“بابا شهيد.. قبل ما يموت كان على طول عندنا حطب”، لعلّك شاهدت مقطع الطفلة السورية اليتيمة التي تشتكي برد الشتاء في مخيمات النزوح في إدلب، وقد تتأثر به قليلًا ثم تمرّ عنه بعد ذلك، لكن كسوريين شاهدنا المقطع وبدأ شريط الذاكرة يعيدنا إلى أقسى اللحظات التي ارتكب فيها نظام الأسد مجازر جماعية بحقنا، وسلب منا حق العيش في وطننا، ليتجدد شعور الانتقام والعزم على محاسبته.
يكاد يكون سؤال العدالة من أبرز العناوين في الملف السوري، خاصة مع التوجه العربي للتطبيع مع نظام الأسد منذ العام الماضي، إذ تجاهلت الدول العربية جرائم النظام وصافحت اليد الملطخة بدماء السوريين.
واليوم بعد مرور 13 عامًا على الثورة السورية، يتساءل السوريون الذين تزخر ذاكرتهم بقصص مؤلمة عن الفقد والتهجير عن موعد القصاص من المجرم؟ وهل الجرائم تسقط بالتقادم؟ وكيف يسير ملف محاسبة مرتكبي الانتهاكات؟.
أبرز محاكمات المتورطين في جرائم النظام
المحاكمات الأخيرة في أوروبا بعثت التفاؤل لدى السوريين، وبدأت فكرة أن مجرمي الحرب لن يعيشوا حياتهم بشكل روتيني بعدما أذاقوهم الويلات تتعزز، كان ذلك بدءًا من محاكمة إياد الغريب الضابط السابق في استخبارات النظام السوري، إذ أصدر القضاء الألماني في فبراير/ شباط 2021 حكمًا تاريخيًّا هو الأول في العالم في قضية حول جرائم ضد الإنسانية بسوريا، وحكمت على الغريب بالسجن لمدة 4 سنوات ونصف.
في انتصار آخر للمنظمات الحقوقية السورية التي توثّق الانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد، أصدرت المحكمة العليا في كوبلنز غربي ألمانيا في يناير/ كانون الثاني 2022، حكمًا بالسجن مدى الحياة بحق الضابط السابق في مخابرات نظام الأسد أنور رسلان (58 عامًا) لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، بعدما خلصت إلى أنه مسؤول عن مقتل معتقلين وتعذيب آلاف آخرين في معتقل للنظام في دمشق بين عامَي 2011 و2012.
وفي قرار وصفه الحقوقيون السوريون بأنه “خطوة في طريق العدالة للسوريين”، صادقت المحكمة الاتحادية الألمانية في ديسمبر/ كانون الأول 2023 على حكم أصدرته المحكمة الإقليمية في برلين خلال فبراير/ شباط من العام ذاته، يقضي بالسجن المشدد مدى الحياة بحقّ موفق دواه الملقّب بـ”سفاح اليرموك”، الذي أُدين بارتكاب مجزرة الريجة وجرائم حرب في مخيم اليرموك بمحافظة دمشق عام 2014.
في حين تستمر جلسات محاكمة الطبيب السوري، علاء موسى، في المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت غربي ألمانيا، والتي يستمع خلالها القضاة إلى شهود عيان ومحققين وخبراء في القانون والطب الشرعي، إذ قبضت الشرطة الألمانية على موسى في يونيو/ حزيران 2020 بتهمة تعذيب المعتقلين وحرق أعضائهم التناسلية، خلال عمله طبيبًا في سوريا.
وضمن المحاولات القانونية للاقتصاص من مجرمي الحرب في سوريا، تمكّن الحقوقيون من جمع أدلة كافية لإصدار مذكرة توقيف من محكمة العدل الاتحادية في ألمانيا بحقّ المواطن السوري أحمد ح. الذي عمل كقائد محلي لميليشيا النظام السوري التي باتت تعرَف بـ”الشبيحة” في حي التضامن الدمشقي، واعتقلت الشرطة الجنائية الفيدرالية في بريمن الألمانية المذكور، للاشتباه بقيامه بأعمال قمع عنيفة للمعارضة من اعتقال تعسفي وتعذيب وابتزاز العائلات بالأموال.
أما في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، اعتقلت السلطات الألمانية العنصر السابق في ميليشيا “حزب الله” عمار أ. سوري الجنسية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من خلال التعذيب وسلب الحرية وارتكاب جرائم حرب وقعت بين عامَي 2012 و2013، في منطقة بصرى الشام بمحافظة درعا جنوب سوريا.
