اعتاد الكثيرون على التعامل مع الذكاء البشريّ كصفةٍ عامة يمتلكها الفرد، لذلك قد يجدون صعوبة في إدراك أنّ للذكاء جوانب متعددة تختصّ بصفاتٍ ومواقف وجهاتٍ وتحدياتٍ معينة، وبشكلٍ منفصل عن غيرها، فهناك التحديات اللغوية أو الرياضية أو الاجتماعية أو الفنية وغيرها الكثير.
لا بدّ وأنك وصفتَ شخصًا ما تعرفه بأنه ذكيّ غير أنه فاشل اجتماعيًّا أو على المستوى الشخصيّ من حياته، أو أنه غنيّ ولكنه تعيس، أو قد يكون قويًّا لكنه غير متسامح وغير لطيف. جميع هذه التناقضات التي تراها في ذلك الشخص وتصفه فيها تندرج تحت ما باتَ يُسمّى في علم النفس بالذكاء العاطفي.
على المستوى الشخصيّ أو النفسيّ، يظهر الذكاء العاطفيّ في طريقة تعاملنا مع مشاعرنا وعواطفنا المختلفة، خاصة مشاعر الحبّ والغضب والحسد والغيرة والقلق والرغبة. فالأذكياء عاطفيًّا يرفضون الاندفاع وراء الاندفاعات الأولية لعواطفهم، كما أنهم لا يثقون بالدوافع السطحية لمشاعرهم، فيعلمون أنّ الكراهية قد تخفي الحبّ أو الحنق، وأنّ الغضب ما هو إلا غطاء للحزن وخيبة الأمل.
يؤمن الأشخاص ذوو الذكاء العاطفيّ أنهم معرّضون دومًا لارتكاب الأخطاء حيال مشاعرهم وعواطفهم ورغباتهم، وما يريدونه من أنفسهم أو من الآخرين حولهم أو من الحياة بشكلٍ عام.
كما يفرّق الذكاء العاطفيّ بين أولئك الذين يقعون ضحية الفشل ويتركون أنفسهم للاكتئاب وفقدان الثقة المرتبطة به، وبين أولئك الذين يؤمنون أنّ الفشل ما هو إلا أحد خيارات الوجود التي يجب تقبّلها وتخطّيها لضرورة الاستمرار والمكافحة.
أما في الحياة الاجتماعية، ينطوي الذكاء العاطفيّ على قدرتنا في التعامل بحساسيّة تجاه ردات فعل الآخرين، ومزاجاتهم المختلفة، ونوباتهم العاطفية المتعددة، وفي قابليّتنا لإدراك الأسباب التي دفعتهم للتصرف بهذا الشكل أو القيام بذلك السلوك، أي القدرة على تأويل الأسباب فيما وراء تصرفاتهم وانفعالاتهم وعواطفهم المفاجئة، كأنْ تعلم أنّ موجة الغضب التي يصدرها صديقك ما هي إلا دليل على حاجته لمساعدتك، وأنّ أيّ موجة فكاهةٍ صاخبة من أحدهم ما هي إلا دليلٌ على حزنه وأساه.
نظرة مختصرة: ما هو تاريخ الذكاء العاطفيّ؟
لا يُعدّ الذكاء العاطفيّ خاصية مكتسبة ترافق الفرد منذ ولادته، وإنما هي نتاج التعليم والتجارب المختلفة في حياته. غيرَ أنّنا نعيش في مجتمعاتٍ لا تولي للتعليم العاطفيّ أية أهمية، أليس من الأولى أن نتعلّم في سني حياتنا المبكرة كيف نفسّر أحزاننا تمامًا كما نتعلّم اللغة، ونتعلّم كيف نفهم أصدقاءنا وشركاءنا تمامًا كما نتعلم الرياضيات والتاريخ؟
قد يكون سبب بُعد الإنسان عن محاولة فهم عواطفه وتحليلها والتحكم فيها هو ميله للحركة الرومانسية، والتي تركّز على وجود دورٍ كبيرٍ وأساسيّ للعاطفة والمشاعر في حياتنا، ربما يكون أكثر أهمية من دور التفكير والعقل والمنطق. فقد اقترحت الرومانسية أن نتعلم الاستسلام للعواطف بثقة وإيمان دون الالتفات لمعرفة ما وراءها. فإذا شعرتَ بالسعادة لا تحاول تحليل الأسباب، فالأسباب قد تضرّ أو تشوّه الشعور، وكذلك الأمر مع كلّ شعور أو عاطفة أخرى.
باتت المواد الأكاديمية مثل الفلسفة والتاريخ والأدب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمهمة تعليم العواطف والحديث عن المشاعر والانفعالات
لا شكّ أن الحركة الرومانسية ذات جوانب جيدة، إلا أنّ لها بعض العواقب الصعبة، فالذي لا شكّ منه أنّ مشاعرنا وعواطفنا إذا تُركت غير مفهومة وغير متعلَّمة، قد تقودنا إلى خياراتٍ خاطئة أو معاكسة فيما يتعلّق بعلاقاتنا وحبّنا وحياتنا الاجتماعية والمهنية، كما في التحكم بمزاجنا وطِباعنا.
