ليس في العنوان خطأ بل إنني أتحدث عن حزب النهضة التونسي في أواخر سنة 2017، إذ نجد أنفسنا أمامه مثلما وجد النبي موسى نفسه أمام سيدنا الخضر وهو يقيم جدارًا منهارًا ولا يتخذ عليه أجرًا وسنطلب من الحزب تأويل ما لم نستطع عليه صبرا، فنحن مساكين نعمل في البر والبحر ووراءنا حزب النداء الذي يأخذ كل سفينة غصبًا ونكتشف أن سيدنا الخضر يثقب السفينة، لذلك نخشى أن نقرأ بيانًا حزبيًا يقول ما فعلته عن أمري، رغم إيمان حزب النهضة بانقطاع الوحي بعد ختم النبوة.
مقعد ألمانيا أقعد عقولنا عن التفكير
أُحدث شغور متعمد في المقعد النيابي عن ألمانيا وأوروبا بتعيين النائب الندائي كاتب دولة ضمن التعديل الوزاري الأخير (أغسطس/أوت 2017) وتبين أن “التشغير” المتعمد كان تمهيدًا لترشيح ابن الرئيس المسؤول الأول بحزب النداء لإدخاله البرلمان وتأثيث سيرته السياسية إعدادًا لمستقبل سياسي قد يصل به إلى رئاسة الدولة. في اللحظات الأخيرة رُشح شخص آخر من الحزب ممن يقيم بألمانيا ووجدت تحليلات كثيرة نفسها في التسلل، لكن ذهب البعض إلى أن الحملة الاستباقية لترشيح ابن الرئيس تحت عنوان (ابنك في دارك) قد آتت أكلها فأحجم خوفًا من هزيمة قبل المعركة.
الأمر المفاجئ في هذه اللعبة الغامضة أن بروز ترشيح ابن الرئيس تزامن مع أمرين متعارضين أولهما أن حزب النهضة أعلن عدم الترشيح على المنصب وثانيهما حملة شعواء أطلقها أنصار حزب النهضة على مرشح مستقل يستهدف إسقاط ابن الرئيس بأنه دخل يشتت الأصوات ولم نفهم سر الحملة لتوحيد الأصوات لحزب غير معني بالترشيح، كان وضعنا مثل وضع النبي موسى أمام الخضر وهو يثقب السفينة، ولكننا لم نصبر طويلاً حتى تنجلي النوايا، فالبيان الثاني للحزب عن الموضوع دعا الأنصار إلى التصويت الفعال لصالح مرشح حزب النداء، فبهت الذي تابع وإن لم يكفر.
استعد حزب النهضة استعدادًا كاملاً للانتخابات البلدية وجهّز ماكينته الانتخابية بشكل أخاف بقية الأحزاب الكسولة العاجزة
لو شئت لاتخذت عليه أجرا
ما الثمن السياسي الذي قبضه حزب النهضة مقابل هذه الحملة المتحمسة والتي فاقت في حماسها حزب النداء نفسه لمرشحه؟ يحق لنا السؤال وليس للحزب أن يتصرف مثل سيدنا الخضر، فنحن أيضًا لا ننتظر نبيًا يقول “ما فعلته عن أمري”، أليس هذا من شروط الديمقراطية المدنية الوضعية؟
نحن في منطقة التخمين نتيجة ضمور المعلومات والتحاليل السياسية الصادرة عن مفكري الحزب وقادته، لكننا ننتبه إلى أن الحزب ليس له مفكرون ولا قراءات (الواقع أن هذا عيب مشترك في كل الأحزاب التونسية، أنها أحزاب لا تفكر لأنها أحزاب خاصة وعائلية وشللية لا تغري أحدًا ممن يفكر بالانتماء إليها)، لكن لا فعل بلا معنى، فماذا قبض الحزب؟
لم يعد يقنعنا حديث الوطنية المركب من جمل ثابتة يرددها النهضويون منذ انتخابات 2014 عن أن مصلحة البلد قبل مصلحة الحزب وأن الهدف الآن إنقاذ البلد من الانهيار عبر التمسك بالتحالف القائم حول حكومة الشاهد وشخص الرئيس المنقذ من الضلال السياسي، لذلك يظل الهروب من الترشيح على المنصب النيابي ثم مساندة مرشح حزب منافس أمرًا يوحي بصفقة، فأين عُقدت؟ وما موضوعها؟
لقد استعد حزب النهضة استعدادًا كاملاً للانتخابات البلدية وجهّز ماكينته الانتخابية بشكل أخاف بقية الأحزاب الكسولة العاجزة، بما جعل الرئيس يرفض إصدار الأمر بالاستعداد وهي من صلاحيته المحددة بالدستور، فدخلت ماكينة حزب النهضة في حالة عطل كلاعب قام بالإحماء ولم يدخل الملعب.
