ترجمة وتحرير: نون بوست
عقب طرد مقاتلي تنظيم الدولة أخيرا من مدينة الكرمة الواقعة في وسط العراق، عاد سرحان سلوم إلى منزله ليكتشف أنه قد دمر تماما. منذ ذلك الوقت، ظل السيد سلوم البالغ من العمر 70 سنة ينتظر المساعدة ولكنها لم تصل مطلقا. ففي هذا البلد الذي تمزقه الانقسامات الطائفية، لا يمكنه توقع الكثير من الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في بغداد. ولكن السيد سلوم غاضب أيضا من المسؤولين والسياسيين السنة، الذين لم يأتوا لنجدة إخوانهم في هذه المدينة. وفي هذا الشأن، أفاد سرحان سلوم، أن “هؤلاء السياسيين ينتمون للسنة، ويفترض أن يساعدونا، ولكن لا فائدة ترجى منهم”.
بعد 14 سنة من الغزو الأمريكي الذي أنهى سيطرة السنة على العراق، لا يزال السنة يكافحون من أجل استعادة نفوذهم وموقعهم في بلادهم. وإثر أن وقع إقصاؤهم من الوظائف الحكومية والجيش من قبل الحكومة التي تم تشكيلها بعد سقوط نظام صدام حسين، فسح غضب وعجز السنة المجال لصعود منظمات متطرفة ومسلحة مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة. وفي الوقت الراهن، وبعد النجاح المحقق في طرد المتطرفين من المدن السنية في العراق، ستكون طريقة تعامل الحكومة مع السنة الذين يسعون لإعادة بناء حياتهم، حاسمة ومؤثرة على المدى الطويل فيما يتعلق بضمان الاستقرار والأمن في البلاد.
في الواقع، لا يزال حوالي 3.1 مليون عراقي، علما وأن الأغلبية الساحقة منهم من السنة، يعانون تبعات التهجير من منازلهم، بعد ثلاث سنوات من المعارك المتواصلة منذ سيطرة تنظيم الدولة على مناطقهم. وقد تمكن 2.3 مليون من المهجرين من العودة إلى منازلهم. وبينما تنتظر العديد من هذه المدن على غرار الكرمة عمليات إعادة الإعمار، لم تتمكن القيادات السنية من تقديم المساعدة أو تأمين التمويل من قبل الحكومة المركزية التي تعاني من العجز وسوء التصرف في ظل تركيزها المطلق على الجهود العسكرية ضد تنظيم الدولة والانفصاليين الأكراد.
منذ سنة 2003، خسر السنة الذين يمثلون حوالي ربع العدد الإجمالي للسكان كل نفوذهم لفائدة الشيعة والأكراد، الطائفتان اللتان كانتا تعيشان تحت وطأة القمع الشديد من قبل النخبة السنية في ظل حكم صدام حسين. وفي الوقت الراهن، ونظرا للسيطرة الشيعية على الحكومة في بغداد، وحصول الأكراد على الحكم الذاتي في الشمال، وجد السنة أنفسهم في حالة من التشتت والضياع.
سيارة دمرت أثناء المعارك بين قوات الجيش العراقي ومقاتلي تنظيم الدولة خلال السنة الماضية في أحد شوارع الكرمة. يشتكي السكان من أن الأنقاض والحطام الناتج عن المعارك لم يتم رفعه من قبل السلطات في ظل غياب أي مساعدة من السياسيين السنة أو حكومة بغداد
في سنة 2014، كانت توقعات المواطنين العراقيين كبيرة عندما أصبح حيدر العبادي رئيسا للوزراء، وذلك على أمل أن يتمكن من طي صفحة سياسية مظلمة بعد سنوات من الحكم الطائفي والتقسيم الذي اعتمده سلفه نوري المالكي، مما قد يمكنه من استعادة ثقة السكان السنة. ولكن عوضا عن ذلك، أكد القادة السنة أن حيدر العبادي تخلى عنهم وركز على تعزيز علاقته مع إيران، الجار الشيعي الذي يسيطر عليه نظام ديني متشدد. وتتمتع إيران حاليا بنفوذ هائل وسيطرة شبه كاملة على الاقتصاد العراقي والجيش والحكومة.
في هذا الصدد، أورد حامد المطلق، الذي يمثل مدينة الكرمة في البرلمان العراقي، أن الحكومة تركز أكثر على العمل مع إيران والمليشيات الشيعية التابعة لها، وتتجاهل مساعدة السنة على إعادة الإعمار. وأضاف المطلق، قائلا: “نحن الآن مواطنون مهجرون، ونعاني من التهميش بشكل كامل، في حين ما فتئت أوضاعنا تزداد سوءا يوما بعد يوم. لدينا حكومة فاسدة تسيطر عليها القوى الأجنبية على حساب السكان السنة”.
من جهتهم، يعيش السياسيون السنة بدورهم العديد من الانقسامات في حين تطغى الحسابات المحلية بينهم، حيث بالكاد يستطيعون تقديم وجهة نظرهم والدفاع عن أبناء طائفتهم، خاصة وأنهم عاجزون حتى عن الاتفاق على مكان يلتقون فيه لتجاوز الخلافات. وخلال مؤتمر جمعهم في بغداد قبل سنتين، تبادل السياسيون السنة رمي الكراسي، فيما تبادل حراسهم الشخصيون اللكمات. في هذا الإطار، أفاد إسماعيل جاسم، البالغ من العمر 39 سنة، الذي يعتمد على التبرعات من الجيران في مدينة الكرمة لإعالة أسرته بعد أن احترقت ممتلكاته على أيدي المليشيات، قائلا: “ممثلونا السياسيون لا يفعلون شيئا من أجلنا، فنحن لا نراهم أبدا إلا عبر التلفاز أو في فترة الانتخابات”.
عناصر من المليشيات الشيعية يتثبتون من هوية مواطن سني في محافظة صلاح الدين في حزيران/يونيو. تتهم المليشيات الشيعية دائما بارتكاب انتهاكات ضد السنة
تراجع وزن السياسيين السنة بشكل كبير منذ اتفاق اقتسام السلطة الذي تم اعتماده إثر الغزو الأمريكي. وحسب هذا الاتفاق، استأثر الشيعة بمناصب رئاسة الوزراء وحقيبتي الداخلية والخارجية، فيما حصل الأكراد على الرئاسة والمالية. أما العرب السنة فقد اكتفوا برئاسة البرلمان ووزارة الدفاع، إلا أن حقيبة الدفاع تفتقر للأهمية، نظرا لأن رئيس الوزراء يعد القائد الأعلى للقوات المسلحة، كما أن المليشيات والقيادات العسكرية الشيعية تتمتع بنفوذ كبير على أرض الواقع.
في الواقع، باتت هذه المليشيات الشيعية التي دربتها إيران، تشكل جزءا من القوات المسلحة العراقية. وقد شاركت في المعارك ضد تنظيم الدولة، منذ سيطرته على حوالي ثلث العراق في سنة 2014. وتُتهم هذه المليشيات الشيعية بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين السنة، كما أن وجودها في مواقع قريبة من المناطق السنية يثير قلق السكان. وقد رفرفت خلال الأسبوع الماضي إحدى الرايات الدينية الشيعية فوق نقطة تفتيش للجيش العراقي في مدينة الكرمة. من جانبهم، يتمتع الأكراد بدورهم بجيش خاص بهم، يعرف باسم مقاتلي البيشمركة. أما بالنسبة للسنة فلا يمتلكون قوة عسكرية موحدة، حيث يقتصر الأمر على مليشيات قبلية تم إدماجها ضمن الأجهزة الأمنية العراقية للمشاركة في الحرب على الإرهاب.
يمكن الجزم بأن البرلمان العراقي يقع تدريجيا تحت قوة تأثير إيران، التي تخوض معركة نفوذ إقليمية ضد الدول السنية التي تقودها المملكة العربية السعودية
في الأثناء، اقترح بعض السياسيين السنة إقامة منطقة سنية تتمتع بحكم ذاتي، لكن هذا المقترح لم يحظى بأي دعم في ظل الانقسامات والمشاحنات الداخلية بين السنة. في هذا الإطار، أوضح واثق الهاشمي، رئيس المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية، وهي مجموعة أبحاث مستقلة في بغداد، أن “السنة لا يتمتعون بقيادة موحدة، في حين لا يهتم السياسيون السنة إلا بمصالحهم الشخصية الضيقة”.
