سيطرت قوات الدعم السريع في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، على مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة المجاورة للعاصمة الخرطوم، دون قتال، بعد انسحاب الجيش وقوى الأمن من المدينة التي تحولت بعد اندلاع النزاع إلى مركز اقتصادي وإنساني لكل مناطق السودان، قبل أن يتلاشى ذلك في غمضة عين.
بعد السيطرة على ود مدني، انتشرت قوات الدعم السريع في جميع أرجاء الولاية عدا مدينة المناقل، وفرضت هيمنة مطلقة على الجزيرة التي تقع جغرافيًا وسط السودان وتضم أكبر مشروع زراعي مروي في إفريقيا، قبل أن تشرع في ارتكاب الانتهاكات المروعة بحق السكان العُزل.
وفر انقطاع الاتصالات وشبكات الإنترنت اعتبارًا من 18 فبراير/شباط هذا العام، تغطية لتتوسع عناصر الدعم السريع في ارتكاب المزيد من الجرائم الفظيعة، ومع ذلك استطاع مدافعون حقوقيون ولجان الحركة الاحتجاجية التي كانت تُناضل ضد الحكم العسكري كشف بعض هذه الانتهاكات.
انتهاكات الدعم السريع
في البداية، حاولت بعض قرى ولاية الجزيرة عقد صفقات طموح مع قوات الدعم السريع تقضي بعدم دخولها إلى البلدات وتوفير الحماية لهم من أعمال النهب والسرقة، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، لاشتراط القوات شبه العسكرية انضمام الشباب إلى صفوفها.
مع مطلع فبراير/شباط المنصرم، بدأت قوات الدعم السريع توسع نطاق مداهمتها للقرى الخالية من أي مظاهر شرطية أو عسكرية، بغرض نهب وإذلال السكان، فيما يلقي من يُعارض ذلك حتفه برصاصة، إذ وصلت الجرائم إلى منع المدنيين من مغادرة مناطقهم.
إن نظرة واحدة على حسابات لجان مقاومة ود مدني ولجان مقاومة الحصاحيصا، توضح مقدار الجرائم التي اُرتكبت بحق المدنيين، رغم أن ما وُثق لا يتعدى كونه قمة جبل الجليد، فلا تزال الانتهاكات المروعة تتكشف بمرور الأيام.
لا تستطيع قوات الدعم السريع ملاحقة مرتكبي الانتهاكات، بسبب اعتمادها على حشد مقاتليها عبر العشائر والقبائل وانضمام الكسيبة للقتال إلى جانبها من أجل ممارسة أعمال النهب
دفع تزايد الانتهاكات ياسر عرمان، القيادي البارز في ائتلاف الحرية والتغيير الداعي لإنهاء الحرب عبر الوسائل السلمية، إلى مطالبة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” بإدانة الجرائم التي ترتكبها قواته والعمل على إيقافها.
وحذر عرمان من أن جرائم الدعم السريع ستدفع آلاف الشباب في ولاية الجزيرة إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، حيث نصح قادة المليشيا بعقد اجتماع شامل مع قادة المجتمع لتطوير وسائل حماية داخلية ووضع خطة صارمة لإخراج المسلحين من القرى والأحياء السكنية.
يقول تقرير، أصدره محامو الطوارئ وهم قانونيون يوثقون الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين، إن 248 مدنيًا قُتلوا في الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع على 156 منطقة بولاية الجزيرة، كما تم رصد حالات عنف مركزة هدفت إلى تهجير الأهالي من قراهم.
ملاحقة غير جادة
حاولت قوات الدعم السريع، امتصاص حالة الغضب المحلي إزاء انتهاكات عناصرها في الجزيرة، بإصدارها بيان في 21 فبراير/شباط الماضي، تعهدت فيه بملاحقة من وصفتهم بـ”المتفلتين”، وذلك باستخدام كل الوسائل التي تضمن أمن وسلامة المدنيين.
وقالت إنها لن تتهاون مع أي ممارسات أو تصرفات تنتهك حقوق المواطنين، سواء من أفرادها أم من مجرمين يسعون إلى إشاعة الفوضى وعدم الطمأنينة في قرى ولاية الجزيرة.
ليس غريبًا على مليشيا الدعم السريع إصدار هذا التعهد، فهي دائمًا ما تقول إنها تعمل على استعادة الديمقراطية وتحقيق العدالة، بينما تشير أفعالها في الواقع إلى أنها تُمارس العنف ضد العُزل من أجل إذلالهم بشتى الطرق، بما في ذلك العنف الجنسي.
فقدت الدعم السريع السيطرة تمامًا على قواتها في الحصاحيصا التي شهدت تبادل نار فيما بينهم، وهذا أمر يحتمل وجوده في مناطق أخرى، لافتقارها لأي عقيدة عسكرية
لا تستطيع قوات الدعم السريع ملاحقة مرتكبي الانتهاكات لثلاثة أسباب؛ يختص الأول بتفشي ارتكاب الجرائم ضد المدنيين ما يُعني أنها ستلاحق كل أو معظم مقاتليها الحاليين بعد أن فقدت القوة الصلبة سواء بقتلهم في المعارك أم بسبب فرارهم إلى قواعدهم الاجتماعية في دارفور غرب السودان.
