قبل أيام، مرت الذكرى الـ39 لرحيل العظيم نجيب سرور، تحديدًا في 24 من أكتوبر، وهو الذي توفي شابًا عن 46 عامًا بعد صراع مع المرض والسياسة والقمع وكل شيء، فسرور كان كالمصارع لطواحين الهواء، ولكن لأجل من؟ لأجل حبه الأول مصر.
وحينما تكون البداية من حيث انتهى سرور، تستدعي الذاكرة الرسالة التي خطها نجيب على فراش المرض لصديقه يوسف إدريس وحملت كثيرًا من معاني الحزن والألم الذي مرّ به أديب عظيم كسرور، حين قال له:
“ألا تخطئ مرة عشان خاطري وتزورني في مسكني المتواضع؟ فأنا طريح الفراش منذ أكثر من عام، نصف كسيح ونصف ضرير، وأنوء بأعباء المرض بل تحالف الأمراض، ولا أملك إمكانية العلاج في مصر ولا في لندن ولا حتى في موسكو، وأنوء بأعباء الأطباء والأسعار الجنونية للأدوية وأعباء الأسرة والولدين”.
لم يمنعه حب البلد الذي عُجن بترابه أن يهاجم ناصر، وهو مبتعث في عهده ليدرس المسرح في روسيا، حتى يصل به الأمر إلى سحب جنسيته فيواصل الفلاح الأصيل النضال من روسيا وينتهي به المطاف في النهاية بالقاهرة مرة أخرى
“لا لن أطلب منك أكثر من أن تشرب معي الشاي على الأقل، لترى شهدي وفريد الذين يتمتعون بذكاء مخيف يفوق ذكاء الكبار، ويجيدون العربية والإنجليزية والروسية ويضحكون ويسخرون من كل شيء ويكرهون اليهود، ويرحبون دائمًا بكل الضيوف،
الآن تذكرت، سأطلب منك بعد الشاي أن تتدخل بنفوذك لدى أحد الناشرين الخصوصيين هنا في مصر أو في أي مكان من الوطن العربي، لكي يشتري مني كتابًا أو مجموعة شعرية أو حتى الجزء الثالث والأخير من ثلاثيتي الشعرية “ياسين وبهية” “وآه ياليل يا قمر” و”قولوا لعين الشمس” بدلًا من رقادها في حبال العنكبوت”.
يوسف.. إني في حاجة إلى أي مبلغ
هذه الرسالة التي نشرتها جريدة الدستور في أغسطس الماضي، تحمل ملخصًا لما عانى منه سرور نتيجة قولة الحق بلسان لاذع وقوي، ليس بالخائف ولا المدلس، ونحن كنجيب سرور في حب هذا البلد، نكتب معلّقة طويلة في هجاء حكامه وشعبه وحتى جغرافيته، لكننا نعود لنقول إنها في التاريخ لم تكن يومًا الثانية، هاجم نجيب كل المنتفعين في هذا البلد، وصفهم كما لو أنه يصف لوحة أمامه، لم يمنعه حب البلد الذي عجن بترابه أن يهاجم ناصر، وهو مبتعث في عهده ليدرس المسرح في روسيا، حتى يصل به الأمر إلى سحب جنسيته فيواصل الفلاح الأصيل النضال من روسيا للمجر ثم المغرب وينتهي به المطاف في النهاية بالقاهرة مرة أخرى، لكنها كانت قاهرة غير التي يحب شوارعها، قاهرة منتكسة خاسرة يحكمها الجلاد وهو لا يكره سوى الجلادين، فتستقبله أقبية صلاح نصر بالتعذيب.
رسالة مفتوحة إلى سرور
أما جيلنا الذي أضحى اليوم يستعيد ما كتبه نجيب سرور ويمجد روحه وسيرته، فسأخبرك يا سيدي أنه أصبح اليوم مؤمنًا بك أكثر مما آمن بك جيلك، أخبرك أننا حزينون لما جرى لك، كأنك ثورتنا المنكوبة والمظلومة والمغدروة.
