المناضل والشاعر الفلسطيني، كمال بطرس إبراهيم يعقوب ناصر، وُلد في مدينة غزة عام 1924، وتربى في بلدة بيرزيت شمالي رام الله، ودرس في مدينة القدس، وأنهى دراسته العليا في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1945 وتخرج فيها بإجازة في العلوم السياسية.
طيلة سنوات حياته، سار ثائرًا في طريق التحرير وانضم مبكرًا إلى المقاومة الفلسطينية، فقد تركت النكبة والنكسة آثارًا عميقة في تكوينه الفكري ومجرى حياته اللاحق، وكتب عن ذلك في مذكراته عام 1967:
“عندما كنت أنام بعد هزيمة 1948، كنت أستيقظ من نومي مذعورًا في السنوات الأولى للنكبة من جراء كوابيس وأحلام كانت تعذبني باستمرار، وتذكرني بالمعارك المزيفة والاستسلام، والمسرحية التي مثلت على أرض فلسطين. كما كانت هذه الكوابيس تطاردني فتصور لي الذبح والقتل الجماعي والتشريد الذي حدث لبني قومي وهم يطردون من بلادهم فلسطين”.
كمال ناصر “ضمير الثورة”
يعد الشاعر كمال ناصر أحد أبرز قامات الثقافة الفلسطينية، ولقب بـ “ضمير الثورة الفلسطينية” إذ تبنى منذ شبابه مشروع النضال والقتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، مستغلًا موهبته الشعرية الفذة والنادرة وقدرته المميزة على النظم والغزارة في الإنتاج الأدبي.
اختير المناضل كمال ناصر عام 1969 لعضوية أول لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وخلال عمله في المنظمة أسندت إليه مهمة تأسيس الإعلام الفلسطيني الموحد ناطقًا باسم فصائل المنظمة ومنظماتها الشعبية وشخصياتها الوطنية بهدف الحد من التبعية الإعلامية والثقافية، وحينها حول شاعرنا اسم مجلة “فتح” إلى “فلسطين الثورة” حتى يبعد الصبغة الحزبية عنها.
وصدر العدد الأول من المجلة الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية في الربع الثاني من عام 1972 في بيروت، وبدأت المجلة كدورية أسبوعية ثم تحولت إلى صحيفة يومية سنة 1976، وعُرفت بخطها الثوري الصريح الرافض لأشكال المساومة حتى نهاية 1973.
نظّم كمال ناصر الشعر تعبيرًا عن التزامه بقضايا الكفاح والعمل الفدائي الفلسطيني، إلا أنه في وقت ما لم يجد نفسه إلا في الصحافة ليعبر عن أفكاره السياسية ويلبي بعض طموحه الثقافي الكبير، وهو ما دفعه إلى إصدار صحيفة “الجيل الجديد” أبريل/نيسان عام 1949 في القدس، صحبة المذيعين هشام النشاشيبي وعصام حماد.
إلى جانب صحيفة “الجيل الجديد”، كان لكمال ناصر دور مهم في عمل جريدة “البعث” التي أصدرها المناضل والمفكر الفلسطيني عبد الله الريماوي في الضفة الغربية الناطقة باسم التنظيم الفلسطيني لحزب البعث (شارك كمال ناصر في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في رام الله سنة 1950).
واصل جهوده الصحفية من خلال صحيفة “فلسطين” التي كانت تصدر في القدس، وهي من أهم الجرائد الفلسطينية وأوسعها انتشارًا في ذلك الوقت، وفيها نشر العديد من المقالات والأشعار الداعمة للحق الفلسطيني في دولة ذات سيادة.
حاول كمال ناصر من خلال مقالاته والصحف التي أشرف عليها عكس ما كان يحدث في البلاد من أحداث ونقل كل التطورات حتى تصل إلى كل فلسطيني وتصل أيضًا إلى العالم الخارجي الذي انخدع بالروايات الصهيونية.
وكان للصحافة الفلسطينية آنذاك دور نضالي في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي وكشف سياساته الاستيطانية وفضح عملائه في الداخل، ما ساهم في توعية الرأي العام الفلسطيني وبثّ الحماس فيه لمواجهة المحتل.
استمر شغف ناصر بالعمل الصحفي جنبًا إلى جنب مع كتابة الشعر، ومن أبرز ما كتب في قصيدة “غضبة فلسطين” المأخوذة من ديوانه “جراح تغني” الصادر عن “دار الطليعة” في بيروت سنة 1960، إذ يفول: “لن نستريح! والشعبُ دامٍ جريح! والقيد في المعصمِ والحقدُ ملء الدمِ ودربنا شاحبُ الأنجمِ يضجُّ بالآثم المجرمِ”.
