ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى عقود مضت، وظف الحكام السعوديون الدين للبقاء في السلطة وكسب الهيمنة الإقليمية. وقد تؤدي محاولة محمد بن سلمان لزعزعة الوضع السعودي الراهن إلى عواقب وخيمة. وفي يوم الثلاثاء الفارط، أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن بلاده تتجه نحو تبني منهج “معتدل ومنفتح” من الإسلام.
أثارت هذه التصريحات ردود فعل متباينة بين السعوديين، تعكس حقيقة ما قد يحدث عندما يتعلق الأمر بتحول جذري على المستوى الديني في المملكة العربية السعودية. وقد تساءل الكثيرون عن الدور الذي من المحتمل أن يلعبه الدين في عهد الملك محمد بن سلمان، خاصةً وأن الحكام السعوديين السابقين قد استثمروا بشكل كبير في خلق تصور للمملكة على اعتبارها الوصي الوحيد على العقيدة الإسلامية.
استعمال الدين كأداة
منذ تأسيس الدولة السعودية واستيلائها على أقدس مواقع الدين الإسلامي، أصبح الدين ليس فحسب أداة داخلية للنخبة السياسية لفرض سلطتها، بل أيضا أداةً خارجية تستخدمها الدولة الوليدة لفرض قيادتها وهيمنتها على العالم الإسلامي. على امتداد العقود الماضية، كانت إحدى الطرق لتحقيق هذا الهدف تتمثل في استثمار مليارات الدولارات في مشاريع التنمية في الأماكن الإسلامية المقدسة والمناطق المحيطة بها.
في الآونة الأخيرة، أعلنت حكومة الملك سلمان تخصيص 100 مليار دولار لأعمال البناء الجديدة. ويأتي هذا التمويل “السخي” في أوقات صعبة، حيث فرضت المملكة جملة من تدابير التقشف الاقتصادي على المواطنين السعوديين، وذلك عن طريق خفض جميع الإعانات الحكومية، ورفع أسعار السلع الأساسية مثل الوقود والمياه والكهرباء. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الحكومة في حرب مستمرة في اليمن، علما وأن تكاليف العمليات هناك تبلغ مائتي مليون دولار يوميا.
عموما، لا يمكن اعتبار هذا التدفق من الأموال بأي حال من الأحوال استثمارا بريئا أو مجرد استجابة لاحتياجات التنمية، بل يعتبر مدفوعا من قبل إستراتيجية تهدف لخلق صورة لنظام ملكي سعودي مدافع عن الدين. وبالاستناد على هذا الأمر يمكن تفسير ما أصبح يعرف بالتقاليد السعودية، فكلما وقع تنصيب ملك جديد، يبادر هذا الملك بوضع خطط جديدة للأماكن المقدسة، في حين يحاول تنفيذ هذه المشاريع على مدى حياته.
رافعات البناء خارج المسجد الحرام في مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية في 17 من كانون الثاني/ يناير سنة 2016
الالتزام بالإسلام؟
في الواقع، تتمثل الفكرة الأساسية من وراء هذه الخطة في خلق تصور ثابت عن الالتزام السعودي المستمر بالإسلام، وذلك من خلال القيام بعمليات توسعية ضخمة في المواقع المقدسة. فعلى سبيل المثال، وخلال حقبة الملك عبد الله السابقة، تم الإعلان عن مشروع توسعة صحن المطاف، الذي تم الانتهاء منه أخيرا بعد ثلاث سنوات من العمل. فضلا عن ذلك، أعلن خلفه الملك سلمان بدء مشاريع جديدة تتعلق أيضا بتوسعة نفس منطقة المطاف!
من الواضح أن سلمان لا يريد أن ينظر إليه على أنه الملك الذي لا يحترم التقاليد. والأهم من ذلك، من شأن وقف مشاريع التوسع أن يشوه صورة “حامي الإسلام” التي ما فتئت الحكومة السعودية تسعى لترسيخها في الأذهان. في الواقع، لا أحد يعرف حقًا إلى أي مدى ستصل هذه المشاريع أو الهدف النهائي منها.
بالنسبة للمملكة، يبدو أن هذه المشاريع السبيل الوحيد بالنسبة للملوك في السعودية “لكسب” لقب “خادم الحرمين الشريفين”. ولعل أبرز دليل على أنّ هذه الاستثمارات مسيسة، حقيقة أن معظم المشاريع الإنمائية تتركز في منطقة الحرم والمناطق المحيطة به فقط. في المقابل، تعاني منطقة مكة المكرمة الواقعة خارج نطاق الحرم المكي من جميع أنواع الفقر، ونقص الاستثمار، فضلا عن تدهور البنية التحتية. وفي حين أنها خارج نطاق رادار الحجاج، لا يمكن للحكومة إلا أن تكون غير مبالية بشكل أكبر بتلك الاحتياجات. على العموم، وقبل توظيف أي موارد في المملكة العربية السعودية، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار عائداتها السياسية أولا قبل مجالها وهدفها الأساسي.
امرأة تمشي خلال مؤتمر مبادرة الاستثمار في المستقبل الذي احتضنته الرياض 24 من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2017.
شراء النفوذ
استخدم الحكام السعوديون الدين وسيلة لتوسيع نفوذهم في العالم الإسلامي ككل. فعلى سبيل المثال، لا يوجد مقر لمنظمة التعاون الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية في مصر أو تركيا أو ماليزيا إلا في جدة، المملكة العربية السعودية. وقد سعت الرياض دائما إلى السيطرة على هذه المؤسسات من خلال تمويل ميزانياتها وبرامجها مقابل السيطرة على إرادتها السياسية. فعلى سبيل المثال، وخلال القمة الإسلامية الأخيرة التي عُقدت في تركيا، تمكن السعوديون من التدخل في فحوى البيان الختامي للمؤتمر الذي ركز بالأساس على إدانة إيران.
في الآونة الأخيرة، وخلال الأزمة مع قطر، فرضت المملكة العربية السعودية سلطتها الدينية، كما هو الحال دائما، حيث ابتزت بعض البلدان الأفريقية من خلال التهديد بالحد من حصص تأشيرات الحج إذا لم تقطع علاقاتها بالدوحة. عقب ذلك، جاء دور المفتي السعودي الكبير في منح “بركاته” لقرار الحصار المفروض على قطر.
في الحقيقة، لا تعدو هذه الحقائق سوى أن تكون أمثلة قليلة على كيفية توظيف آل سعود للدين وإساءتهم له. فضلا عن ذلك، يحيل هذا الأمر إلى اعتماد البلاد بشكل دائم على الاستخدام السياسي للدين، الذي بات أشبه بقوة قسرية لإضفاء الشرعية على حكم آل سعود الداخلي وأداة للتدخل الخارجي في شؤون البلدان الأجنبية. بناء على تصريحات محمد بن سلمان الأخيرة، لسائل أن يسأل هل سيتغير بن سلمان عندما يصبح ملكا؟ فقد أورد في مناسبة سابقة أنه “يريد أن تعيش المملكة حياة طبيعية، حياة تكرس دين التسامح وتقاليد التعاطف”. ومن الواضح أنه يوجه خطابه للجيل الجديد من السعوديين.
أعلنت الحكومة السعودية عن مشروع البحر الأحمر، وهو منتجع ترفيهي على الطراز الغربي على الساحل الغربي للمملكة، لكنه يعزى إلى قرار ملكي بحت يهدف إلى القضاء، بين عشية وضحاها، على التعصب الديني
المملكة تمر بمرحلة انتقالية
تعتبر العلاقة المتشابكة بين الدين والدولة في المملكة العربية السعودية حساسة وعميقة الجذور. وأي محاولة لإبطال هذا الرابط يجب أن تمر بحوار فكري شامل وعام، كما ينبغي أن تتم بطلب من الشعب بدلا من فرضها عليه من الأعلى. على العموم، ومنذ تولي محمد بن سلمان السلطة، أصبح مستوى حضور الدين في البلاد آخذ في الانخفاض، في حين يبدو أن بن سلمان مصر على أن يأخذ البلاد إلى الطرف الآخر. كما يعمل الأمير الشاب على تجريد المملكة العربية السعودية من أي جوانب تتعلق بتراثها الديني.
من جهة أخرى، يعتقد محمد بن سلمان أنه وفي ظل قوة المراسيم الملكية، قادر على عكس الوضع الراهن، مع العلم وأن الأمر أشبه “باستيقاظ الرئيس الأمريكي صباحًا، ويعلن فرض الشريعة الإسلامية قانونًا على الأرض”. في الحقيقة، يحاول بن سلمان حاليًا فرض “العلمانية” على الجمهور بدلًا من إقناعهم بها، محاربًا بذلك القيم والتقاليد في المجتمع السعودي.
