لا تزال أصداء مقطع قنص كتائب عز الدين القسام للضابط الإسرائيلي في وحدة شلداغ، يتسهار هوفمان، الذي كان مسؤولًا عن حصار واقتحام مستشفى الشفاء بغزة، تتردد في منصات التواصل الاجتماعي، وسط احتفاء كبير بهذه العملية التي كشفت عن قدرات المقاومة الاستخباراتية والقتالية.
تتنوع العمليات التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، تبعًا لطبيعة المعركة وظروفها، ما بين اشتباكات ضارية من المسافة صفر، والاستهداف بالعبوات الناسفة للقوات الراجلة وغيرها، واستخدام الرشقات الصاروخية متوسطة وطويلة المدى، وصولًا إلى تنفيذ عمليات نوعية عبر سلاح القنص المدعوم استخباراتيًا.
منذ بداية الحرب على غزة نجحت المقاومة الفلسطينية في توظيف سلاح القنص تحديدًا لخدمة أهدافها العسكرية، فأوقعت به العشرات في صفوف جيش الاحتلال ما بين قتيل وجريح، مستندة في ذلك إلى الإمكانيات القتالية المتميزة لعناصرها المدربين عليه بشكل أصاب قوات الاحتلال بالصدمة والارتباك، فضلًا عن الآثار النفسية لهذا السلاح الذي تحول إلى أحد أهم الأسلحة بأيدي المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة.
صور حصلت عليها #الجزيرة تظهر تتبع القسام لتحركات الضابط في وحدة شلداغ يتسهار هوفمان المسؤول عن حصار واقتحام مستشفى الشفاء في شمال قطاع #غزة قبل مقتله برصاص قناص#الأخبار #حرب_غزة pic.twitter.com/FgNrLmhCqF
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) March 17, 2024
سلاح ثبت فعاليته
لم تكن الحرب الحاليّة هي المعركة الأولى التي تستخدم فيها المقاومة سلاح القنص، حيث كان له حضوره القوي خلال الحروب والمعارك التي خاضها الفلسطينيون ضد الاحتلال خلال السنوات الماضية، بداية من عام 2002 حين استهدف المقاتل ثائر حماد الحاجز الأمني الذي دشنه الاحتلال في منطقة وادي الحرامية بالضفة الغربية باستخدام بندقية من طراز “إم 1” المستخدمة في الحرب العالمية الثانية، ما أسفر عن سقوط 13 قتيلًا و9 جرحى بين الإسرائيليين.
خلال حرب 2008 نفذت كتائب القسام قرابة 53 عمية قنص لجنود الاحتلال خلال الاجتياح البري للقطاع، تكرر الأمر عام 2014 حيث نفذت حينها 22 عملية، ثم اتسع نطاق استخدام هذا السلاح خلال هجوم المستوطنين على الحرم الإبراهيمي في عامي 2015 – 2016.
وفي عام 2013 نقل موقع “والا” العبري عن ضابط إسرائيلي قوله إن قيادة جيش الاحتلال فوجئت بقدرات قناصة غزة بعدما نجحوا في تنفيذ 4 عمليات قنص ناجحة خلال الفترة بين يوليو/تموز وديسمبر/كانون الأول من نفس العام، كما تحدثت صحيفة “التايمز” الإسرائيلية عام 2018، عن صدمة الحكومة الإسرائيلية من تطور هذا السلاح بأيدي حماس بعد سقوط ضابط إسرئيلي برتبة “رقيب” قتيلًا بطلقات قناصة خارقة للدروع من نوع “شتاير”، وذلك ردًا على استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي متظاهرين في قطاع غزة.
سرايا القدس تبث مشاهد قالت إنها من عملية قنص جندي إسرائيلي وسط خان يونس جنوبي قطاع #غزة#حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/6flDBUA3T2
— قناة الجزيرة (@AJArabic) January 15, 2024
يتناسب وطبيعة المعركة مع الاحتلال
يحقق سلاح القنص وتوظيف القناصة بشكل جيد في الحروب بصفة عامة عددًا من الأهداف، وفق ما نشرته مجلة “العلوم العسكرية والمعلومات” التركية، أبرزها القلق التي يصدره القناصون للقوات المعادية، حيث يتسببون في تفشي الارتباك بين صفوف الأعداء نظرًا لوجودهم تحت تهديد مستمر بسبب القناصة، مما يكون له انعكاسًا سلبيًا على معنوياتهم، خاصة إذا ما نجح القناصة في إحداث خسائر وإيقاع إصابات مباشرة.