تصدر ألمانيا أحكامها بموجب “الولاية القضائية العالمية”، التي تسمح بالتحقيق في بعض أخطر الجرائم وملاحقتها قضائيًّا، بصرف النظر عن مكان ارتكابها وعن جنسية المشتبه بهم أو الضحايا، ما أتاح الفرصة لرفع المزيد من الشكاوى ضد مرتكبي الانتهاكات الذين يقيمون في سوريا.
لم تقتصر المحاكم ضد المتورطين بجرائم حرب بحقّ السوريين داخل ألمانيا فقط، بل وصلت إلى عدة دول أوروبية، وشهد عام 2023 العديد من التطورات على هذا الصعيد، ففي فرنسا، نجحت جهود منظمات حقوقية بمحاكمة ثلاثة من أبرز المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة بحقوق الإنسان في سوريا، حيث أصدر المدعي العام في باريس يوم 29 مارس/ آذار قرار اتهام، والأمر بمحاكمة كل من علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، وجميل الحسن رئيس الأمن الجوي، وعبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في الأمن الجوي (مطار المزة العسكري).
وذلك بناءً على قضية مقتل مواطنيَن سوريَّين حاصلَين على الجنسية الفرنسية هما مازن وباتريك دباغ، اللذين تم اعتقالهما وقتلهما تحت التعذيب، على أن تبدأ أولى جلسات المحاكمة التي يرجّح أن تكون غيابية في مايو/ أيار 2024.
ولعلّ أبرز الخطوات التي شهدتها باريس في هذا الملف، إصدار القضاء الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني مذكرة توقيف بحقّ رئيس النظام السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد و3 مسؤولين آخرين، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر هجمات غاز السارين، التي استهدفت في 21 أغسطس/ آب 2013 الغوطة الشرقية ومعضمية الشام (الغوطة الغربية) بريف دمشق.
شملت المذكرة مسؤولَين آخرين في حكومة النظام، هما غسان عباس مدير الفرع 450 من مركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، وبسام الحسن مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية، وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية.
وكانت قد منعت هذه المذكرة رئيس النظام السوري بشار الأسد من حضور قمة المناخ في الإمارات العام الماضي، الذي دُعي إليها بحسب ما ذكرت صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية حينها.
وقبلها بشهر أي في أكتوبر/ تشرين الأول، أُصدرت مذكرة توقيف فرنسية أيضًا بحقّ 4 ضباط رفيعي المستوى في قوات النظام، بتهمة تعمّد استهداف مواقع مدنية وتوجيه هجمات ضد السكان المدنيين بالبراميل المتفجرة في درعا عام 2017، والتي أدّت إلى مقتل المواطن السوري الحاصل على جنسية فرنسية صلاح أبو نبوت، والذي كان منزله من بين المستهدفين آنذاك.
لا يركز ملف المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري بعد اندلاع الثورة السورية فحسب، بل تكثَّف الجهود لمساءلة كل من أراق دماء السوريين خلال أكثر من 5 عقود، فقبل أيام قليلة أحال المدّعي العام السويسري رفعت الأسد، عمّ بشار الأسد، إلى المحكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قضية مذبحة حماة في ثمانينيات القرن الماضي، التي قُتل خلالها نحو 40 ألف سوري.
وكانت قد حكمت محكمة التمييز في باريس على رفعت الأسد بالسجن لمدة 4 سنوات ومصادرة أملاكه، وذلك بعد إدانته بتهمة جمع أصول في فرنسا بطريقة احتيالية تقدر قيمتها بـ 90 مليون يورو، كما تلاحقه تهم مشابهة في إسبانيا التي وجّه قضاؤها إليه تهمة بغسل 700 مليون يورو من خلال شراء عقارات فارهة.
وفي أول دعوى قضائية ضد النظام السوري في أمريكا، رفع المواطن السوري الذي يحمل الجنسية الأمريكية، عبادة مزيك، دعوى ضد النظام بتهمة التعذيب في السجون والمراكز الأمنية، بعد أن كان قد اُعتقل على يد قوات النظام عام 2012 من مطار دمشق الدولي، وتعرّض للتعذيب في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري.
الآمال معقودة أمام محكمة العدل الدولية
تعدّ الدعوى التي رفعتها كل من هولندا وكندا أمام محكمة العدل الدولية، العنوان الأبرز في مسار محاسبة النظام السوري خلال عام 2023، ففي يونيو/ حزيران تقدم البلدان بشكوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد النظام السوري، بسبب انتهاكه اتفاقية مناهضة التعذيب التي صادق عليها عام 2004، وذكرت محكمة العدل الدولية ببيان لها أن هولندا وكندا أكدتا بطلبهما على أن النظام السوري ارتكب انتهاكات لا حصر لها منذ عام 2011.
