يٌعتبر “التعاطف” مفهومًا مركزيًا في علم النفس، ويتم التركيز عليه نظرًا لأهميته الكبيرة في بناء العلاقات الشخصية الناجحة من جميع الأنواع، الحميمية والأسرية والعملية والاجتماعية وغيرها. كما قد يُعدّ غيابه مؤشرًا على بعض الاضطرابات النفسية والعقلية مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع و اضطراب الشخصية النرجسية.
يرجع أصل الكلمة إلى اللفظة الألمانية “ Einfühlung” والتي تعني ” feeling into“، وقد استخدمها عالم النفس البريطاني إدوارد تيتشنر في بدايات القرن الماضي وحوّلها إلى كلمة “Empathy” في الإنجليزية، كاختصار من اللغة الإغريقية، بحيث أنّ em=in و pathos=feeling.
أمّا ما تعنيه الكلمة لغويًّا وسيكولوجيًّا فهو قدرتك على فهم شخصٍ آخر، ووضع نفسك مكانه ومحاولة الإحساس بمشاعره والنظر للأمور من وجهة نظره هو. وبكلماتٍ أخرى؛ هو القدرة على الولوج فيما وراء الرغبات الخفية والاحتياجات غير المعلنة والآلام الخاصة للأشخاص من حولك. وهو بذلك شعورٌ يسمح لك بأنْ تأخذ على محمل الجدّ كلّ شخصٍ أمامك، بأفكاره وآرائه وعواطفه ومشاعره وما يمكن أنْ يكون عليه.
جديرٌ بالذكر أنّ علم النفس واللغة الإنجليزية يحتويان على مفهوم أبسط للتعاطف، أو ما يعرف بالإنجليزية بمصطلح Sympathy، وهي القدرة على تفهّم معاناة الآخرين والشعور بالشفقة حيالها، والتي قد تكون في بعض الأحيان بشكلٍ سلبيّ غير فعّال.
تستند نظرية المحاكاة على وجود أعصاب فرعية في مقدّمة الدماغ يُطلق عليها “أعصاب المرايا”، وتنشط حين يقوم الفرد بتقليد شخصٍ آخر
بشكلٍ أساسيّ، يبدو أنّ هناك عدة عوامل رئيسيّة تسهم في قدرتنا على التعاطف؛ لعلّ أبرزها التنشئة الاجتماعية. فنحن ووفقًا للبيئة التي ننشأ فيها، نتعلّم كيف نعامل الآخرين وكيف نشعر تجاههم وننظر إليهم ونبني أفكارنا عنهم، وغالبًا ما يكون هذا كلّه انعكاسًا للقيم والمعتقدات والأفكار التي غُرست فينا في سنٍّ مبكّرة جدًا عن طريق أبويْنا وعائلاتنا وأقراننا ومجتمعاتنا.
ووفقًا لعلم الأعصاب الاجتماعي فهناك نظريتان تحاولان الحصول على فهم أفضل للتعاطف. الأولى هي نظرية المحاكاة وتنصّ على أن التعاطف يحدث عندما نرى شخصًا آخر يعاني، فنقوم نحن بمحاكاة معاناته أو نعبّر عن نفس المشاعر التي يعبّر عنها هو، حتى نستطيع أن نعرف بشكلٍ مباشر ما يشعر به.
وتستند نظرية المحاكاة على وجود أعصاب فرعية في مقدّمة الدماغ يُطلق عليها “أعصاب المرايا”، وتنشط حين يقوم الفرد بتقليد شخصٍ آخر. وأنت حين تتعاطف وتتبنى وجهة نظر أخرى، فأنتَ تكون قد قلّدتها وحاكيتها، و لأنه كي تقلد الآخرين فعلًا يتوجب عليك أن تتبنى وجهة نظرهم في دماغك أولًا، فهنا يأتي دور تلك الأعصاب.