خلال مشاركته في دورة “تعزيز مهارات القناصة في البيئات الحضرية” التي عقدت في اليابان يونيو/حزيران 2022، يشير رقيب مشاة البحرية الأمريكية، أوغستو زاباتا، إلى أن للقناصة أدوارًا لوجستية مهمة في الحروب، تشمل منع تحرك جنود الأعداء بحرية كاملة في المناطق المستهدفة، خشية القنص، ما يؤدي إلى تعطيل عملياتهم، كذلك طبيعة عمل القناصة تمنحهم المرونة والسرعة في التحرك وتنفيذ العمليات مقارنة بالتحركات المنظمة التي تلتزم بها الوحدات والكتائب العسكرية المجمعة، وهو ما يساعدهم في تحقيق أهدافهم بسهولة، والقيام بدور استخباراتي محوري يساعد القيادة العامة في أداء مهامها.
نجحت حماس وفصائل المقاومة في توظيف سلاح القنص بالحرب الدائرة الآن في غزة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث أثبت فعالية قوية في ميدان المواجهة، ومن المتوقع أن يُعتمد عليه خلال المرحلة المقبلة لعدة أسباب.
أولها: أنه سلاح رخيص التكلفة مقارنة بالأسلحة الأخرى، فالأمر لا يتطلب سوى مقاتل محترف وبندقية محلية الصنع وذخيرة محدودة، ما يقلل من نفقات الحرب في ظل الحصار المفروض على المقاومة ومساعي الاحتلال لتجفيف مصادر التمويل والدعم.
ثانيها: يتناسب وطبيعة الحرب في غزة، ففي ظل المواجهات طويلة المدى وغياب معايير التكافؤ بين جيش مدعوم من أعتى جيوش العالم في مواجهة فصيل مقاوم يعاني من حصار مطبق، فإن سلاح القنص ربما يكون الأكثر ملائمة الذي يمكنه الإبقاء على حضور المقاومة في المعركة لأطول فترة ممكنة، بخلاف أنه سلاح صعب السيطرة عليه كونه غير مرئي من جيش الاحتلال، فضلًا عن أنه سلاح فردي، لا يحتاج إلى تنظيم مركزي إلا في أضيق الحدود، ما يعطي مرونة وأريحية ومساحة كبيرة من التحرك لعناصر المقاومة، تنظيميين كانوا أو أفراد.
كتـ ـائب القسـ ـام: قنص جندي إسرائيلي أعلى دبابة بمنطقة المغراقة وسط #غزة واستهدافها بقذيفة "تاندوم" pic.twitter.com/eVOObv0EjF
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) December 21, 2023
ثالثها: تحقيق أهداف نوعية في الاستهداف، فعلى عكس الأسلحة الأخرى التي قد تصيب أهدافًا عشوائية غير دقيقة، فإن سلاح القنص سلاح نوعي دقيق، يستهدف صيده بعناية وبعد دراسة ومتابعة استخباراتية معمقة، وبالتالي ينجح في إيقاع رتب وقيادات وعناصر مسلحة معروفة ومحددة سلفًا.
مما يميز هذا السلاح أيضًا عن غيره قدرته الكبيرة على الوصول إلى ما تعجز عنه الأسلحة الأخرى لدى المقاومة، حيث يحدد القناص هدفه مسبقًا، ويأخذ الوقت الكافي لتتبع تحركاته، ومن ثم استهدافه بشكل ممنهج، وهو ما حدث بالفعل مع الضابط بوحدة شلداغ، يتسهار هوفمان ونشرته القسام في الفيديو الشهير الذي لاقى تفاعلًا كبيرًا لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
رابعها: الصدمة النفسية لجيش الاحتلال، يُحدث سلاح القنص حالة ارتباك وفوضى بين صفوف الاحتلال، ويصيب قادته قبل جنوده بحالة رعب كبيرة، إذ لا يدري أي منهم من أين سيأتي الاستهداف، في ظل قدرة القناصة على التخفي والوصول إلى مناطق تمركز جيش الاحتلال، وعليه يصبح الكل – دون استثناء – في مرمى القنص، وهو ما يفسر معاودة آلاف المجندين الإسرائيليين للعيادات والمصحات النفسية وإصابة الكثير منهم بصدمات نفسية قوية، بشهادة الكيان المحتل ذاته.