يتعلق السبب الثاني باعتمادها على حشد المقاتلين إلى صفوفها، عن طريق الفزع وهو نداء قبلي يُطلق لدعوة الشباب إلى القتال، فعادة ما يشارك أبناء القبيلة الواحدة في سرية أو كتيبة واحدة، وبالتالي، مُلاحقة أي مقاتل متهم بارتكاب انتهاكات سيدافع عن رفاقه.
أما السبب الثالث فهو استخدامها ما عُرفوا بـ”الكسيبة”، وهم مقاتلون مغامرون انضموا إليها من أجل ممارسة أعمال النهب، فقد دفعت ممارسات عناصر الدعم السريع في الاستيلاء على أموال ومقتنيات المصارف والشركات والمؤسسات والمنازل، الكثير من الكسيبة للانضمام إليها بهدف تحقيق مكاسب مالية معتبرة في وقت قصير.
ملامح فقدان السيطرة
قالت قوات الدعم السريع في 5 مارس/آذار الحاليَّ، إن قوة منها تعرضت لهجوم مسلح عند وصولها إلى منطقة كترة بولاية الجزيرة، لملاحقة مجرمين يمارسون أعمال نهب وسرقات، حيث دخل الطرفان في معركة شرسة فقدت فيها الدعم السريع ثلاثة من عناصرها الذين قتلوا 20 مجرمًا، وفق توصيفها.
رغم حديثها عن بدء تحقيق لمعرفة هويات المجرمين ودوافع أعمالهم الممنهجة ضد المدنيين، فعلى الأرجح ينتمي هؤلاء المجرمون إليها أو كسيبة يشاركونها القتال مقابل توفير غطاء لارتكاب الجرائم، وعلى الأغلب، تقاتلت المجموعتان بسبب اختلافهما في أنصبة ما جرى نهبه، لتستغل قوات الدعم السريع هذا الأمر في تحسين صورتها أمام الرأي العام، وهذا مؤشر على أنها بدأت تفقد السيطرة على عناصرها.
أكدت لجان مقاومة الحصاحيصا، وهي من كبرى مدن ولاية الجزيرة، أن الدعم السريع فقدت السيطرة تمامًا على قواتها في المدينة مع ظهور تفلتات في مختلف أنحائها، حيث شهدت المدينة اشتباكات بين عناصر المليشيا في الأيام السابقة، ما ينذر بخطر كبير.
يحتمل أن هذا الأمر ينطبق على مناطق عديدة في ولاية الجزيرة، بسبب عدم وجود رابط قوي يدفعهم إلى استمرار القتال دون أعمال النهب، علاوة على أن الدعم السريع تفتقر من الأساس لأي عقيدة عسكرية لطابع تكوينها الأسري والقبلي.
هناك عدد من الاحتمالات إزاء فقدان الدعم السريع السيطرة على قواتها، يتعلق الأول ـ وهو الأسوأ ـ بتبادل إطلاق النار فيما بينهم بالمدفعية الثقيلة، ما يوقع آلاف الضحايا المدنيين الذين سيكونون في مرمي النيران.
أما الاحتمال الثاني، فهو ظهور قائد حرب قوي يستطيع فرض كلمته على القوات بالقوة وهذا يعني حدوث انشقاق في الدعم السريع. فيما الاحتمال الثالث، وهو الراجح، أن تعمل كل قوة بمعزل عن الأخرى مع تزايد حدة استقطاب كل فريق مقاتلين جُدد.
إذًا، كل الاحتمالات تشير إلى اقتراب إشاعة الفوضى في ولاية الجزيرة، ما يعقد من مهمة الجيش الذي يطوق الولاية من ثلاث اتجاهات استعدادًا لتنفيذ هجوم يستعيد بموجبه الولاية.
والملاحظ أن قوات الدعم السريع في دارفور لا تزال تُظهر متماسكة وربما هذا يعود إلى اعتمادها الكلي على زعماء العشائر وقادة القبائل في التجنيد وتنظيم صفوفها، وهؤلاء يملكون سطوة متوارثة على مجتمعاتهم يندر أن يخرج أحد عنها عن تعاليمها.
يستحيل استمرار هذا الوضع، حيث تشير تجارب الحركات المسلحة والتنظيمات شبه العسكرية في السودان إلى أن الانشقاق هو مصيرها بسبب مطامع القادة ومحاولة تأمين مصالح العشيرة والقبيلة دون أدنى اعتبار لأي شيء آخر، كما أن الوقت لا يكون في صالح المليشيات عندما تكون في حالة قتال، فإطالة أمده يُظهر خلافاتها الداخلية ويعزز من طموح القادة الأقوياء إلى درجة قد تدفعهم للتمرد عليها.