خَبِر شاعر فلسطين الملتزم بهموم شعبه، علي فودة، حياة اللجوء مبكرًا، فبعد سنتين فقط من ولادته (ولد سنة 1946) سقطت قرية قنير في حيفا بيد العصابات الصهيونية، ما دفعه إلى اللجوء لمخيم جنزور قرب جنين شمال الضفة الغربية.
كانت رحلة فودة إلى هذا المخيم قصيرة، فلم يستقر هناك سوى سنتين فقط، لينتقل بعدها إلى مخيم نور شمس في طولكرم الذي تأسس سنة 1951 ولجأ إليه حينها الأهالي من قرى حيفا بعد عمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها العصابات اليهودية بحقهم.
علي فودة لا وجهة ولا مستقر
عاش علي فودة أغلب سنوات حياته في المخيمات لكنه لم يعتبرها سوى عنوان للتشرد والمنفى، ولم تكن وطنًا له وإن كانت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي مجرد مكان يستقر فيه إلى حين عودته لمسقط رأسه محررًا.
تفنن شاعر فلسطين في وصف معاناة المهجّرين في مخيمات اللجوء وبؤس النزوح، كيف لا وقد عايش هذا الأمر بنفسه طيلة سنوات طويلة لم يعرف خلالها طعم الهدوء وراحة البال، وفي إحدى قصائده الخالدة يقول شاعرنا في وصف طوابير اللاجئين الطويلة أمام خِيَم الإغاثة لتناول وجبة طعام أو كأس حليب مجفف: “واقف، وكيس الخيش بين يديّ.. واقف، وصف العار كالأفعى.. ومنذ الفجر واقف.. وبين الصف من كانوا ذوي عز وجاه والمعارف.. وشرطي يصرخ: لا تخالف!.. ثم يقول: بعيداً عنك يا قنّير إني لم أنم أبدا.. ولم أحلم فعمري كله سفر”.
لم تمنعه حياة اللجوء والمخيمات من التعليم، فأكمل دراسته وعمل مدرسًا في قرية أم عبهرة – مرج الحمام، ودرّس أيضًا في جبل النظيف وجبل التاج وجبل القلعة وجبل الأشرفية وكلها قرى أردنية في العاصمة عمّان.
لم يكتب لفودة العودة إلى حيفا كأنه اعتاد حياة اللجوء، فغادر سنة 1975 عمّان إلى الكويت علّه يأنس المكان الجديد وينسيه الوجع، إلا أن الألم ظل يلاحقه أينما حلّ، فشعر هناك بمزيد من الغربة والحنين إلى الوطن المكلوم والشعب المنكوب.
بعدها بسنة تقريبًا اختار شاعرنا وجهة أخرى ووصل إلى عاصمة الرشيد بغداد، وفي ظنّه أنه سيجد ضالته في عاصمة العلم والأدب والترجمة والفنون التي سبقت عصرها وقصدها طلبة العلم والموهوبون من مختلف بقاع الأرض.
خاب ظن علي فودة مجددًا، ما دفعه إلى الانتقال إلى بيروت ويكمل حياته هناك إلى جانب إخوانه الذين قاسموه الهمّ والقضية وشاركوه طريق النضال والكفاح في سبيل نصرة القضية الفلسطينية العادلة وإرجاع الحق إلى أصحابه.
وعن هذا التشرد المتواصل يقول علي فودة في ديوانه “عواء الذئب”: “لجأت من البرد للورد، لكنهم طاردوني.. عبرت إلى النهر ما استقبلوني.. هرعت إلى البحر.. يا للفجيعة! خابت ظنوني.. من غيري يا رب الغرباء، تطارده الأشباح.. من حيفا، غزة، حتى الشيّاح”.
الارتباط بالوطن
رغم أنه عاش أغلب حياته مهجرًا بين المخيمات داخل فلسطين وخارجها، فإن علي فودة لم يغفل عن بيان حبه لوطنه السليب وافتخاره به، فنظم فيه أروع القصائد وأجمل الأغاني حتى يتسنى له التغزل بهوائه ومائه وشجره وطيوره وروعة تضاريسه وكرم أهله وبديع فصوله، ويقول في مطلع قصيدة “فلسطيني كحدّ السيف”: فلسطيني كحدّ السيف كالمنجل.. أصولُ، أجولُ، لا أسأل.. ومثل الشمس قد أرحل.. لدنيا الغرب.. للأجداد والمنهل.. وأصرخُ في الوجودِ أنا.. فلسطيني …فلسطيني”.
لم يترك شاعر فلسطين الملتزم فرصة إلا وأظهر حبه لوطنه، فهو يحلم بالعودة إليه يومًا ما بعد أن ينتصر الفلسطينيون في معركتهم الوجودية ضد المحتل الإسرائيلي الغاصب والقوى الغربية التي تسانده وتدفع به لانتهاك الحرمات والتشفي من الفلسطينيين.