“غول” و”إم 99″.. سلاحا القنص الأكثر فتكًا
يعتمد القناصة في المقاومة الفلسطينية على سلاحين أساسيين أثبتا فاعلية كبيرة وحققا إصابات مباشرة في صفوف الاحتلال:
الأول: بندقية “غول”، وهي محلية الصنع من الألف إلى الياء، واستُخدمت قبل ذلك في عام 2014، وتعد من أطول بنادق القنص في العالم، ويصل مداها إلى نحو كيلومترين، وهي بذلك تتفوق على البندقية النمساوية الشهيرة “شتاير” التي يبلغ مداها 1.5 كيلو متر والروسية “دراغونوف” التي يصل مداها لنحو 1.2 كيلو متر، فيما تأتي في المرتبة الثانية بعد “شاهر” الإيرانية التي يبلغ مداها 4 كيلومترات، بجانب أنها تتفوق على البنادق الـ3 في نوعية الذخيرة المستخدمة حيث تستخدم قذائف عيار 14.5 ملم.
بندقية الغول القسامية 🔻🇵🇸 pic.twitter.com/6JUhkNXQCP
— 🇵🇸 𓂆 حَمّزة (@Hamzaalnamla1) March 17, 2024
سميت البندقية، التي شهد بقدراتها العالية الخبراء العسكريون، نسبة إلى القيادي المقاوم “عدنان الغول”، الملقب بـ”رائد التصنيع العسكري”، الذي استشهد بعد أن استهدفت غارة إسرائيلية مركبته في شارع يافا وسط مدينة غزة، يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2004.
تنضم بندقية “الغول” إلى قائمة مطولة من الأسلحة محلية الصنع لدى المقاومة منها قذيفة “الياسين 105” القادرة على تفتيت المدرعات الإسرائيلية ذات القدرات الصلابية العالية كالمدرعة المعروفة باسم “النمر” على سبيل المثال، بجانب صواريخ “رجوم” وصواريخ “M75″ و”R160″ و”J80″ و”سجيل 55”.
الثاني: بندقية “زيجيانغ إم 99″، وهي صينية الصنع، ودخلت لأول مرة في العمليات خلال عام 2005 من القوات البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، ثم بدأت تنتشر في منطقة الشرق الأوسط حيث استخدمتها المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد، وتتميز بالقدرة على اختراق المركبات المدرعة المصنوعة من مواد شديدة الصلابة.
يبلغ وزنها 12 كيلوغرامًا وطولها 150 سم ويصل مداها لنحو 1.5 كيلومتر، وتبلغ سرعة إطلاقها 800 متر في الثانية، وهو ما يميزها عن غيرها من بنادق القنص الأخرى، إذ إنها تصيب هدفها على بعد 1500 متر في أقل من ثانيتين.
يمكن لتلك البندقية أن تصيب أكثر من هدف في نفس الوقت، إذ تتسع خزانتها لـ5 طلقات، وهو الأمر الذي جعلها تدخل ضمن تفضيلات القسام في الحرب ضد الاحتلال، ففي ظل الفارق الكبير في العدد بين المقاومة وجيش المحتل فإن استخدام هذا النوع من الأسلحة قادر على إعادة توازن المعادلة بنسبة كبيرة.
تثبت المقاومة بتنويع ترسانتها التسليحية قراءتها الجيدة لطبيعة الحرب مع الاحتلال من جانب، وقدرتها على قراءة قدراته وإمكانياته العسكرية من جانب آخر، وهي الحرب التي لن تُحسم في معركة واحدة، الأمر الذي يتطلب التعاطي مع كل مرحلة وفق ظروفها وخصوصيتها التي تحتاج نوعية معينة من الأسلحة دون غيرها، لتُجمع النقاط تباعًا وصولًا إلى الهدف الأسمى وهو زوال الاحتلال وتحرير كامل الأرض.