تعدّدت الروايات الرسمية في الجزائر حول “الاستثناء الجزائري” ومناعة الجزائريين نظاما وشعبا ضد الانعكاسات المُفترضة للربيع العربي، ولكن المتابع للشأن الجزائري يدرك أن سنوات الربيع العربي لم تمرّ بسهولة على النّظام الجزائري وإنما كلفته جملة من التنازلات والتغييرا في المجال الاقتصاديّ والسياسي.
ففي بداية سنة 2011 شهدت الجزائر موجة من الاحتجاجات الاجتماعية بسبب قانون المالية الذي تقدّمت به حكومة أحمد أويحي والذي تضمن ترفيعا في أسعار المواد الأساسية وحزمة من الإجراءات التي تهدف إلى الحدّ من نزيف السيولة المالية في الجزائر وذلك بفرض الالتزام بالآليات البنكية بالنسبة للمعاملات التي يزيد حجمها عن 50 ألف دينار جزائري، وقد شهدت الجزائر آن ذاك عمليات انتحار مثل “حادثة البوعزيزي” في تونس ممّا دفع الحكومة الجزائرية للتراجع عن هذا القانون والاستناد إلى الريع النفطي لاحتواء ما بدا أنّه انفجار للوضع الاجتماعي.
وعمل النّظام الجزائري على احتواء تأزم الوضع الاجتماعي باستحداث صندوق عرف ب”لونساج” لإقراض الشباب المعطل عن العمل، بالإضافة إلى فتح باب توريد السيارات لكل المواطنين الجزائريين حتّى أن مقولة شعبية جزائرية سادت مفادها أن إجابة النظام الجزائري على الاحتجاجات تمثلت في تطبيق شعار “سيّارة لكل مواطن جزائري”.
وشملت الإصلاحات بعدا سياسيا تمثل في التخفيف من القيود الأمنية على العمل الحزبي وإلغاء حالة الطوارئ وتعزيز الحضور النسائي في المجلس الشعبي الوطني، وتيسير تكوين الأحزاب السياسية.، مما أسفر عن تشكيل 16 حزبا سياسيا جديدا.
ومع تراجع نسق الثورات العربية بسبب تعقّد مسارات الانتقال الدّيمقراطي في مصر وتونس وفوضى العسكرة في سوريا وليبيا، وبينما بدا للمحللين أن الجزائر قد تجاوزت مرحلة الخطر، جاء شهر أبريل نيسان ومعه ومعه تدهور الوضع الصحي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ليطرح تساؤلات عن “خلافة بوتفليقة” وعن المستقبل السياسي في الجزائر.
وإن لم يكن سرّا أن النّظام الجزائري بمكوناته السياسية والعسكرية المعقّدة لا يزال يعاني من صراعات داخلية منذ انتخابات سنة 2004، فإن هذه الصراعات طفت على السطح عبر سلسلة فضائح استهدفت المقربين من بوتفليقة وعلى رأسهم شكيب خليل وزير الطاقة السابق فيما عرف ب”فضيحة شركة انتاج النفط الجزائرية السوناتراك”، حيث قيل أن مديرية الاستعلام والأمن في وزارة الدّفاع – التي يرأسها الجنرال محمد مدين المعروف بتوفيق – هي من دبرتها.
وفي فصل آخر من فصول الصراع بين مديرية الاستعلام والأمن ” أدِّي أر أس” من جهة ورئاسة الجمهوريّة من جهة ثانية عرف جهاز المخابرات القوي موجة إحالات على التقاعد وتغييرات بدت أنها حجّمت من تغول جهاز المخابرات ورجلها القوي الجنرال التوفيق استعدادا لعصر جزائري جديد.
الرجل المريض وصراعات العهدة الرابعة:
مع بلوغ الجدل حول العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة أوجه في الأيام المضاية، كان بيِّنا أن صحّة بوتفليقة لا تسمح له بتوجيه خطاب خاصة بعد ما سرب من أن أعضاء حكومته منعوا من مصافحته في آخر اجتماع لمجلس الوزراء، بالإضافة إلى ما روج له حول عجزه عن القيام بأبسط الحركات.. حتى مسك النظارة أو القلم.
ولكن حالة بوتفليقة الصحية المتردية لم تمنع رئاسة الجمهورية من القيام بخطوات غير مسبوقة في صيف 2013 محدثة تغيرا جذريا في معادلة السلطة في الجزائر، مرجحة كفة تيار بوتفليقة على حساب هيمنة جهاز المخابرات العسكرية والجنرال توفيق.
فمباشرة بعد عودة الرئيس بوتفليقة من سفرته العلاجية في فرنسا، تمّ اتّخاذ سلسلة من الاجراءات والقرارات أدّت عمليّا إلى إضعاف مديرية الاستعلام والأمن مقابل تقوية قيادة الأركان التي يشرف عليها الجنرال قايد صالح المعروف بولائه لجناح الرئيس بوتفليقة، ويمكن تلخيص أهمّ هذه الخطوات فيما يلي :
- في نهاية شهر يوليو من سنة 2013 تم الإعلان عن إقالة “العقيد فوزي” مسؤول مركز الاتصال والنشر التابع لمديرية الاستعلام والأمن، وهو الذراع الإعلامية لجهاز المخابرات والجنرال توفيق لكونه يحتكر قرار توزيع إعلانات الشركات الحكومية على وسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة ويمارس بالتالي رقابة تامة على الصحفيين.
- في 3 سبتمبر أيلول 2013 تم إقرار توسيع صلاحيات رئيس الأركان الجنرال أحمد قايد صالح لتشمل جهاز الأمن الداخلي وقوات مكافحة الإرهاب ومركز الاتصالات والنشر، بالإضافة إلى إلحاق الشرطة العدلية بمؤسسة القضاء العسكري الخاضعة لسلطة قيادة الأركان أيضا, وقد كانت كل هذه الأجهزة تتبع مديرية الاستعلام والأمن التي يترأسها الجنرال توفيق.
- شهد حزب جبهة التحرير الوطني يوم 29 أوت 2013 انتخاب عمّار السعداني الموالي لجناح بوتفليقة أمينا عاما وهو الأمر الذي أثار سخط جزء من كوادر الحزب والوزراء وأدّى إلى تغيير حكومي بتاريخ 11 سبتمبر- أيلول 2013 استبعد ” الساخطين ” وكرّم بعض المغادرين على غرار وزير الخارجية السابق مراد المدلسي.
- تم تكريس الجنرال قايد صالح كرجل الدّولة القوي بتعيينه نائبا لوزير الدّفاع في إطار التغيير الحكومي (وزير الدّفاع هو نفسه رئيس الجمهورية).
وإن كان جزء من وسائل الإعلام والمحللين في الجزائر وخارجها يلخّص الصراع الحاصل داخل النظام الجزائري إلى تجاذب بين “رئاسة الجمهورية” والمؤسسة العسكرية، فإن واقع الأمر هو أن الصراع الدائر يقسم كلا من النخبتين العسكرية والسياسية بين من يعتبر جهاز المخابرات ورَجُلها القوي ضمانة للدولة في مواجهة فساد النخبة السياسية المحسوبة على بوتفليقة ومن يواليها من العسكريين على غرار رئيس الأركان من جهة ومن يعتبر مديرية الاستعلام والأمن دولة داخل الدولة وتهديدا للنظام السياسي المدني.
المصدر: وكالة تونس للأنباء