في مثل هذا اليوم، في 28 من شهر أكتوبر 2016، بدأت احتجاجات في مدينة الحسيمة بالريف المغربي، بعد أن صادرت السلطات المحلية كميات كبيرة من السمك الذي اشتراه الشاب محسن فكري وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة، غير أن الشاب قفز إلى داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، إلّا أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت.
بعد تلك الحادثة الأليمة، توالت احتجاجات ساكني الحسيمة بشكل عفوي، واتسعت رقعتها لتستقطب فئات جديدة باستمرار بالنظر إلى طابعها السلمي والاحتقان الاجتماعي بالمنطقة، وبدأ المحتجون في الحسيمة والمدن المجاورة بالمطالبة بمطالب ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية لا تختلف عن باقي مطالب الشعب المغربي المرتبطة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فما أبرز المحطات والأحداث المتعلقة بهذه الاحتجاجات بعد سنة من انطلاقها؟
إعفاء وزراء
أبرز حدث مرتبط بـ”حراك الريف” حصل هذا الأسبوع، حيث اتخذ العاهل المغربي محمد السادس، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المملكة المغربية، إجراءات عقابية بحق مسؤولين سابقين ووزراء حاليين في الحكومة بسبب تأخر أو عدم تنفيذ مشاريع تنموية اقتصادية واجتماعية في منطقة الريف، وشمل قرار الملك إعفاء 4 وزراء بعد تسلمه تقريرًا يتضمن نتائج وخلاصات المجلس الأعلى للحسابات (مؤسسة رقابية) عن تأخر تنفيذ برنامج الحسيمة منارة المتوسط الذي أطلقه الملك عام 2015.
وخلص تقرير المجلس الأعلى للحسابات إلى وجود مجموعة من الاختلالات سُجلت في عهد الحكومة السابقة متعلقة بتنفيذ برنامج الحسيمة منارة المتوسط الذي يشمل أكثر من 500 مشروع تنموي لفائدة منطقة الريف، كما أبرز أن عدة قطاعات وزارية ومؤسسات عمومية لم تف بالتزاماتها في إنجاز المشاريع، والشروحات التي قدمتها لا تبرر التأخر الذي عرفه تنفيذ هذا البرنامج التنموي.
مسؤولية الأحزاب والسياسيين
في هذه الأثناء، حمّل العاهل المغربي محمد السادس في أكثر من خطاب مسؤولية ما حدث في “مدن الريف” إلى الأحزاب والسياسيين، مطالبًا إياها بالإنصات لهموم الشعب وتقديم خيرة نخبتها، والابتعاد عن الصراعات السياسية الضيقة وجعل احتياجات المواطن ومصلحة الوطن فوق أي اعتبار سياسي ضيق.
وأشار ملك المغرب إلى أن بعض السياسيين انحرفوا بالسياسة كما أن المواطن لم يعد يثق بهم، وخاطب المسؤولين بقوله إما أن تقوموا بمسؤولياتكم أو تنسحبوا، وقال إنه عندما لا تسير الأمور كما ينبغي يتم الاختباء خلف القصر الملكي في حين يتم الهرولة لقطف نتائج وثمار النجاح، معبرًا عن صدمته من تواضع الإنجازات في بعض القطاعات. ويؤكد مراقبون أن الشارع المغربي فقد الثقة في وزراء حكومة سعد الدين العثماني والأحزاب السياسية المغربية والمؤسسات الوسيطة في الدولة لحل ملف حراك الريف المتواصل منذ 9 أشهر.
500 معتقل
واجهت الحكومة المركزية المغربية احتجاجات ساكني مدن الريف بحملة اعتقالات كبيرة بهدف السيطرة عليها واحتوائها، ووفقًا لتقارير إعلامية وصل عدد معتقلي “حراك الريف” في سجون ومراكز الإيقاف المغربية إلى أكثر من 500 معتقل منذ اندلاع الاحتجاجات في الريف، ويُوزع أغلب المعتقلين على سجون الحسيمة والدار البيضاء والناظور.
