشفاء الطبي المحاصر.#غزة_تباد pic.twitter.com/UkXjGXbwb2
— نون بوست (@NoonPost) March 18, 2024
في المقابل، بررت حكومة الاحتلال العملية بورود معلومات استخباراتية لديها عن استغلال المستشفى من مسؤولين في حركة حماس، لافتة في بيان لهيئة البث الإسرائيلية الرسمية إلى أن قواتها تعرضت لإطلاق نار من داخل المجمع، فتم الرد عليها بالمثل على حد قولها، فيما زعم متحدث جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، أن الجيش وجهاز الأمن العام “الشاباك” يعملان داخل مجمع الشفاء الطبي لإحباط أنشطة إرهابية واعتقال مخربين، وفق تعبيره.
دومًا ما يلجأ الاحتلال لهذه المزاعم لتبرير جرائمه التي تستهدف الأماكن التي يفترض أنها محمية بحكم القانون الدولي والإنساني كالمدارس والمشافي ودور العبادة ومراكز الإيواء، فضلًا عن استهداف المدنيين في المقام الأول، مستندًا في ذلك إلى التواطؤ الأمريكي الفاضح وصمت المجتمع الدولي ومن قبله الدول العربية والإسلامية.
تخبط وانتقام
ترى حركة حماس أن اقتحام الاحتلال لمجمع الشفاء للمرة الثانية “تعبير عن حالة التخبط والارتباك وفقدان الأمل بتحقيق أي إنجاز عسكري غير استهداف المدنيين العزل”، مضيفة في بيان لها أن “فشل المجتمع الدولي والأمم المتحدة في اتخاذ إجراءات ضد جيش الاحتلال كان بمثابة الضوء الأخضر للاستمرار في حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يقترفها ضد شعبنا، والتي أحد أركانها تدمير المنشآت الطبية في القطاع”.
وطالبت الحركة في بيان لها اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية بـ”ضرورة الوقوف عند مسؤولياتهم لحماية ما تبقى من منشآت طبية في القطاع، وتوثيق جرائم الصهاينة النازيين ضد القطاع الطبي، المحمي بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني”، لافتة إلى أن جرائم الاحتلال وحرب الإبادة “لن تصنع لنتنياهو وجيشه النازي أي صورة انتصار”.
وكانت قناة الجزيرة قد بثت بالأمس 17 مارس/آذار مشاهد حصرية لكتائب عز الدين القسام، خاصة بتتبع تحركات الضابط الإسرائيلي في وحدة شلداغ، يتسهار هوفمان، الذي كان مسؤولًا عن حصار واقتحام مستشفى الشفاء بغزة، وذلك قبل قنصه وقتله.
أظهرت المشاهد التي تعد الأولى التي تنشرها المقاومة لجهاز الرصد الاستخباراتي والمتابعة المعلوماتية لديها، تحركات الضابط الإسرائيلي في مركز قيادة ميداني تابع للاحتلال بمدينة غزة على بعد كيلو متر واحد من مستشفى الشفاء، وكان برفقة عدد من الجنود.
صور حصلت عليها #الجزيرة تظهر تتبع القسام لتحركات الضابط في وحدة شلداغ يتسهار هوفمان المسؤول عن حصار واقتحام مستشفى الشفاء في شمال قطاع #غزة قبل مقتله برصاص قناص#الأخبار #حرب_غزة pic.twitter.com/FgNrLmhCqF
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) March 17, 2024
المشاهد أحدثت حالة من الجدل داخل الأوساط الإسرائيلية، فرغم أن عملية القنص كانت نهاية يناير/كانون الثاني الماضي وفق ما أعلن جيش الاحتلال، فإن الصدمة أربكت حسابات المحتل الذي توهم أن مناطق التمركز لعناصر المقاومة بالقرب من المشفى لم تزل كما هي، وعليه ربما تأتي عملية الاقتحام كنوع من الانتقام.
تعكس تلك التحركات العشوائية حالة الارتباك التي تخيم على الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي الذي انكشفت هشاشته منذ عملية طوفان الأقصى، فرغم فشله في العثور على أي من مزاعمه في أثناء عملية الاقتحام الأولى للمشفى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وافتضاح قدراته المتواضعة على مرأى ومسمع من الجميع، والتي أثارت سخرية الرأي العام العالمي وقتها، ها هو يعيد الكرة مرة أخرى، مستندًا إلى ذات المزاعم الواهية التي ثبت زيفها وكذبها أكثر من مرة.
رمزية ثلاثية.. لماذا الشفاء؟
لم يكن استهداف مجمع الشفاء تحديدًا خطوة عشوائية لدى الاحتلال، وبعيدًا عن مخطط تصفية المنظومة الصحية في غزة بصفة عامة إلا أن المجمع ليس كبقية مستشفيات القطاع، فله خصوصية مميزة كونه يمتلك 3 رمزيات أساسية منحته تلك الأهمية والقيمة الكبيرة، كما أشير قبل ذلك في تقرير سابق لـ”نون بوست”.