اختار علي فودة فلسطين حبًا وطواعية وفي السر والعلانية وأعلن تقديس كل شيء فيها رغم المعاناة وحياة اللجوء التي لم تفارقه، إذ لم يهنأ يومًا ولم يذق طعم الراحة ولا النوم الهانئ، فقد كان ملاحقًا من اليهود والفقر والحاجة واليتم، فكتب الأغنية القصيدة الشهيرة التي غناها مارسيل خليفة: ” إني اخترتك يا وطني حبا وطواعية.. إني اخترتك يا وطني سرا وعلانية.. إني اخترتك يا وطني.. فليتنكر لي زمني.. ما دمت ستذكرني.. يا وطني الرائع يا وطني”.
شاعر الثورة
“تتجلّى الروح الثورية الملتزمة في أشعار علي فودة كلها وبشكلٍ واضح، إذ تشيع فيها روح التمرُّد والإباء، فهو مسكونٌ بقضايا وطنه، وهمومه هي التي تحرك وجدانه وأحاسيسه، ما جعل أشعاره سجلًا للأحداث وترجمانًا صادقًا لمشاعر شعبه وأمته”، وفقًا للكاتب نضال القاسم في كتابه “علي فودة.. شاعر الثورة والحياة”.
التحم علي فودة منذ صباه بالقوى الشعبية الداعية للثورة والكفاح والساعية إلى تحرير البلاد، وسلاحه الكلمة فكان شاعرًا ملتزمًا بهموم شعبه، خاصة أنه عايش النكبة وحياة اللجوء وعرف الاضطهاد والحرمان وإرهاب الصهاينة عن كثب، إذ يقول فودة في قصيدته التي جاءت بعنوان “الغضب” وضمّنها ديوان الغجري الصادر في عام 1977: “عنوةً يأتيكَ موج البحر في الحرب وفي السلم.. احتدمْ.. والتحمْ بالعشب والنار التحِمْ.. لا تخف.. فالنهر لا يجري بغير الماءِ.. كُنْ شلاّل ماءٍ.. أو غناءً دمويا أو رداء.. كن ضمير الفقراء.. واحتدِمْ ثم احتدم”.
ينادي فودة في هذه القصيدة وغيرها جماهير شعبه للثورة وعدم الخوف، فالنصر آتٍ لا محال وإن طال زمانه، فبخلاف الثورة لن تتحرر فلسطين ولن يرجع الأهالي المهجرين إلى منازلهم ولن يرجع الحق لأصحابه.
أطلق شاعرنا الملتزم العنان لعواطفه لرسم أجمل القصائد وأصدقها، تعبيرًا عن العزيمة القوية للشعب الفلسطيني لمواصلة الكفاح والمقاومة حتى تُحرّر الأرض ويعود الحق لصاحبه ويعود المهجّرين إلى منازلهم الصامدة في وجه العدو الصهيوني.
استشهاد البطل
كتب فودة الشعر لشحذ الهمم وبث الحماس في صفوف الفلسطينيين، إلا أنه لم يكتف بذلك، فقد ارتدى اللباس العسكري وحمل بندقية الكلاشنكوف ودافع عن وطنه وثورته والتحق بالمقاتلين إلى بيروت حتى يشاركهم المحنة.
قرر علي فودة أن يكتب ويحارب، فأصدر جريدة الرصيف بالتعاون مع رفيقه رسمي أبو علي، والشاعرَين العراقيَّين آدم حاتم وغيلان، إضافة إلى الكردي أبو روزا وولف، وكان “مقهى أم نبيل” قبالة جامعة بيروت العربية بمثابة المقرّ الرسميّ لهيئة تحرير المجلة.
كتب علي فودة أفكاره وتطلعاته ونقده للواقع في هذه الجريدة وأخذ على عاتقه أن يوزعها بنفسه على المقاتلين العرب والفلسطينيين في بيروت بعد أن انسحب أغلب المؤسسين من الجريدة وكل له أسبابه الخاصة للانسحاب.
في منفاه الأخير ببيروت كان فودة يعرف أنه سائر إلى حتفه، إذ يقول في ديوانه “عواء الذئب” إنه يسير باتجاه طلقة القناص، غير آبه بالموت في سبيل فلسطين الحبيبة، فكل همه أن يتحرر وطنه ويزول الاحتلال ويذهب عن فلسطين دون رجعة، فكتب: “لست أخشى طلقة القناص.. ليس يميتني هذا الرصاص.. ولست أرهب قاتلي فكيف أموت.. أنا الحجر الفلسطيني يا بيروت”.
صباح يوم بيروتي ساخن حمل علي فودة كعادته سلاحه فوق ظهره وتأبط نسخًا من جريدة الرصيف، وتوجه نحو عين المريسة لتوزيع الجريدة على المقاتلين المحاصرين، لكن المنية كانت أقرب إليه حيث أصيب بشظايا قذيفة إسرائيلية غادرة.
نجا علي فودة من النكبة والنكسة ومن مجازر الاحتلال الصهيوني، لكن قدره الاستشهاد في بيروت بعيدًا عن موطنه وهو في عنفوان شبابه، إذ تمنّى علي فودة أن يموت على ثرى وطنه فلسطين وأن يُدفن في رحمه، لكن شاءت الأقدار أن يستشهد في بيروت في منتصف أغسطس/آب 1982 وهو لم يتجاوز 36 ربيعًا، تاركًا مجموعات شعرية تتغنى بالأرض والوطن وتدعو للثورة والكفاح من أجل استرداد الحقوق دون انتظار أي دعم خارجي لن يأتي رغم الوعود الكثيرة.