تميل الحكومة المركزية في الرباط إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الاحتجاجات
وأُلقي القبض على الكثير من هؤلاء بشكل تعسفي، وبينهم ناشطون سلميون وبعض الصحفيين ولا تزال الغالبية العظمى منهم قيد الاحتجاز، وصدرت بحق الكثير منهم أحكامًا بالسجن على خلفية تهم تتعلق بالاحتجاج. ويخضع ما لايقل عن 50 موقوفًا للتحقيق حاليًا على ذمة تهم تتعلق بأمن الدولة، بينما يخضع شخص آخر للتحقيق على خلفية تهم تتعلق بالإرهاب. وقد يُحكم على البعض منهم بالسجن المؤبد جراء ذلك، حسب منظمة العفو الدولية.
وتميل الحكومة المركزية في الرباط إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الاحتجاجات، نتيجة ضعف اندماج منطقة الريف وعلاقتها الصعبة بالمركز، مما ساهم في تعميق الهوة مع المحتجين ودفعهم إلى مطالب تشكك حتى في السلطات الرمزية في المملكة، وقد تكرست الهوة بفعل ردود الفعل العنيفة، من قبل الحكم المركزي “المخزن” في المغرب، على انتفاضات واحتجاجات شهدتها منطقة الريف مباشرة إثر استقلال المملكة نهاية الخمسينيات وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
وفاة أحد المحتجين
شهدت احتجاجات الريف وفاة أحد المحتجين، يدعى عماد العتابي، في 8 من أغسطس الماضي متأثرًا بجروح أصيب بها بمنطقة الرأس إثر تدخل قوات الأمن لفض مسيرة احتجاجية يوم 20 من يوليو/تموز المنصرم بمدينة الحسيمة مركز الاحتجاجات، ونُقل العتابي إلى السجن المحلي في الحسيمة، قبل أن تعلن النيابة العامة نقله إلى المستشفى العسكري بالرباط، حيث ظل يرقد بحالة غيبوبة حتى تاريخ وفاته.
حالات تعذيب
وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، حالات لممارسة التعذيب والاعترافات القسرية التي تشكل انتهاكًا لدستور المغرب لسنة 2011، إضافة إلى ذلك قالت منظمة العفو الدولية إن ما لا يقل عن 66 شخصًا محتجزًا بسبب الاحتجاجات الجماعية في منطقة الريف شمال المغرب أبلغوا عن تعرضهم للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة في الحجز، بما في ذلك تعرضهم للضرب والخنق والتجريد من الملابس والتهديد بالاغتصاب وتوجيه الشتائم والإهانات لهم من طرف الشرطة، وذلك من أجل إجبارهم على الاعتراف في بعض الأحيان.
مطالب عالقة
بدأ ساكنو الحسيمة والمدن المجاورة احتجاجاتهم في أكتوبر 2016، بالمطالبة بمطالب ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية، ومع مرور سنة من انطلاق الاحتجاجات بقيت هذه المطالب عالقة، ومن أبرز المطالب الملحة للجهة الإسراع بالكشف عن مآل التحقيق في ملف وفاة محسن فكري وتقديم جميع المتورطين في وفاته للعدالة والذهاب بالتحقيقات إلى أبعد مدى.
ويطالب المحتجون أيضًا بالكشف عن حقيقة وفاة 5 أشخاص داخل أحد بنوك المدينة بعد خروج المغاربة في مدن مختلفة بينها الحسيمة يوم 20 من فبراير/شباط 2011 إبان موجة الربيع العربي، حيث اكتُشفت الجثث المتفحمة داخل البنك في ظروف غامضة، في حين يطرح المحتجون علامات استفهام كثيرة عن سبب الوفاة وعن أداء الأجهزة الأمنية المختصة في القضية.
يدعو المحتجون إلى تعزيز قطاع التشغيل بالمدينة عبر خلق مصانع
وفي مجال الصحة يطالب المحتجون بإنشاء مستشفى إقليمي جديد وإصلاح البنية الصحية بالمدينة وتوفير التخصصات والعلاجات والأدوية للمواطنين بالمدينة والقرى التابعة لها، وفي مجال التعليم يطالب ساكنو الريف ببناء مدارس جديدة وجامعة متكاملة التخصصات ومعاهد عليا بالمنطقة، ولدى المحتجين أيضًا مطالب متنوعة بينها تعزيز البنية الثقافية بالمدينة، وإتمام أشغال إنشاء متحف الريف وإحداث مراكز ثقافية، إلى جانب الحفاظ على الثروة الغابوية والمائية بالمنطقة، وإنشاء ملاعب رياضية يستفيد منها أبناء المدينة.
