تتفرد مدينة أريحا جنوبي إدلب بأجواء رمضانية متوارثة، ففي حاراتها القديمة تشعر وكأن السكان عائلة واحدة، وهم يتبادلون الأطباق في شهر رمضان المبارك، في مبادرة تساهم في تعزيز الألفة وأواصر المحبّة والتماسك المجتمعي بين السكان، وهي عادة متوارثة منذ مئات السنين.
يأتي رمضان الثالث عشر بعد انطلاق الثورة السورية في الشمال السوري بأوضاع إنسانية صعبة، وسط الكثير من العوز والمعاناة في تأمين المعيشة، نتيجة الغلاء الكبير في الأسعار، وقلة فرص العمل، وانتشار البطالة والفقر بين الناس.
رغم الظروف الصعبة، ما زال أهالي مدينة أريحا يحافظون على عادة “سكبة رمضان”، فهي موروث شعبي لا يمكن الاستغناء عنه، بحسب عدد من أهالي المدينة.
الألفة والبساطة والتراحم
قال صالح تريسي، أحد سكان المدينة، لـ”نون بوست”، إن شهر رمضان في مدينة أريحا السورية يمثّل صورة نابضة بالألفة والتراحم والبساطة، فهي تعبّر عن عادات أصيلة ومتنوعة نتيجة استقبالها أعداد كبيرة من النازحين من مختلف المحافظات السورية، خاصة في الأحياء القديمة، ورغم هذا التنوع لم يغب عن هذه المدينة تمسّكها بالعادات الأصيلة في رمضان.
عادة “السكبة” في شهر رمضان وفق تريسي، هي عبارة عن طبق طعام يتبادله الجيران والأقارب، فكل ربّة منزل تحرص على أن يتذوق الناس من الطعام الذي تطبخه.
وبيّن أن “هذه العادة تزيد من المودة والمحبة، والتكافل الاجتماعي، وتوطد العلاقات بين الناس، وممّا يلفت النظر قبل المغرب أنك تشاهد الكثير من الأطفال بين الأزقة، وهم يحملون أطباق الطعام في أيديهم لإهدائها إلى الجيران والأقارب، والفرحة بادية على وجوههم، وما زالت تلك العادة موجودة في مدينتنا، خاصة في الأحياء القديمة”، على حد قول تريسي.
من جهته، لم يخفِ بشار جقمور، وهو أحد سكان الأحياء القديمة في مدينة أريحا، حبّه لعادة “سكبة رمضان”، ووصفها بأنها عادة متوارثة لدى سكان أريحا، مضيفًا أنه ليس هناك أجمل من منظر الأطفال وهم يحملون أطباق الطعام، ويقرعون أبواب الجيران بصوت طفولي ووجه بشوش، بقول: “مرحبًا، أنا ابن جيرانكم، اشتهينا لكم هالسكبة”، حسب وصفه.
وقال جقمور لـ”نون بوست” إن أهالي أرياح يتميزون بحسن المعشر واحترام بعضهم، وعادة “السكبة” في رمضان تعود إلى تمسُّك الناس بتعاليم النبي الكريم محمد (ص)، بأن فضل الصدقات في شهر رمضان كبير، وهو نابع من قوله: “من فطّرَ صائمًا كان له مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيئًا”، وهو كان من أجود الناس في الصدقات، وهذا يعود بالألفة والمودة والتراحم بين الناس، ومساعدة الفقراء في ظل الغلاء الكبير والوضع المعيشي السيّئ للكثيرين.
ونوّه جقمور إلى أن عملية توزيع “السكبة” تبدأ قبل موعد الإفطار بنصف ساعة، ليكون الطعام لا يزال ساخنًا، فهو يطبَخ طازجًا ويتم توزيع طبق منه للجيران وليس طعامًا قديمًا، إضافة إلى ترتيب الطبق وتزيينه، لإبراز مهارة النساء في إعداد الطعام وتقديمه في الأطباق، واعتباره من باب الاحترام للجيران.
أحياء قديمة ومعالم أثرية
ما زالت تحتفظ مدينة أريحا بأسواق المهن اليدوية كسوق الحدادين، وسوق النجارين، وسوق التجار، وسوق الصباغين وغيرها، وتحتفظ بمهنها القديمة المنقرضة كصناعة المناجل والفؤوس وغيرها من الأدوات الزراعية اليدوية، كما أنها تشتهر بزراعة الكرز والمحلب والتين، بالإضافة إلى الزيتون الذي تعدّ إدلب الخضراء من المحافظات المنتجة لزيت الزيتون، وفق ما قال صالح تريسي لـ”نون بوست”.
