قبل 44 سنة فقدت فلسطين أحد أبرز رموزها الثقافية والنضالية، ففي يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1980 توفي الشاعر عبد الكريم الكرمي ودفن في مقبرة الشهداء بدمشق نزولًا عند وصيته وجرت له جنازة رسمية وشعبية حاشدة.
فقدت فلسطين في ذلك اليوم شاعرها الذي بدأ نشاطه الوطني في سن مبكرة، فكان يشارك في المظاهرات والإضرابات الطلابية، وشارك بأشعاره في دعم المقاومة والكفاح الفلسطيني، وقال عنه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “الجذع الذي نبتت عليه قصائدنا”.
عبد الكريم الكرمي
ولد عبد الكريم الكرمي في مدينة طولكرم شمال غرب الضفة الغربية سنة 1909، وحرص والده سعيد علي منصور الكرمي على أخذه معه في حلّه وترحاله وهو ما يفسر دراسته في أكثر من مدرسة ومعهد، فقد كان أبوه كثير السفر.
كان والد عبد الكريم أحد طلائع رجال النهضة العربية المعاصرة، وأحد رواد الحركة القومية العربية، كان فقيهًا بالدين واللغة، وشاعرًا وأديبًا يجيد الخطابة، وكان أحد 8 مؤسسين للمجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1919، ومؤسس مجمع اللغة العربية الأردني سنة 1923 وأول رئيس له، فأخذ الكرمي عن والده البلاغة وحسن الكلام وحب الوطن والذود عنه، وتجلى حب الكرمي لفلسطين في أشعاره.
عُرف عبد الكريم الكرمي خلال دراسته في “مكتب عنبر” أيام المرحلة الثانوية في دمشق (1927) باسم “أبو سلمى”، واكتسب هذه الكنية من مطلع قصيدة غزلية، نظمها سنة 1924، يقول فيها: “سلمى أنظري نحوي فقلبي يخفق لما يشير إلى طرفك أطرق”، وبقي هذا الاسم مرتبطًا به طيلة رحلته الشعرية وبعد وفاته.
فضلًا عن هذا اللقب، سُمي شاعرنا بـ”زيتونة فلسطين”، للإشارة إلى مدى التصاقه الحميم ثقافيًا ونفسيًا بقضية وطنه وشعبه وتمكنّه من القصيدة الوطنية، وانتمائه صغيرًا للعمل الوطني حيث مارس العمل السياسي والثقافي والاجتماعي مبكرًا أسوة بوالده الذي تقلد العديد من المناصب السياسية البارزة.
برز شعر “أبو سلمى” الوطني خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، ليؤسس حينها مع شعراء عصره (إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود) شعر المقاومة، وقاوم بهذا الشعر القمع والاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية ونادى بالوصول للحرية والاستقلال.
اختار الكرمي في بداية حياته وانحيازه للشعب الثائر المكافح أن يكون الشعر سبيله للتعبير عن مقاومتهم للقمع البريطاني والصهيوني بطريقة إبداعية، فنظم قصائد تتغنى بالوطن وترنوا إلى الحرية، ومنها قصيدة “أحببتك أكثر”، وفيها يقول أبو سلمى: يا فِلَسْطِينُ ولا أغلى ولا أحلى وأطهر.. كُلَّمَا حَارَبْتُ مِنْ أَجْلِكِ أَحْبَبْتُكِ أَكْثَرْ.. كُلَّمَا دَافَعْتُ عَنْ أَرْضِكِ عُودُ ٱلعُمْرِ يَخْضَرْ.. وَجَنَاحِي يَا فِلَسْطِينُ عَلَى ٱلقِمَّةِ يُنْشَرْ.
يعبر أبو سلمى في هذه القصيدة عن حبه الأبدي لفلسطين الحبيبة ويصف جمال وطنه وحزنه على ضياعه، داعيًا الفلسطينيين للثورة والثأر من المحتلين اليهود، مذكرًا في الوقت ذاته الضمير العالمي بمأساة الشعب الفلسطيني.
مواجهة سريعة مع البريطانيين
تناول شاعر فلسطين وعاشقها في أغلب مجموعاته الشعرية قضايا التحرر الوطني، وعبر عن موضوعات من حياة الفلسطينيين كالثورة والحنين إلى الوطن السليب والطوق إلى الحرية، دون أن يغفل عن نقد المحتل البريطاني والعصابات الصهيونية التي تترصد ببلاده شرًا.
مواجهة شاعرنا مع البريطانيين كانت سريعة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي شيدت حكومة الاحتلال البريطاني قصرًا للمندوب السامي البريطاني فوق جبل المكبّر المشرف على البلدة القديمة بالقدس وجبل الزيتون وجبال الأردن، وهو الجبل الذي وقف عليه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكّبر شكرًا لله تعالى حين أتى لتسلم مفاتيح مدينة القدس من بطريركها صفرونيوس عام 637 م.
لم يسكت شاعر فلسطين وعاشقها عما حصل من انتهاك لقداسة المكان، ونظم قصيدة نشرتها مجلة “الرسالة” التي أسسها الأديب المشهور أحمد حسن الزيات بالقاهرة، بعنوان ” جبل المكبِّر يا فلسطين” هاجم فيها السلطات البريطانية على ما أقدموا عليه، مشبهًا قصر المندوب السامي بسجن الباستيل، ومنها هذه الأبيات: جبلَ المكبّرِ قد أضأتَ سمانا.. وأريْتنا صُوَرَ الفِدا ألوانا.. أيقظتَ أرواحاً غَفَت وكأنّها.. عقدت على النّومِ الطّويلِ قِرانا.. جبل المكبر، لن تلين قناتنا.. حتى نهدم فوقك “الباستيلا”.
وحينها تم استدعاء “أبو سلمى” على الفور من “مستر فرل” مدير التعليم البريطاني آنذاك وأبلغه قراره بفصله من العمل بسبب هذه القصيدة، لينضم فيما بعد إلى دار الإذاعة الفلسطينية إلى جانب صديقه ورفيق دربه شاعر الحرية إبراهيم طوقان.
هجاء الملوك العرب
لم يثنِ هذا التضييق شاعر فلسطين عن مواصلة التحريض على المستعمرين اليهود، ورثاء الشهداء الذين سقطوا وهم يقارعون الاحتلال البريطاني والصهيونية، كما هجا الملوك والأمراء العرب بعد دعوتهم الفلسطينيين إلى وقف إضرابهم العام سنة 1936 ضد السياسة البريطانية المؤيدة للصهيونية، فكتب: هل تشهدون محاكم التفتيش في العصر الجديد.. قوموا انظروا “القسام” يشرق نوره فوق الصرود.. يوحى إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلود.. ايه شعوب العرب أنتم مبعث الأمل الوحيد.. يا من يعزون الحمى، ثوروا على الظلم المبيد.
يذكّر أبو سلمى القادة العرب المتخاذلين بالشيخ عز الدين القسام القادم من سوريا لقيادة الثورة ضد البريطانيين والعصابات اليهودية حتى يحافظ على فلسطين الحبيبة، وهم ساكتون لا يتحركون بل منهم من ينسق مع البريطانيين لضمان حكمه.
أثارت هذه القصيدة التي تحمل عنوان “لهب القصيد” وتروي قصة خيبة أمل الفلسطينيين في زعماء العرب، ضجة واسعة وأصبحت جزءًا من تراث الثورة الفلسطينية الكبرى، وقد حملت تلك القصيدة اسم شاعرنا واشتهر بها واشتهرت به في أرجاء الوطن العربي كافة.
الدفاع عن المظلومين
توازيًا مع عمله في دار الإذاعة الفلسطينية، واصل عبد الكريم الكرمي دراسته في معهد الحقوق الفلسطيني الذي تخرج فيه سنة 1941، إلا أنه لم يتوقف عن كتابة الأشعار الحماسية لإيقاد نار الثورة في صفوف الفلسطينيين.
رأى الكرمي أن العمل في مهنة المحاماة يمكن أن يقدم الإضافة للقضية الفلسطينية، فافتتح مكتبًا له عام 1943، وبدأ عمله بالدفاع عن المناضلين العرب المتهمين في قضايا الثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت سنة 1936 وانتهت سنة 1939.
خلال فترة الثورة، استخدم البريطانيون أساليب وحشية لوقف الإضرابات، وتعرض الفلسطينيون للقتل والتعذيب والاعتقال والترحيل، ووصل القمع البريطاني إلى هدم أحياء واسعة في مدن فلسطينية مختلفة منها مدينة يافا القديمة، وإغلاق مدارس وتغريم قرى بشكل جماعي، وإجبارها على إيواء الشرطة والقوات البريطانية.
ذاع صيت أبو سلمى بسرعة لقدرته الكبيرة في الدفاع عن المعتقلين أمام المحاكم البريطانية، وأصبح في فترة قصيرة محاميًا مرموقًا في فلسطين، وبقي يعمل في مجال المحاماة حتى عام النكبة (سنة 1948) حيث توجه في تلك السنة إلى دمشق وزاول هناك مهنة المحاماة والتدريس.
حياة اللجوء
لم يسلم شاعرنا من الملاحقة البريطانية، فتم التضييق عليه حتى يكف عن نقد المحتلين وبث الحماسة في صفوف الفلسطينيين والعرب، إلا أنه أبى إلا أن يواصل الطريق وإن كان ثمن ذلك حياته.
مثّل سقوط حيفا يوم 22 أبريل/نيسان 1948 في يد العصابات الصهيونية حدثًا فارقًا في حياة الكرمي، إذ لم يستطع شاعر فلسطين أن يشاهد سقوط إحدى أبرز المدن الفلسطينية في يد الصهاينة، ما دفعه إلى مغادرتها متجها إلى عكا.
غادر أبو سلمى حيفا على عجل تاركًا أغلب مخطوطاته وروائعه الشعرية، إذ لم يستطع أن يأخذ معه إلا مخطوط لرواية شعرية ألّفها عن ثورة عز الدين القسام وثورة سنة 1936، مع مقدمة كتبها له الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني.
كان ظن الكرمي أنه سيعود إلى حيفا بعد أسبوعين على الأكثر لمتابعة نشاطه المهني والأدبي، إذ وعدت الدول العربية بتحرير فلسطين في وقت وجيز، لذلك ترك الكثير من أشعاره في درج مكتبه بعد أن أقفل عليها وأخذ مفتاحه، ولكن عكا أيضًا سقطت يوم 16 أيار/مايو سنة 1948.
من هناك بدأ الكرمي حياة اللجوء متنقلًا من مدينة إلى مدينة على أمل أن يرجع إلى حيفا، حتى وصل إلى دمشق وتيقن أن العودة لن تكون سهلة في ضل تمدد الاحتلال الصهيوني والخذلان العربي والمباركة الغربية، وفي الأثناء أطلق قصيدته الشهيرة “سنعود” التي يقول فيها:
غدا سنعود والأجيال تصغي إلى وقع الخطى عند الإياب
نعود مع العواصف داويات مع البرق المقدس والشهاب
مع الأمل المجنح والأغاني مع النسر المحلق والعقاب
مع الفجر الضحوك على الصحارى نعود مع الصباح على القباب
مع الرايات دامية الحواشي على وهج الأسنة والحراب
ونحن، الثائرين بكل أرض، سنصهر باللظى نير الرقاب
تنبأ أبو سلمى وتيقّن بضياع محبوبته فلسطين بأشعاره، بما كان لديه من قوة الحدْس، محذرًا مما كان ينتظر بلاده وشعبه من مخاطر كثيرة، فدقّ أجراس الخطر وقرع الخزان مرات ومرات لكن لا مجيب، وظلت كتاباته شاهدًا على أقسى اللحظات في تاريخ القضية الفلسطينية.