أولى تلك الرمزيات تتعلق بالبعد التاريخي، فهذا المجمع الشامخ أقدم تاريخًا من نشأة الكيان المحتل، إذ يعود إنشاؤه إلى 77 عامًا، أي أنه أكبر من دولة الاحتلال بعامين كاملين، الأمر الذي يمثل غصة في حلق المحتل وأعوانه.
كذلك الرمزية السياسية حيث كان مسرحًا كبيرًا لمعارك المقاومة والنضال، بداية من المواجهة الشعواء بين الطلاب الفلسطينيين المقاومين وجيش الاحتلال الذي كان يتخذ من المشفى قاعدة له، خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، وهي المواجهة التي أسفرت عن تحرير المجمع من الاحتلال بعد مقاومة دامت 6 سنوات.
قطّع الاتصالات وأطلق النار.. مشاهد تظهر آليات الاحتلال الإسرائيلي تحاصر #مجمع_الشفاء الطبي#الجزيرة_مباشر | #غزة pic.twitter.com/aztyNOJN0P
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 18, 2024
ثم الرمزية اللوجستية، إذ إن الموقع الجغرافي للمجمع الذي يربط بين شمال القطاع وجنوبه، سمح له بأن يصبح قبلة للنازحين واللاجئين والجرحى، كما كان – بما لديه من إمكانيات وقدرات طبية – نقطة احتماء أساسية لبعض عناصر المقاومة على مدار سنوات مضت، فضلًا عن كونه محطة استراحة للمصابين جراء المواجهات مع جيش الاحتلال، حيث يتلقون العلاج اللازم ليعودوا بعد ذلك إلى ساحة المواجهة مرة أخرى في وقت قصير للغاية.
نتيجة تلك الأهمية برمزياتها الـ3 تحول المجمع إلى نقطة التقاء وتجمع لمختلف وسائل الإعلام، الفلسطينية والعربية والأجنبية، وبالتالي فهو كاميرا ذات عدسات واسعة تنقل ما يدور داخل الأراضي الفلسطينية بالصوت والصورة، بما يفند روايات الاحتلال وأكاذيبه التي يروجها إعلامه الخاص ووسائل الإعلام الدولية الموالية له.
لملمة الهزائم بانتصارات وهمية
بعد أكثر من 160 يومًا من الحرب، وبعد مزاعم الاحتلال بالسيطرة الكاملة على معظم مناطق القطاع، والحديث عن معركة واحدة فقط متبقية لحسم الهيمنة، في إشارة إلى عملية رفح، وإلحاق الهزيمة المطلقة بحماس وفصائل المقاومة، ها هو الميدان يناقض تلك المزاعم ويفندها شكلًا ومضمونًا.
فالمقاومة لا زالت صامدة حتى في تلك المناطق المزعوم حسمها مبكرًا، كمناطق الشمال والوسط على سبيل المثال، فاستهداف ضباط الاحتلال وجنوده في عمليات قنص نوعية، يؤكد على بقاء المقاومة واقفة على أقدامها رغم أوهام السيطرة التي يصدرها الكيان للداخل محاولًا تجميل صورته المشوهة منذ بداية الحرب.
وفي ظل رضوخ الكيان للضغوط الدولية والسماح بإدخال القليل من المساعدات للشمال، فضلًا عن استعادة بعض المستشفيات ومنها مجمع الشفاء بعض من قوتها للعمل مرة أخرى، فإن في ذلك إجهاض تام لكل الانتصارات التي زعم جيش الاحتلال تحقيقها على مدار الأشهر الـ5 الماضية، هذا بجانب إفشال مخطط التهجير الذي سعى لأجله عبر أسلحة عدة أبرزها التجويع وتفريغ القطاع من مقومات الحياة.
حماس: جريمة الاحتلال في عدوانه على مجمع الشفاء لن تصنع لنتنياهو أي صورة انتصار#حرب_غزة pic.twitter.com/dunQNk3VzF
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 18, 2024
وعليه لا يجد الاحتلال حرجًا في استعادة إستراتيجياته التي ثبت فشلها قبل ذلك، على أمل تحقيق أي انتصار وهمي يبرر من خلاله للشارع الإسرائيلي استمراريته في الحرب، ويمنحه مهلة جديدة لتحقيق أهداف الحرب الـ3 التي لم يتحقق منها أي شيء حتى الآن، وذلك عبر اللعب على وتر أرقام الضحايا وحجم الخسائر في صفوف الفلسطينيين، حتى لو كانوا أطفالًا ونساءً وجرحى ومدنيين.
في الأخير تُضاف جريمة اقتحام مشفى الشفاء للمرة الثانية إلى سلسلة الجرائم العنصرية التي اعتاد الاحتلال ارتكابها بحق الشعب الفلسطيني منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جريمة تخصم من رصيد المحتل العسكري، لا تضيف إليه، تُزيد أقدامه غرسًا في وحل غزة دون القدرة على انتشالها، في الوقت الذي يقف الجميع فيه، عرب ومجتمع دولي، بانتظار كارثة إنسانية جديدة بحق النازحين والجرحى بالمجمع دون أن يحرك أحد ساكنًا في مشهد اعتاده الغزيون منذ بداية الحرب.