عقدت المحكمة جلسة الاستماع الأولى في 10 أكتوبر/ تشرين الأول بغياب النظام السوري، بعدما أُجّلت الجلسة لـ 3 شهور بطلب مسبق منه، فيما تركزت الجلسة حول طلب هولندا وكندا فرض تدابير مؤقتة على النظام السوري، لوقف التعذيب على الفور لحماية الضحايا المحتملين وفقًا للمادة 41 من نظام المحكمة، وطالبتا بفتح السجون أمام مفتشين من الخارج، وتبادل المعلومات مع العائلات بشأن مصير أقاربهم.
وفي خطوة لاقت ترحيبًا حقوقيًّا ووُصفت بالتاريخية في مسار محاسبة الأسد دوليًّا، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا طالبت فيه النظام السوري بوضع حدّ للتعذيب في سجونه، وأن يضمن الحفاظ على جميع الأدلة المتعلقة بالتعذيب.
وأكد رئيس المحكمة، جوان دونوغو، أنه “يجب على سوريا أن تتخذ كل الإجراءات التي في حدود سلطتها، لمنع أعمال التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وضمان عدم ارتكاب مسؤوليها أو المنظمات أو الأشخاص من الخاضعين لسيطرتها للتعذيب”.
حددت محكمة العدل الدولية يوم 3 فبراير/ شباط 2024 موعدًا نهائيًّا لتقديم كندا وهولندا المذكرتَين القانونيتَين، في إطار الدعوى التي قدمتاها ضد النظام السوري، ويوم 3 فبراير/ شباط 2026 موعدًا لتسليم النظام مذكرته المضادة للشكوى، علمًا أنه طلب من المحكمة 18 شهرًا للردّ على المذكرة القانونية.
وفيما يتعلق بالاستعداد لهذه الجلسات، أكّد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لـ”نون بوست”، أن فريقه يحضّر مجموعة من البيانات التي وثقتها الشبكة، والتي تثبت تورُّط النظام السوري بعمليات تعذيب وقتل سوريين، بهدف مشاركتها مع الادّعاء العام الهولندي والكندي.
جدير بالذكر أن مذكرة الادّعاء المكتوبة التي تقدمت بها هولندا وكندا إلى محكمة العدل الدولية، استندت إلى عدد من المصادر الأممية وبيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي تمّت الإشارة إليها في 14 مرة.
للمحاسبة أبعاد أخرى
يرى عبد الغني أن للمحاسبة أبعادًا أخرى لا تقتصر على المحاكمات، إذ تعد تعرية النظام دوليًّا وقطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية معه أحد أشكال المحاسبة على جرائمه المستمرة بحقّ السوريين، وهذا ما تحقّق بشكل كبير، فالدول التي لديها علاقات مع النظام السوري لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وهي دول ديكتاتورية، أما الغالبية العظمى من دول العالم فتتخذه مضرب مثل بالتوحُّش والقتل والقمع، حسب وصفه.
ومؤخرًا، وفي تقدم حقوقي بارز ضد النظام، أقرَّ مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي مشروع قانون لمناهضة التطبيع مع نظام الأسد بأغلبية ساحقة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وينص على حظر الحكومة الفيدرالية الاعتراف أو تطبيع العلاقات مع أي حكومة في سوريا يقودها بشار الأسد، ويمنح صلاحيات للرئيس الأمريكي لمعاقبة من يشارك في سرقة السوريين، بالإضافة إلى فرض إجراءات تزيد من إمكانية مراقبة التداولات التجارية التي يمكن أن تخترق العقوبات.
ومن أهم البنود تمديد قانون قيصر إلى عام 2032، مع التشدد مع من “يحاول سرقة أموال الشعب السوري” عبر إعادة الإعمار، أو محاولة عقد صفقات تحقق امتيازات للنظام السوري، بحسب المجلس الأمريكي من أجل سوريا.
شهد العام الماضي أيضًا فرض المزيد من العقوبات على أشخاص مقرّبين من النظام السوري ومتورطين بجرائم ضد الإنسانية، كان آخرها في ديسمبر/ كانون الأول، إذ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا فرض عقوبات على 8 أشخاص من وزراء وضباط عسكريين في قوات النظام، متورطين في قمع المواطنين لمجرد ممارستهم الحريات الأساسية.
في حين يصف مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الخطوات المتخذة في مسار المحاسبة حتى الآن بالمحدودة، ويُرجع ذلك إلى الإهمال الدولي لهذا الملف، مؤكدًا أن نبذه سياسيًّا لا يكفي لمحاسبته، بل على المجتمع الدولي التحرك لإزالته عن السلطة.