وتجدر الإشارة إلى أن استفتاء الانفصال الذي نظمه الأكراد خلال الشهر الماضي قد عمق من انقسامات السنة. فقد عارضت الأغلبية منهم هذه الخطوة، مفضلة الحفاظ على الأكراد جزءا من العراق من أجل ضمان توازن القوى مع الشيعة، باعتبار أن كل أكراد العراق من السنة. وبناء على ذلك، ساند هؤلاء الأفراد تقدم القوات الحكومية للسيطرة على المناطق المتنازع عليها، التي كان سكانها من العرب السنة يشتكون من السيطرة الكردية. ولكن حتى السنة الذين كانوا يعارضون الاستفتاء الكردي شعروا بالقلق عندما نفذت القوات العراقية مناورات عسكرية مع قوات إيرانية على طول الخطوط الحدودية.
في ظل نقص مواد البناء، يسعى سرحان سلوم (في الوسط) لإعادة بناء منزله بالاعتماد على مدخراته ومساعدة ابنه سرحان، حيث يئسوا من قدوم أي مساعدة حكومية
صرح الشيخ أحمد الكريم، وهو عضو برلماني سني يساند حكومة حيدر العبادي، قائلا: “لا يمكننا التسامح مع هذا التدخل الأجنبي بعد كل ما يحدث من تجاوزات”. وفي البرلمان، تملك الطائفة السنية كتلة نيابية تضم 78 مقعدا، وهي تقريبا مساوية لنسبتهم من مجموع سكان العراق، إلا أنها أقل وزنا من الكتلة الشيعية التي تضم 182 نائبا. أما الكتلة الكردية فتشمل 65 مقعدا. وبالتالي، يمكن الجزم بأن البرلمان يقع تدريجيا تحت قوة تأثير إيران، التي تخوض معركة نفوذ إقليمية ضد الدول السنية التي تقودها المملكة العربية السعودية.
من جانبه، وصف مثال الآلوسي، البرلماني السني، الحكومة العراقية على أنها حكومة على ورق، وذلك على خلفية علاقاتها مع إيران. كما وجه لها سؤالا محرجا، حول ما إذا كان الجنرال قاسم سليماني، الذي يقود قوات النخبة الإيرانية في الخارج ويشرف الآن على عمليات المليشيات الشيعية في العراق، قد حصل على تأشيرة قبل دخول العراق؟ يبدو أن الشيعة يحركهم شعور بالانتماء الديني والوحدة مع باقي الطوائف الشيعية في المنطقة. أما الأكراد، فإن ما يحركهم هو القومية وأحلام الانفصال. ولكن ماذا عن الطائفة السنية؟
في هذا الشأن، أبرزت ماريا فانتابي، المحللة للشؤون العراقية في مجموعة الأزمات الدولية، أنه “بالنسبة للسنة، فهم يفتقرون للتناغم السياسي وغياب اتفاق حول أهداف موحدة”. أما ديفيد فيليبس، المستشار السابق لدى الحكومة العراقية، الذي عمل في العراق لمدة 30 سنة، فيعتقد أن السنة فشلوا في تنظيم صفوفهم بشكل فعال مثل الشيعة والأكراد. وأردف فيليبس أن “الحكومة العراقية تشعر بالرضا التام وهي ترى السنة يعيشون حالة تشتت وضعف”. على العموم، لا يمكن التفاؤل كثيرا إزاء الوضع في العراق، نظرا لأن بعض القوى الشيعية ستعارض حيدر العبادي في استحقاق نيسان/أبريل المقبل، كما أن الأوضاع الكردية تشهد حالة غليان، وسيضطر الأكراد لتودد للكتلة البرلمانية السنية من أجل تحقيق أهدافهم الانتخابية.
في ظل حكم نوري المالكي الذي كان رئيس الوزراء بين سنة 2006 و2014، استعاد العديد من السنة وظائفهم ولكن تم طردهم مرة ثانية من قبل الجيش والشرطة
في هذا السياق، أفادت ماريا فانتابي، أن “حكومة العبادي لم تكن في حاجة للدعم السني أكثر من اليوم. لكن السنة قد يتكبدوا خسائر سياسية في نيسان/أبريل، إذا لم يتمكن مئات الآلاف من الناخبين المهجرين من التصويت لهم. وفي حال سيطر الشيعة المتشددون والشعبويون على البرلمان، ستخصص أموال إعادة الإعمار كلها لفائدة المناطق الشيعية الفقيرة عوضا عن المدن السنية المحررة”.
يشعر السنة أن فترة ما بعد صدام حسين كانت كارثية بالنسبة لهم. فمنذ سنة 2003، تم الشروع في مخطط اجتثاث حزب البعث، وهو ما تسبب في تسريح مئات الآلاف من الجنود والموظفين، من بينهم أطباء ومدرسون. وقد التحق العديد من القادة السنة بتنظيم القاعدة ضد القوات الأمريكية، إلا أن القبائل السنية ساهمت لاحقا في طرد المجموعات المتشددة في إطار ما يعرف بعمليات الصحوة السنية، علما وأن ذلك لم يوقف عملية اجتثاث حزب البعث. في هذا الصدد، قال صالح المطلق، الذي كان جنرالا في جيش صدام حسين، إن لجنة اجتثاث بقايا نظام البعث منعته من المشاركة في الانتخابات البرلمانية لثلاث مرات منذ سنة 2010، بدافع مضايقته وحرمانه من حقوقه. اعترض المطلق على هذا القرار، وهو الآن نائب في البرلمان وعضو في لجنة الدفاع والأمن.
في ظل حكم نوري المالكي الذي كان رئيس الوزراء بين سنة 2006 و2014، استعاد العديد من السنة وظائفهم ولكن تم طردهم مرة ثانية من قبل الجيش والشرطة. وقد عمق هذا الاضطهاد من الغضب السني وساعد على صعود تنظيم الدولة، ومكن مقاتليه من السيطرة على المدن والقرى السنية في سنة 2014 بكل سهولة. فقد وعد مقاتلو تنظيم الدولة بعهد جديد من السيطرة السنية، مما مكنهم من الحصول على دعم كبير داخل هذه الطائفة المحرومة والمهمشة. في المقابل، فشل التنظيم في تحقيق وعوده، وفرض حكم الحديد والنار على السكان المحليين الذين ثاروا ضده. وفي الوقت الراهن، يشعر سكان المدن السنية مثل الكرمة بأن السياسيين قد خذلوهم وتخلوا عنهم. وقد تم تحرير هذه المدينة التي يسكنها حوالي 95 ألف شخص، في أيار/مايو سنة 2016. وفي الأثناء، قدمت الأمم المتحدة بعض الدعم عبر إعادة بناء بعض المدارس وبعض البنى التحتية الأساسية.
في المقابل، يتجسد الأثر الوحيد الذي يمكن مشاهدته في مدينة الكرمة، والذي يدل على جهود الوكالة العراقية لإعادة إعمار المناطق المحررة، من خلال بداية العمل على بناء خمسة مدارس. وفي هذا الشأن، أورد مصطفى الحيتي، وهو صيدلي سني يدير هذه الوكالة، أنه قد وقع تخصيص مبلغ لا يتجاوز 140 مليون دولار من قبل بغداد هذه السنة لإعادة إعمار مدن كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة، مع العلم أن التكلفة المنتظرة لهذه العملية تصل إلى أكثر من 100 مليار دولار.
في سياق متصل، أكد مصطفى الحيتي أن المانحين الدوليين قدموا مليارات الدولارات، إلا أن أغلب هذه الأموال تعطل وصولها بسبب المخاوف من انتشار الفساد والاستيلاء على هذه المبالغ. أما بالنسبة للسيد سرحان سلوم، فهو ينكب على إعادة بناء منزله في مدينة الكرمة، بالاعتماد على مدخراته الشخصية ومساعدة ابنه علي سرحان. وعند سؤاله حول قرب موعد وصول المساعدات من قبل السياسيين السنة، أفاد سرحان سلوم، قائلا: “يجب أن أنسى أمر هذه المساعدات، حيث لم يزرنا السياسيون لمجرد أن يقولوا لنا “كان الله في عونكم””.
المصدر: صحيفة نيويورك تايمز