وأضاف أن لأريحا حضارة ضاربة في عمق التاريخ، فموقعها المتوسط بين أنطاكية وأفاميا في العصر البيزنطي، جعلها محطة تجارية مهمة، وفيها العديد من المنتجعات السياحية أهمها منتجع “جبل الأربعين”، لمناخها المعتدل وطبيعتها الخلابة، بالإضافة إلى غناها بالأوابد التاريخية القديمة، ما جعلها قبلة للزائرين والسواح.
كما تتميز بصناعة الحلويات خاصة “الشعيبيات الريحاوية”، والتي تعتبر من أشهى الحلويات منذ القديم، وما زالت محافظة على مكانتها.
فيما قال أحمد سعيدو، وهو من المهتمين بالآثار التاريخية للمدينة، إن تاريخها يعود إلى فترة 3 آلاف عام قبل الميلاد، فقد وُجدت العديد من اللّقيات الأثرية في أريحا والمناطق المجاورة لها، والتي تدلّ على عمق مدينة أريحا في التاريخ، ومن أهم اللّقيات جرة مليئة بالقطع الذهبية تعود إلى حضارات إسلامية وبيزنطية، على حدّ قوله.
الجامع الكبير
بحسب المؤرّخ ابن مدينة إدلب فايز قوصرة، فإن الجامع الكبير في مدينة أريحا يعدّ من أهم المعالم التاريخية فيها، وأصل الجامع هو كنيسة ديرية من الطراز البازيليكي المشابهة لكنيسة قلب لوزة في جبل السماق شمالي غرب إدلب، وتحوّل إلى مسجد بعد دخول الظاهر بيبرس مدينة أريحا وتحريرها عام 667هـ/ 1268م.
من جهته، قال صالح تريسي إن أريحا سابقًا أُطلق عليها اسم “الأزهر الصغير”، لكثرة المساجد فيها، وكان يقام في الجامع الكبير مدرسة شرعية تعلّم علوم الدين، من خلال غرف تمّ بناؤها في الجهة الشمالية من الجامع الكبير، وفيها 35 مسجدًا بين كبير وصغير.
كما أن من أهم المناطق الأثرية في أريحا التل الأثري الذي لم ينقَّب بعد بشكل رسمي، إضافة إلى وجود العديد من الكهوف الأثرية التي تحوي مقابر تعود إلى العهد الروماني، كما يوجد العديد من الأحياء والأبنية القديمة التي تدلّ على حقب تاريخية متنوعة، إضافة إلى وجود 3 حمّامات قديمة (الصغير، والوسطاني، والفوقاني)، كما يوجد فيها عدد من الكهوف والمغاور في المدينة القديمة، بعضها يدل على وجود محال تجارية قديمة، وفق ما قال أحمد سعدو.
وتقع مدينة أريحا جنوب مدينة إدلب في شمال غربي سوريا، على الطريق الواصل بين حلب واللاذقية، وهي منطقة تابعة لمحافظة إدلب، وتتبع لها 55 بلدة وقرية، وما يزيد عن 44 مزرعة، وناحيتان هما احسم ومحمبل، ويبلغ عدد سكانها نحو 55 ألف نسمة، وتشرف على سهول إدلب الشمالية عند التقاء جبل الأربعين بالسهل المجاور.
تنقسم المدينة إلى قسمَين، أريحا القديمة وأريحا الحديثة، وفيها من الآثار ما يجعلها تفتخر بأصولها الموغلة في القدم، وفيها مدافن محفورة بالصخور، والقبّة الرومانية الكبيرة، وأسواق مقبية، وخان القيصرية، والعديد من الآثار التي تعود لفترات زمنية مختلفة.
تسميتها آرامية، وأصلها “ريحا” كما يلفظها أكثر سكان أريحا وجبل الزاوية، ومعناها “الأريج” لامتيازها برائحة زهور المحلب، وبحسب المؤرّخ فايز قوصرة، فإن تسمية “ريحا” مأخوذة من أريحا في فلسطين، وفي اللغات القديمة يطابق معناها بالعربية، وهي “سامية” عروبية الأصل.