حزب يهرب من معارك مستحقة عليه بالنظر إلى ما كان يعلنه من رغبة في التغيير وما كان يقترحه من تأصيل وتحديث
ونافس الحزب شريكه على هيئة الانتخابات وانهزم حتى الآن، فحزب النداء لا يترك مواقعه للنهضة بأي مقابل، وفي مقابل دفاع النهضة عن التحالف القائم يبين أن حزب النداء لا يؤمن بل يكفر بالشراكة التي يتمسك بها النهضة، وطنية مفرطة من جانب واحد انتهت حتى الآن بتأجيل الانتخابات.
لقد صدر ببعض المواقع غير ذات الصلة المباشرة بالحزب حديث على أن مساندة مرشح البرلمان عن ألمانيا كان بثمن تمرير مرشح النهضة في هيئة الانتخابات، وهذا تأويل أو توقع يتذاكى على الجمهور الغبي، فالسيطرة على هيئة الانتخابات (لضمان التزييف) أهم بكثير من مقعد نيابي ما زال أمامه أقل من سنتين من العمل النيابي، ولا نخال حزب النداء بهذا الغباء أو الطيبة وهو الذي يراوغ كي لا تحدث انتخابات بالمرة.
لا توجد صفقة يوجد حزب هارب من استحقاقات الحكم.
حزب سيدنا الخضر
نتابع حيرة النهضويين رغم الانسجام الظاهر في البيانات الرسمية بين مجلس الشورى والمكتب التنفيذي، نسألهم ماذا تفعلون فيضعون قرصهم المدمج إياه: “نحن محل مطاردة عالمية والعالم يرفض وجودنا واليسار يحاربنا ونحن لم نعد نحتمل السجون، وانظروا حالة سوريا وليبيا لقد نجونا في تونس من الحرب الأهلية بفضل تنازلات الحزب وتقديم مصلحة تونس على المصلحة الحزبية”، ولكن هل النجاة من الموت تكون بتقوية أحد القتلة بنائب جديد في البرلمان؟
نقف على مشهد حزب بلا مشروع ولا يقدر على الحكم ولا على المنافسة ويتصرف كطائفة ناجية رغم زعم الاندماج
يبدو أن الحزب قرر العيش في ظل حزب النداء، مكتفيًا بالموقع الثاني (بحسب استطلاعات رأي مشكوك في صدقيتها)، لذلك يعرض وده المفرط على حزب النداء بمساندته في الترشيح لتقوية كتلته النيابية وهذا هو الثمن الوحيد المتاح بل هو عرض من جانب واحد لا نعتقد أن حزب الرئيس يحتاجه، فهو يحكم دون العودة إلى البرلمان، ورئيس الحكومة الندائي يتصرف كأن النهضة غير موجودة كشريك حقيقي، فالتعيينات لا تشملها إلا ذرا لرماد على العيون (آخر أربع سفراء كلفوا هذا الأسبوع من صميم ماكينة النداء/ التجمع). والنداء يستعيد بحماسة وسرعة كل الوجوه الاستئصالية التي ذبحت حزب النهضة ربع قرن وآخر المستعادين الوزير مدير ديوان بن علي (احمد عياض الودرني) واليسار الماسك بالإدارة العميقة خاصة في وزارة الشؤون الاجتماعية يطرد النهضويين من مواقع قليلة حصلوا عليها وآخرها الرئيس المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذًا أين ثمرة التحالف الذي تقويه النهضة بتنازلاتها الوطنية المفرطة؟ نحتاج سيدنا الخضر لتفسير ما لم نستطع عليه صبرا.