ما كتبه نجيب لم يكن كله داكن اللون كما سوق حُساده
أتمنى لو تعود وتعيش يومين، يوم نرى فيه وجهك المصري الذي أتعبته الجراح ونسمع صوتك المميز وتقرأ شعرك المتجاوز لكل خطوط الطول والعرض، ويوم لنا، تسمعنا ونحن نفخر بك وبكل ما كتبت، نستعيده اليوم ليصبرنا على النكبة التي نعيشها، نستعيده لأنك كنت نحن، لم تكن يومًا طالب سلطة أو نفوذ أو مال، وكيف لا وقد كان قلمك البديع سوطًا على ظهور كل من خانوا هذا الوطن وأنكسوه، سببتهم بأقذع الألفاظ، لكنك حين تحدثت عن مصر والنيل لم يكتب أحد مثلما كتبت.
أخبرك أننا نجلس على مقهى المنفى، فنذكرك ونذكرك ونذكرك، نضحك على كلماتك المنتقاه ونحزن من وصفك الدقيق الذي يمر بداخلنا ويعبر من خلالنا، كيف لا، وأنت بعد أبيات طويلة تصب فيها القهر صبًّا، حدثت شُهدي:
يا بنى بحق التراب وبحق حق النيل
لو جُعت زيي ولو شنقوك ما تلعن مصر
اكره واكره واكره بس حب النيل
وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا
دي مصر يا شُهدي في الجغرافيا مالها مثيل
وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية
المنسي
ورغم أن معلّقة سرور الشهيرة تعتبر الأوسع انتشارًا بين أعماله، بسبب ما حملت بين سطورها خروجًا غير معهود عن النص، إلا أن انتشارها وحدها، هذا الانتشار العظيم، من أحزن الأشياء، خصوصًا أن الكثيرين لا يعلمون أن نجيب كان كاتبًا وممثلًا مسرحيًا عتيدًا له تجربة طويلة، سببت له أيضًا الكثير من المتاعب، ففي عام 1971 وفي أثناء وقوع أحداث أيلول الأسود بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية في الأردن، كتب وأخرج سرور مسرحيته الذباب الأزرق، وهي المسرحية التي تدخلت المخابرات الأردنية لمنعها في مصر، رغم أن العلاقة في ذلك الوقت بين النظام المصري والأردني لم تكن في أحسن أحوالها، ليصطدم سرور مرة أخرى بأجهزة القمع ويبدأ معها جولة أخرى، يُفصل فيها من عمله كمدرس بأكاديمية الفنون في القاهرة، ويضيق عليه ويمنع من النشر ثم يتهم بالجنون.
ما كتبه نجيب لم يكن كله داكن اللون كما سوق حُساده، فمثلًا الأغنية المبهجة التي غناها الشيخ إمام “البحر بيضحك ليه” كانت من كتابة سرور، وأيضًا مسرحية “ملك الشحاتين” التي شارك فيها سعيد صالح وعدد آخر من النجوم كانت عملًا كوميديا اجتماعيًا، وكتب نجيب عددًا من الأعمال الوطنية وقدم أعمالًا نقدية أدبية مثل “رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ” و”تحت عباءة أبي العلاء” و”هكذا قال جحا” و”حوار في المسرح” و”هموم في الأدب والفن”.
إن الناظر في رحلة سرور المليئة بالمتاعب والهموم والسخط والحب والكره، ليعجز عن تلخيص ما لخصه سرور في مجموعته الشعرية “لزوم ما يلزم” التي كتب قصائدها في هنغاريا عام ١٩٦٤، ونقشت على قبره:
قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح
فاحفر هنا قبرًا ونم وانقش على الصخر الأصم
يا نابشا قبري حنانك ها هنا قلبٌ ينام
لا فرق من عام ينامُ وألف عام
هذي العظام حصاد أيامي فرفقًا بالعظام
أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبي كان دومًا قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة