كما كان منتظرًا، تفجّر العنف أمس في كينيا، البلد الإفريقي الذي يعاني انقسامات عرقية عميقة، بالتزامن مع انطلاق التصويت في الانتخابات الرئاسية المعادة التي تقاطعها المعارضة، مما خلّف سقوط عديد من القتلى والجرحى في صفوف المحتجين أنصار المعارضة.
وكانت المحكمة العليا في البلاد قد ألغت نتائج الانتخابات التي جرت في أغسطس/آب وأسفرت عن فوز الرئيس أوهورو كينياتا، إلا أن زعيم المعارضة رايلا أودينغا سحب ترشحه للانتخابات ودعا لمقاطعتها، معتبرًا أن التصويت ستنقصه الحرية والنزاهة، بعدما فشلت جهوده في إصلاح اللجنة الانتخابية التي تعتبرها المعارضة منحازة للحزب الحاكم.
3 قتلى وعشرات الجرحى
رغم الدعوات السابقة لزعيم المعارضة الكينية رايلا أودينغا لأنصاره بعدم اعتراض طريق الشرطة، قائلاً: “ننصح الكينيين الذين يحترمون الديمقراطية والعدل بالوقوف وإقامة الصلاة بعيدًا عن مراكز الاقتراع أو الاكتفاء بالبقاء في المنزل”، فإن ما حدث لم يكن متوقعًا، فكان يوم انتخابات على وقع الدم والنار، سقط خلاله ثلاثة قتلى وعشرات الجرحى من أنصار أودينغا.
وقتل شخصان بمظاهرات في معاقل المعارضة غرب البلاد، فيما سقط الثالث في حي شعبي بالعاصمة نيروبي خلال اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين، لترتفع بذلك حصيلة القتلى الذين سقطوا في أحداث العنف المرتبط بالانتخابات الرئاسية المقامة في أغسطس/آب الماضي حين فاز الرئيس المنتهية ولايته أوهورو كينياتا بولاية ثانية، قبل أن تبطل المحكمة العليا نتيجة الانتخابات وتفرض إعادتها، إلى 43 قتيلاً، معظمهم حسب منظمات للدفاع عن حقوق الإنسان، في عمليات قمع شديدة مارستها الشرطة ضد المتظاهرين.
ينتمي الرجلان إلى اثنتين من المجموعات الإثنية الرئيسية في كينيا، فكينياتا ينتمي إلى إثنية “كيكويو” وهي الأكبر، وأودينغا إلى إثنية “لويو”
ونظمت هذه الانتخابات الجديدة بعدما ألغت المحكمة العليا في الأول من سبتمبر/أيلول الماضي بطلان نتائج الانتخابات السابقة التي أُعلن فيها فوز كينياتا بـ54.27% من الأصوات مقابل 44.74% لأودينغا، وبررت المحكمة العليا قرارها الذي شكل سابقة في إفريقيا بحصول مخالفات في نقل النتائج. وأحرق شبان إطارات وحواجز في الشوارع، وردت الشرطة بإطلاق النار في الهواء والغاز المسيل للدموع لتفريق مجموعات من المعارضة رشقوا عناصرها بحجارة في مدينة كيسومو (غرب) التي تعتبر مركزًا رئيسًا لأنصار أودينغا، وشهدت أعمال عنف عرقية كبيرة بعد انتخابات أجريت عام 2007 وكانت نتائجها محل نزاع، وأظهرت لقطات تليفزيونية احتشاد مئات من الشبان في طريق رئيسي بمدينة ميغوري (غرب)، حيث تناثر الحطام والحواجز المحترقة.
وفي حي كيبيرا الفقير في نيروبي، تدخلت الشرطة مستخدمة الغاز المسيل للدموع وأطلقت النار في الجو لتفريق متظاهرين حاولوا قطع طريق إلى عدد من مراكز الاقتراع، وحصلت حوادث مماثلة في حي ماثاري الفقير في نيروبي، ومدينتي سيايا وهوما باي (غرب)، وكانت المعارضة قد رفضت سابقًا المشاركة في انتخابات الإعادة ما لم تُغيّر اللجنة الانتخابية، وشككت في نزاهتها وقدرتها على إدارة العملية الانتخابية.
تصاعد أعمال العنف في كينيا
في غضون ذلك، أعلن رئيس اللجنة الانتخابية وأفولا شيبوكاتي في خطاب متلفز تأجيل الاقتراع حتى السبت في أربع ولايات تعمها التظاهرات، وهي كيسومو وهوما باي وميغوري وسيايا، وقال شيبوكاتي إن القرار مرده التحديات المرتبطة بالأمن، مضيفًا أن ما يقدر بنحو 6.55 مليون كيني أدلوا بأصواتهم بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة أي 34.5% فقط من الناخبين المسجلين، مقابل 80% في انتخابات أغسطس التي ألغتها المحكمة فيما بعد.
وتندرج المنافسة بين الرئيس المنتهية ولايته كينياتا وأودينغا ومنافسه زعيم المعارضة رايلا أودينغا، وهما نجلان لشخصيتين في فترة الاستقلال: أول رئيس للبلاد جومو كينياتا ونائبه أوجينغا أودينغا، ضمن تاريخ طويل من الخصومة على مدى أكثر من نصف قرن بعد أن تحول والداهما جومو كينياتا وجاراموغي أودينغا من النضال المشترك في سبيل الاستقلال إلى خصمين لدودين، وينتمي الرجلان إلى اثنتين من المجموعات الإثنية الرئيسية في كينيا، فكينياتا ينتمي إلى إثنية “كيكويو” وهي الأكبر، وأودينغا إلى إثنية “لويو”.
المحكمة تزيد من تعقيد الوضع
هذه المظاهرات، بدأت عشية أول أمس الأربعاء، بعد قرار المحكمة التراجع عن النظر في طلب تأجيلها لغياب النصاب القضائي، تنديدًا بهذا القرار، وقرر رئيس المحكمة العليا ديفد ماراغا أن المحكمة لم تتمكن من النظر في الطعن المقدم بشأن إرجاء الانتخابات الرئاسية المرتقبة، بسبب عدم اكتمال النصاب إثر غياب خمسة من القضاة السبعة. وقدم الطعن ثلاثة ناشطين في حقوق الإنسان كانوا يرغبون في إرجاء الانتخابات، معتبرين أن كينيا ولجنتها الانتخابية غير جاهزتين لتنظيم هذا الاقتراع، وكانت المحكمة العليا نفسها قد ألغت نتائج الانتخابات التي جرت يوم 8 من أغسطس/آب الماضي وفاز فيها الرئيس الحالي أوهورو كينياتا، بسبب مخالفات إجرائية.
يخشى الكثير من الكينيين أن يعاد سيناريو ما بعد انتخابات عامي 2007 و2013
وما زاد من حدة الأزمة السياسية، إقرار البرلمان تعديلاً في قانون الانتخابات ينص على أنه في حال انسحاب أحد مرشحين من السباق الانتخابي يفوز المرشح الثاني تلقائيًا، وكان من المقرر أن يتنافس كينياتا وأودينغا في الانتخابات الجديدة، لكن أودينغا انسحب من الانتخابات المقبلة، الثلاثاء. بالتزامن مع ذلك، صرّح رئيس لجنة الانتخابات وافلا تشيبوكاتي، بأنه لا يستطيع أن يضمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة دعي إليها نظريًا ما يقارب 19.6 مليون شخص، مشيرًا إلى تدخلات لسياسيين وتهديدات لزملائه، فيما استقالت عضو اللجنة الانتخابية روزالين أكومبي، وفرت إلى الخارج، بعد أن قالت إنها تلقت تهديدات بالقتل، وقالت أكومبي أيضًا: “من المستحيل في هذه المرحلة إجراء انتخابات ذات مصداقية”، مضيفة أن الطرفين المتنازعين كانا بحاجة إلى التفاوض بشأن طريقهما للخروج مما وصفته بأنه “أزمة سياسية”.
قوات الأمن تهاجم متظاهرين مساندين للمعارضة
ويخشى الكثير من الكينيين أن يعاد سيناريو ما بعد انتخابات عامي 2007 و2013، حيث شهدت البلاد أعمال عنف أدت لمقتل المئات وتشريد مئات الآلاف، ففي عام 2007 أثارت دعوة المرشح ريلا أودينغا لتنظيم احتجاجات في الشوارع بعد مشكلات في إحصاء الأصوات، موجة واسعة من العنف الطائفي أسفرت عن مقتل 1200 وتشريد 600 ألف، دخلت البلاد بعدها مرحلة صعبة، إلى أن تم التوصل لاتفاق بوقف العنف بين الأطراف، نص في مجمله على تقاسم السلطة باستحداث منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى وتعيين زعيم المعارضة في هذا المنصب.
هل تظل تجربة واعدة؟
على الرغم من العنف والأحداث المؤسفة التي صاحبت العمليات الانتخابية في كينيا سنوات 2007 و2013، فإن تجربتها تظل مشرقة بالنظر والمقارنة مع الديكتاتوريات الإفريقية، فيكفي كينيا التي نالت استقلالها عن التاج الكولونيالي البريطاني أواخر العام 1963، أنها البلد الإفريقي الأول الذي يفتخر بأنه ألزم الحكومة بإعادة الانتخابات مرة أخرى، ورئيس الجمهورية خضع لحكم القانون ولم يُرجع الأمر إلى مؤامرات واستهداف خارجي.
وترجع بداية التحول الديمقراطي في كينيا إلى أكثر من 25 سنة، حيث أجريت أول عملية انتخابات حقيقية في البلاد سنة 1992، فاز بها حزب الاتحاد الوطني الإفريقي الكيني “الحاكم”، ثم توالت بعد ذلك التجارب الانتخابية في البلد المتنوع إثنيًا وجغرافيًا، ويحقّ للكينيين الافتخار كونهم شعب يستطيع التعبير عن رأيه بصوت مسموع، مما يدلّ على انخراطه في العملية الديمقراطية، كما أنّه يستطيع إلزام حكومته بحكم القانون.