اعتقالات وتضييق
من يقرأ قصائد كمال ناصر اليوم يعرف أنها كانت تستشرف المستقبل الذي نعيش فيه، إذ استشرف النكبة والخذلان والتواطؤ العربي مع المحتل الإسرائيلي، إذ جعله ارتباطه القوي بالقضية الفلسطينية والتزامه الأبدي بالدفاع عنها، محل مراقبة وتضييق من سلطات الاحتلال الإسرائيلي ومن بعض الأنظمة العربية أيضًا، إذ عانى ناصر خلال مسيرته من الاعتقالات المتكررة، ما اضطره للانتقال من دولة إلى أخرى.
في بداية خمسينيات القرن الماضي، انتقل الثوري الفلسطيني إلى الأردن ظنًا منه أنه سيجد ضالته هناك، لكنه لم يجد غير السجون، حيث اعتُقل أكثر من مرة، ليقرر سنة 1957 الخروج منها إلى العاصمة السورية دمشق التي عاش فيها تسع سنوات اعتُقل خلالها لمدة سنة كاملة.
هرب كمال ناصر من سجن دمشق إلى بيروت وهناك أعادته السلطات اللبنانية للأردن ليتمكن فيما بعد من الذهاب إلى باريس حيث عاش فترة قصيرة، قبل أن يعود مجددًا إلى الضفة الغربية ويشارك إخوانه النضال على الأرض.
في إحدى قصائده بعنوان “الوصية الأخيرة”، استشرف كمال ناصر طريق الشهادة، وفي مطلع القصيدة كتب: حبيبي.. إذا ما أتاك الخبر وكنت وحيدا تداعب بين يديك وحيدي وتهفو لموعدنا المنتظر.. فلا تبكني.. إنني لن أعود”.
شهد ناصر هزيمة يونيو/حزيران 1967، وانخرط بعدها في مقاومة المحتل في الضفة الغربية إلى جانب إخوانه المقاومين العرب والفلسطينيين، فاعتقلته السلطات الإسرائيلية في البداية قبل أن تقوم بإبعاده إلى الأردن.
تركت السجون والمعتقلات وحياة المنافي الظالمة بصمة كبيرة في شِعر كمال ناصر، إذ ظهر في الكثير من قصائده مغتربًا مشدودًا إلى وطنه الجريح فلسطين يناديه، مستخدمًا لغة ذات نبرة تحريضية وثيقة الصلة بلغة الحياة اليومية، فكتب: “مأساة هذا الشعب مأساتي وجراحه الثكلى جراحاتي.. أنا بعض ما ينساب من دمه وكأنه من بعض آهاتي.. قدران في درب المنى اعتنقا.. هيهات ينفصلان هيهات”.
اغتيال الشاعر
تيقن الاحتلال الإسرائيلي أن النفي خارج فلسطين لم يجد نفعًا مع كمال ناصر ولم يدفعه إلى السكوت، فصوته وكلماته ازدادتا حدّة، فأشهر سلاح الاغتيالات في وجهه، ليكون “ضمير الثورة” واحدًا ضمن شهداء فلسطين الذين اغتالهم الاحتلال، في سعيه الدائم لإسكات صوت الحقيقة وطمس الذاكرة والهوية الفلسطينية.
في إحدى قصائده بعنوان “الوصية الأخيرة”، استشرف كمال ناصر طريق الشهادة وفي مطلع القصيدة يقول: حبيبي.. إذا ما أتاك الخبر وكنت وحيدا تداعب بين يديك وحيدي وتهفو لموعدنا المنتظر.. فلا تبكني.. إنني لن أعود.. فقد هان عبر بلادي الوجود. ذليلاً.. جريحاً.. ورنّ بأذني نداء الخطر”.
في 10 أبريل/نيسان 1973 اغتالت قوة من الموساد الإسرائيلي الشاعر كمال ناصر في شقته ببيروت مع اثنين من القادة الفلسطينيين البارزين وهما كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وزوجته، ودُفن ناصر، المسيحي البروتستانتي، جنبًا إلى جنب مع رفيقه المسلم غسان كنفاني، تمامًا كما طلب في وصيته.
فقدت فلسطين خلال هذه العملية الإسرائيلية واحدًا من أبرز كوادرها، إلا أن أشعار ناصر وأعماله الفنية بقيت خالدة في أذهان كل حر يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وينتظر اليوم الذي تتحرر فيه كل الأراضي العربية من المحتل الإسرائيلي.