اقتصاديًا يطالب المحتجون بوقف ما يسمونها سياسة حرمان الحسيمة ومنطقة الريف من مشاريع إنتاجية أساسية، ومحاربة الفساد وخاصة بقطاع الصيد البحري الذي يعد النشاط الاقتصادي الأبرز بالمدينة، بالإضافة إلى وضع ركائز للنهوض الفلاحي بالمنطقة ودعم الفلاحين الصغار، ويدعو المحتجون إلى تعزيز قطاع التشغيل بالمدينة عبر خلق مصانع وتسهيل مسطرة إنشاء مشاريع اقتصادية منتجة تحتضن اليد العاملة النشطة التي تعاني من البطالة، كما يطالبون بربط إقليم الحسيمة بخط السكك الحديدية وشبكة الطريق السيار وتوسيع مطار المدينة وفتح خطوط جوية بين الحسيمة وأوروبا.
“أيقونة الحراك” ناصر الزفزافي
مع انطلاق الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، برز شاب عاطل عن العمل، عمره 38 سنة ويدعى ناصر الزفزافي، استطاع بفصاحته أن يجمع الناس حوله ويقود الحراك، ومنذ ذلك الحين أصبح الزفزافي يعرف إعلاميًا بزعيم “حراك الريف”، حيث أصبح حاضرًا في كل اللحظات، يقود المسيرات ويخطب في الجماهير وتتداول تصريحاته وسائل الإعلام المحلية والدولية، وكثيرًا ما كان يردد الزفزافي أنه يسير على نهج الزعيم المغربي الكبير محمد عبد الكريم الخطابي في التحرر والوقوف ضد الظلم والدفاع عن المهمشين.
كان محور أول خطابات الزفزافي التي أصبحت الملهم الأبرز للاحتجاجات، التهميش الذي يعانيه الريف المغربي وسكانه وانعدام التنمية هناك وانتشار البطالة والظلم والفقر وفساد الحكومة، حسب وصفه، ثم بدأت نبرة خطاباته تزداد حدة، فبدأ يوجه نقده للمخزن والملك المغربي محمد السادس مباشرة.
ناصر الزفزافي
ويتجاوز مشاهدو فيديوهات ناصر الزفزافي الذي يلقبه محبوه بـ”أمغار ناريف” وتعني “قائد الريف”، على قناة اليوتيوب مئات الآلاف، وبث كلماته المباشرة على صفحته على “فيسبوك” يحصد إعجاب ومشاركة الآلاف أيضًا، نتيجة الكاريزما الخاصة التي يتمتع بها وتجعل الناس يلتفون حوله، واعتقدت السلطات المغربية أن حال القبض على الزفزافي وإيداعه السجن سيخمد “حراك الريف” وينتهي، إلا أن الزفزافي كان حاضرًا دائمًا إن لم يكن بجسده فبصوره وخطبه التي استطاع أن يجمع من خلالها الناس حوله.
واعتقل الزفزافي في 29 من شهر مايو الماضي في قرية دوار لحرش على بعد نحو 50 كيلومترًا من الحسيمة لمقاطعته خطبة إمام مسجد في المدينة، ووجهت إلى الزفزافي الذي كان يندد في خطاباته بالدولة الفاسدة، عدة تهم بينها الإساءة إلى الأمن الداخلي.
إبداع في أساليب الاحتجاج
خرجت احتجاجات ساكني مدن الشمال المغربي عن المألوف، فكل مرة يبتكر ساكنو الريف أسلوبًا جديدًا للاحتجاج، وبدأ الحراك بالشموع والورود ومرة بالطنطنة وإطفاء الأنوار، ووصل إلى البحر وشواطئه هربًا من الطوق الأمني المفروض على الساكنة داخل المدن وأحيائها، ومؤخرًا ابتدعوا شكلًا جديدًا من الاحتجاج يتمثل في مقاطعة شعيرة عيد الأضحى المبارك.