بعيدًا عن المدرسة الرومانسية الغربية، ولو نظرنا من جانبٍ عربيّ لوجدنا أنّ الدين لعب دورًا هامًا ومنهجيًا سعى من خلاله إلى تحسين وتطوير استجاباتنا العاطفية وتعاملنا مع مشاعرنا الخاصة ومشاعر الآخرين. فوصايا لقمان الحكيم على سبيل المثال والتي ذكرها القرآن كانت تحمل عددًا كبيرًا من النصائح التي تصبّ في نطاق الذكاء العاطفي كالدعوة لعدم الغضب ورفع الصوت وتجنب الكِبر والحسد وغيرها، بالإضافة للكثير من الآيات والأحاديث التي دعت للّطف والمحبة والمسامحة والغفران.
ومع تقدّم الحياة وظهور الجامعات سواء في مجتمعاتنا أو المجتمعات الغربية التي لعب الدين المسيحيّ فيها دورًا كبيرًا بالمناسبة في نطاق تعليم الذكاء العاطفي، باتت المواد الأكاديمية مثل الفلسفة والتاريخ والأدب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمهمة تعليم العواطف والحديث عن المشاعر والانفعالات.
في عام 1990 بدأ مصطلح “الذكاء العاطفي” بالظهور بعد أن استخدمه كلٌّ من بيتر سالوفي وجون ماير، معرّفين إياه بأنه “”شكل من أشكال الذكاء الاجتماعي الذي ينطوي على القدرة على رصد المرء لمشاعره ومشاعر الآخرين وعواطفهم، والتمييز بينها، واستخدامها لتوجيه التفكير والفعل”.
يجب الإشارة إلا أنّه لا يوجد سلوك بشريّ لا يمكن تغييره، كما يمكن للجميع تغيير طريقة تعاملهم وإدراتهم لعواطفهم، ولكن قلة من الناس على استعدادٍ جدّيٍّ وصادق لمحاولة ذلك. إذن فالأمر ليس مستحيلًا لكنه صعب
وبكلماتٍ أخرى، فالذكاء العاطفي هو الخاصية التي نتمكن من خلالها التعامل بصبر وصبيرة وفعالية عالية مع المشكلات أو الأحداث الكثيرة التي نواجهها في علاقاتنا سواء مع أنفسنا أو مع الآخرين
في العام نفسه أصدر دانيال غولمان كتابه الذي حمل اسم “الذكاء العاطفي”، والذي استند فيه إلى بحث سالوفي وماير وأشار فيه إلى أربع خصائص رئيسية لهذا النوع من الذكاء وهي: الوعي الذاتي أو قدرة الفرد على فهم مشاعره الخاصة، والتحكم الذاتي أو القدرة إلى إدارة العواطف الذاتية، والوعي الاجتماعي أو القدرة على التعاطف وفهم مشاعر الآخرين وانفعالاتهم، والمهارات الاجتماعية وهي القدرة على التعامل مع مشاعر وعواطف الآخرين.
وخلال السنوات اللاحقة، شهد العالم ظهورًا واسعًا لكتب المساعدة الذاتية، أو ما يعرف بـِ”Self Help“، والتي تساعد –كما يُقال- لتطوير مشاعر الفرد وتطوير استجاباته العاطفية وتعامله مع انفعالاته الشخصية وافعالات الآخرين ممّن يتعامل معهم.
وقد ساعد تطوّر علم النفس في القرن العشرين على التركيز على أهمية متابعة نموّ الطفل عقليًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا لما في ذلك من أثر كبير على بقية مراحله العمرية نفسيًّا واجتماعيًّا ومهنيّا وعلى مستويات عدة أخرى.
هل يمكن قياس الذكاء العاطفي وتطويره؟
مستواك في الذكاء العاطفيّ قد يكون ثابتًا لكنه ليس جامدًا؛ فقدرتنا على تحديد وإدارة مشاعرنا الخاصة ومشاعر الآخرين ثابتة أو مستقرة إلى حد ما مع مرور الوقت، متأثرة بتجارب طفولتنا المبكرة وعلم الوراثة، إلا أنّ هذا لا يعني أنك لا تستطيع تغييره، ولكن التحسينات الواقعية طويلة الأجل تتطلب قدرًا من التفاني والعمل وتحتاج للتوجيه.
يجب الإشارة إلا أنّه لا يوجد سلوك بشريّ لا يمكن تغييره، كما يمكن للجميع تغيير طريقة تعاملهم وإدراتهم لعواطفهم، ولكن قلة من الناس على استعدادٍ جدّيٍّ وصادق لمحاولة ذلك. إذن فالأمر ليس مستحيلًا لكنه صعب.
وبالتالي يمكن لبرامج التدريب الجيدة أو الاستعانة بالمعالجين المختصين، أن تجدي نفعًا وتحسّن من مستوى الذكائي العاطفي، من خلال تحسين القدرة على فهم الذات ومشاعرها وانفعالاتها وتحسين التعامل مع الآخرين، الأمر الذي قد ينتج مستويات أعلى من الصحة النفسية والعقلية.
لكنّ هذا لا يحدث إلا إذا حصل الفرد على ردود فعل دقيقة وتغذية حقيقية عما يتعلّق بعواطفه، فتقييم المرء لذاته يكون في الكثير من الأحيان غير دقيق أو غير منطقيّ، كما أنّ معظم من حوله من أقرباء وأصدقاء يكونون عاجزين عن تقييمه ومعرفته، لذلك يحتاج أحيانًا لاستشارةٍ من خبير كفء يساعده على رؤية نقاط القوة والضعف فيما يتعلق بعواطفه ومشاعره.