للنهضة سيدها الخضر الذي يتخذ القرارات الغامضة على أفهام العامة من أمثالنا، لكن قرارات الخضر النهضاوي تلزم حزبه (إذا اطلع نهضاوي على هذه الجملة سيقول لنا ابنوا حزبًا ونافسوا النداء أو اكسروه، فهذه أيضًا جملة ثابتة في الخطاب)، لسنا ملزمين بذلك ولكننا نقف على مشهد حزب بلا مشروع ولا يقدر على الحكم ولا على المنافسة ويتصرف كطائفة ناجية رغم زعم الاندماج، حزب يهرب من معارك مستحقة عليه بالنظر إلى ما كان يعلنه من رغبة في التغيير وما كان يقترحه من تأصيل وتحديث، حزب يرى البلد يتلاشى ويروج لخطاب إنقاذ لم يعد يقنع حتى منتسبيه، ولكل موقف ثمن في الصندوق مهما تأجلت الانتخابات.
من الضروري أن نعيد قراءة عمل النخب وتكتيكاتها الفردية والجماعية دون إيلاء أهمية للمراجع الأيديولوجية المعلنة، فالليبرالي كما اليساري كما الإسلامي، ينتهون حتى الآن إلى برجوازية صغيرة ذات طموحات فردانية تقدم منافعها على القضية الوطنية
سيدنا الخضر لا يقرأ ماركس
هل من سبب لهذه التكتيكات في المربعات الضيقة غير الخوف المعلن على البلد الممزوج بخوف مزعوم من الاستئصال السياسي في الداخل المتواطئ مع وضع دولي معاد لأحزاب ذات المرجعية الإسلامية؟
نفهم هذه السياسة التي تقود الحزب بأنها أقرب ما تكون إلى تكتيكات الطبقة الوسطى (البرجوازية الصغيرة) الباحثة عن التموقع في سلم المنافع الاجتماعية التي يوفرها اندماج سريع في نظام اجتماعي يجازي بالولاء وهو نفس ما اتبعته نخبة حزب الدستور في سنوات الاستقلال الأولى، إذ بمجرد أن بدأ النظام السياسي يمنح مواقع مجزية (مفيدة) حتى تشكلت طبقة المنتفعين منه، فضيعت مطالب الاستقلال والسيادة وراهنت على التحالف مع المستعمر القديم وظلت تنتعش من نظام تابع، وهو نفس الداء الذي أصاب اليسار الذي نشأ يتحدث عن البروليتارية فلما وجد موقعًا في الطبقة الوسطى تحول إلى يسار ثقافي أو يسار “بوبو” وما الإسلاميون إلا سائرون على الدرب.
ونعتقد هنا أنه من الضروري أن نعيد قراءة عمل النخب وتكتيكاتها الفردية والجماعية دون إيلاء أهمية للمراجع الأيديولوجية المعلنة، فالليبرالي كما اليساري كما الإسلامي ينتهون حتى الآن إلى برجوازية صغيرة ذات طموحات فردانية تقدم منافعها على القضية الوطنية التي ظلت معلقة منذ خانتها نخبة حزب الدستور الأولى، وهي قضية الاستقلال والسيادة على الثروات وإدارة البلد بشكل يمكن القطاع الأوسع من مواطني البلد المقصيين من نظام المنافع من حقوقهم المؤجلة بعد، وإن تم إحالة بعضها تحت الضغط الشعبي إلى نص دستوري يرعب تنفيذه الطبقة الوسطى التي تسخّر نفسها لخدمة طبقة النهابين الكبار (المنعوتين تعسفًا بالبرجوازية) وما قانون المصالحة منا ببعيد، فقد تم إصدار نص العفو (المصالحة) ونشر بالجريدة الرسمية (القانون 62/17)قبل الآجال القانونية للنشر القانوني، في حركة هروب استباقي للشارع المحبط من جميع الأحزاب حتى التي زعمت أنها تخاف الله في شعبها.
كتبنا صباح الجمعة وستقتحمنا الصفحات النهضوية بدعوات الجمعة المباركة والتذكير بسنة تلاوة سورة الكهف، وهذا مهرب جيد من استحقاقات الرد على أسئلة موسى للخضر، ولا نشك أن هذا الطريق سيفحمنا ذات يوم بموقف من قبيل “وما فعلته عن أمري”، وهو قول يذكر بما يلجأ اليه مطببو القبائل الهندية الذين يغمضون في الخطاب لاستدامة السيطرة على المؤمنين، سنقرأ صورة الكهف ونقول لقد كان ماركس على حق، فالبرجوازية الصغيرة هي مصدر الانحطاط الأخلاقي.