مؤخرا، أعلنت الحكومة السعودية عن مشروع البحر الأحمر، وهو منتجع ترفيهي على الطراز الغربي على الساحل الغربي للمملكة. وكما ذكرتُ في مقال سابق، ينطوي هذا المشروع على رسالة موجهة للمجتمع المحافظ والتقليدي مفادها أن حكومته تريد إنشاء منتجع حيث لا تطبق قواعد البلاد، التي تتعلق بالفصل بين الجنسين “واللباس الإسلامي”. والجدير بالذكر أن المشروع يقع على بعد بضع مئات من الكيلومترات من المواقع الإسلامية المقدسة.
في الواقع، لم تكن هذه الخطوة نتيجة للتطور الثقافي الطبيعي الذي حدث داخل المجتمع السعودي، ولكنه يعزى إلى قرار ملكي بحت يهدف إلى القضاء، بين عشية وضحاها، على التعصب الديني. ويعتبر هذا الأمر مهينا لشريحة كبيرة من المجتمع السعودي التي وقعت ضحية تأثير الدعاية الدينية الرسمية السعودية على مدى عقود.
أشخاص يتسوقون في سوق في الرياض، المملكة العربية السعودية، في 18 من تشرين الأول /أكتوبر سنة 2017.
دروس التاريخ
من المحتمل أن يكون لهذه الخطة عواقب وخيمة، حيث تعد غير مقبولة أخلاقيا، فضلا عن أنها قد تصبح بمثابة مبرر لظهور مقاومة شعبية، الأمر الذي لا يعتبر سابقة من نوعها في تاريخ البلد. ففي 20 من تشرين الثاني / نوفمبر سنة 1979، المرادف لليوم الأول من السنة الإسلامية 1400، استولت مجموعة منظمة تتراوح بين 400 و500 رجل، تعمل تحت قيادة جهيمان العتيبي على المسجد الحرام. وقد هاجم العتيبي علماء الوهابية على عدم الاحتجاج على السياسات التي يعتقد أنها خانت الإسلام. علاوة على ذلك اتهم العتيبي العلماء بقبول حكم دولة كافرة وتقديم الولاء للحكام الفاسدين مقابل الحصول على الشرف والثراء. وقد يعيد التاريخ نفسه في حال فشلت القيادة الحالية لمحمد بن سلمان، ولم تتعظ حكومته من الدروس السابقة.
أعتقد أن حماية حرية الفكر والتعبير يمكن أن تؤمن على المدى الطويل سياقا للتغييرات الليبرالية في البلد، ما من شأنه أن يخلق إطارا لأفكار قادرة على إحداث تغيير والمساهمة في ظهور مجتمع متسامح. ومن أجل الصالح العام، يجب السماح بإجراء حوار عام مسبقا وعدم أخذ المجتمع، كما يحدث في الوقت الراهن، على حين غرة.
اعتقلت المملكة العربية السعودية مؤخرا العديد من المثقفين والكتاب والناشطين في إطار إجراء وقائي لعرقلة أي احتجاج محتمل ضد سياساتها
رسائل إلى الإمارات العربية المتحدة
لا ينبغي للمملكة العربية السعودية أن تسمح أبدا لأي خطاب يرى أن مصالحها تتناقض مع مصالح العالم الإسلامي، بأن يتحول إلى سياسة فعلية. وفي هذا الصدد، لا بد أن توجه رسالة واضحة في هذا الصدد إلى دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه التحديد. من جهتها، فشلت دولة الإمارات العربية المتحدة في إدراك النطاق الكامل لأهمية الدين في تحسين الصورة الاجتماعية والسياسية للمملكة. علاوة على ذلك، يبدو أن أبوظبي لا تدرك الآثار المترتبة على دفع المملكة العربية السعودية نحو العلمانية قسريا.
تحقيقا لهذه الغاية، اعتقلت المملكة العربية السعودية مؤخرا العديد من المثقفين والكتاب والناشطين في إطار إجراء وقائي لعرقلة أي احتجاج محتمل ضد سياساتها. ويبدو أن هذه الاعتقالات كانت من تدبير أبو ظبي. وأخيرا، ينبغي أن نميز بين العلمانية والحرية. فعلى سبيل المثال، كانت بعض أكثر الأنظمة الوحشية والفاشية التي عرفها العالم بالفعل علمانية ومناهضة للدين، بما في ذلك روسيا في عهد فلاديمير لينين وألمانيا في عهد أدولف هتلر. في الحقيقة، لا يختلف مخطط الإمارات العربية المتحدة الذي وضعته للمملكة العربية السعودية عن الأمثلة السالف ذكرها. وبالتالي، يجب على السعودية أن تحدد طريقها إلى الحرية وفقا لتطلعات شعبها، وليس حسب إرادة بعض شيوخ أبو ظبي أو أمير قصر السلام.
المصدر: موقع ميدل إيست آي