“نظرية العقل” هي النظرية الأخرى التي تحاول تفسير التعاطف، وتختلف تمامًا عن نظرية المحاكاة وتعارضها، إذ تبحث في الكيفية التي نعزو بها حالات الآخرين النفسية وكيف نستخدم هذه الحالات في تفسير وتوقع أفعالهم ومعرفة كيف يفكرون وكيف يشعرون.
ووفقًا لهذه النظرية، فيمكن للبشر يمكن استخدام عمليات التفكير المعرفي لشرح الحالات العقلية للآخرين، ومن خلال تطوير النظريات حول السلوك البشري، يمكن للأفراد التنبؤ أو تفسير أعمال الآخرين، وبالتالي التعاطف معهم أو الشعور بالشفقة تجاههم.
لماذا نفقد التعاطف مع الآخرين؟
سايكولوجيًّا؛ هناك عدة أسباب تعمل على فقدان الفرد لتعاطفه، منها أنّنا كبشر نقع ضحايا للتحيّزات المعرفية، وهي أنماط منحرفة في اتخاذ الأحكام تحدث في حالات معينة، ونؤدي إلى تشويه الإدراك الحسي أو إطلاق أحكام غير دقيقة أو الوصول لتفسيرات غير منطقية، أو ما يسمى عمومًا باللاعقلانية.
تتأثر الطريقة التي نرى العالم من حولنا بها والتي تحكم كيفية تعاملنا معه بعددٍ من تلك التحيزات المعرفية؛ فعلى سبيل المثال، غالبًا ما نعزو إخفاقات الآخرين إلى أسباب داخلية كعدم كفائتهم أو كسلهم، في حين أنّنا نلوم العوامل الخارجية في حال كان الأمر يعنينا، فنلوم مزاج المعلّم وصعوبة الأسئلة في حال فشلنا في اختبارٍ لنا، ولا نرغب في لوم أنفسنا وتقاعسنا وعدم دراستنا بما فيه الكفاية.
التحيزات هذه يمكن أن تجعل من الصعب رؤية جميع العوامل التي تسهم في الظروف ولا تعطي صورةً كاملةً عنها، وبالتالي نكون أقلّ قدرةً على رؤيتها من وجهة نظرٍ أخرى، ولا نرغب في التفكير بما يظنّه الآخرون حيالها، ولذلك نفتقد تعاطفنا معهم.
نقع ضحيةً لفخ الاعتقاد بأنّ الآخرين لا يشعرون كما نشعر نحن، ولا يتصرّفون مثلنا في مواقف حياتهم اليومية
هذا يقودنا لتحيّز آخر وهو إلقاؤنا اللوم على الضحية نفسها، بعيدًا عن الآخرين حولها أو الظروف التي هي فيه، فكم مرةً فكّرتَ بأنّ أحدهم يستحق ما حدث معه لإنه ذهب لذلك المكان، أو لأنه قد فعل شيئًا بالسابق يستحق أن يُعاقب عليه؟
ينبع لومنا للضحايا من من حاجتنا إلى الاعتقاد بأنّ العالم وكلّ ما يحدث فيه يندرج تحت بند “عادل” و”منصف”، وأنّ كلّ فردٍ يلقى ما يستحقّ فيه، وهذا يخدعنا ويصل بنا لاعتقاد بأنّ مثل هذه الأشياء الرهيبة لا يمكن أن تحدث لنا أبدًا.
ومن جانبٍ آخر، نحنُ نقع ضحيةً لفخ الاعتقاد بأنّ الآخرين لا يشعرون كما نشعر نحن، ولا يتصرّفون مثلنا في مواقف حياتهم اليومية، ويكون هذا شائعًا أكثر في التفكير بالأفراد البعيدين جغرافيًّا، فعندما تشاهد تقريرًا عن كارثة أو نزاع في مكان ما، قد يقل احتمال شعورك بالتعاطف إذا اعتقدتَ أنّ أولئك الذين يعانون، هم أشخاص مختلفون جوهريًّا عنك.
لماذا يخفت تعاطفنا مع القضايا الكبرى حتى يختفي؟
لا بدّ وأنك تسائل نفسك أحيانًا لماذا لا تستطيع التعاطف مع قضيةٍ ما بعد أن كانت كلّ همّك يومًا ما، وتتابع كل ما يدور حولها، وتهتمّ لمعرفة تطوّراتها وأحداثها وما يتعلّق بها، مثل ما يحدث في سوريا أو في مصر أو أيّ مكانٍ آخر من العالم.
مبدئيًا قد يرجع السبب الرئيسي للاستجابة المُفرطة للخلايا العصبية المسؤولة عن التعاطف، ما يؤدي بعدها إلى ما يُعرف بالإرهاق العاطفيّ، وهو بالمناسبة استراتيجية أو آلية يقوم بها الدماغ لحماية نفسه من الإجهاد والتوتّر.
إذن نستطيع أنْ نقول أنّ اعتياد الأمر نابع من تعب الدماغ والعقل من الاهتمام به ومتابعته، فأنتَ حين تعتاد ما يحدث من حولك وتشعر أنّك فقدتَ تعاطفك مع الوضع والآخرين فيه، فليس لأنك أنانيّ أو ترغب بالتركيز على ذاتك ونفسك بعيدًا عمّن حولك، وإنما بسبب الإجهاد العقليّ الذي يعتريك.
الجانب المُظلم للتعاطف
يعمل الكثير من الأشخاص على توظيف التعاطف في التسويق لأهداف ربحية بحتة، فيمكن له أنْ يقود الناس إلى تقديم مبالغ هائلة لقضايا يرونها خيرية وذات فوائد إيجابية
على الرغم من الأهمية البالغة للتعاطف على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ، إلا أنه لا يخلو من جانبٍ مظلم في حال تمّت إساءة استخدامه وتوجيهه. فيمكن له أنْ يؤدي إلى دفع الفرد لاتخاذ خيارات متحيزة وسيئة، وأنْ يزيح المنطق ويعمل على تعطيل تحكيم العقل في بعض الأمور.
قصة واحدة كاذبة، أو خبر واحد ملفّق على قناةٍ تلفزيونية ما أو حساب فيسبوكيّ ما يمكن له أنْ يزرع أفكارًا ومشاعرَ خاطئة في نفوس متابعيها، وبالتالي تدفعهم لتكوين آراء أو اتخاذ قرارات لا علاقة لها بالصحة فقد بداعي التعاطف والشعور بالغير.
كما بات التعاطف لعبةً في يد صنّاع القرار من جهة، ووسائل الإعلام المختلفة من جهةٍ أخرى سواء كانت التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة بمواقعها المختلفة، فأصبح نقل القصص والأخبار والتركيز عليها يخضع لمعايير سياسية أو إعلامية بحتة، وبالتالي فأنتَ حين تتعاطف مع قصةٍ هنا أو خبرٍ هناك، فأنتَ تكون قد سيّرت للتعاطف معها بوعيٍ أو لا وعي، وفقًا لما يريده ناشروها أو مؤلّفوها.
ويعمل الكثير من الأشخاص على توظيف التعاطف في التسويق لأهداف ربحية بحتة، فيمكن له أنْ يقود الناس إلى تقديم مبالغ هائلة لقضايا يرونها خيرية وذات فوائد إيجابية، غيرَ أنها تكون مسيّسة لمصالح خفيّة.
وبالتالي بحاجة لاستخدام التعاطف في الحالات الأكثر ملاءمة، والتي تستوجب ذلك، وهذا ما يستدعينا للتفكير وإعمال المنطق في تعاملنا مع القضايا والأخبار والقصص من حولنا، حتى لا ننقاد لاتخاذ قرارات أو استهلاك مشاعر وعواطف غير منطقية ومسيّسة بطريقةٍ أو باخرى.