لم يُسمع لمسعود البارزاني صوت منذ دخول القوات العراقية بصحبة المليشيات الإيرانية كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها، حتى خرج علينا اليوم باستقالته، ربما كان ذلك حياءً من شعبه الذي طالما منَّاه بفجر دولة كردية جديدة سيبزغ تحت قيادته، أو ربما تعبيرًا عن شعوره بالإحباط الذي انتابه وهو يرى العالم كله قد تخلى عنه، وهم الذين منًّوه بدعم استقلاله من خلال واقع الحال وليس بصريح المقال.
كان مسعود البارزاني يُعامل كرئيس دولة وليس رئيس إقليم تابع للعراق من كثير من دول العالم، ويسلحون قواته بمعزل عن حكومة بغداد، ويبرمون الصفقات الاقتصادية طويلة الأمد معه بالشكل الذي يوحي للبارزاني أن تلك الحكومات تخطط لمرحلة ما بعد استقلال كردستان عن العراق.
واستيقن البارزاني في قرارة نفسه، حقيقة أن من المستحيل على الغرب عامةً والولايات المتحدة خاصةً، أن تتخلى عنه ولا تدعم مشروعه في الاستقلال، وهو الذي دعم الغرب في حربه على داعش ونفذ كل ما يطلب منه ابتداءً من تعاونه في إسقاط النظام العراقي 2003 ومرورًا بالحرب على داعش، وليس انتهاءً بتعهداته لخدمة الغرب بعد أن يستقل بدولته.
وفاته إدراك أن الغرب لا صديق دائم له، وأنهم ينظرون إلى قادة كردستان ومقاتليهم ليس بأكثر من مقاتلين بالأجرة، يقاتلون من أجل رواتب تدفع لهم من خزينة البنتاغون، وحين ينتهي دورهم يلفظونهم كما فعلوا ذلك بغيرهم، والذي يجعلنا نعجب من إصرار البارزاني على المراهنة على الدول العظمى، أن ذات الخدعة وقعوا بها مرارًا على طول تاريخ الكرد الحديث، فقد فعلها بهم الروس والإيرانيون من قبل، لكنهم لا يستوعبون دروس التاريخ.
وكأنني أرى البارزاني طيلة فترة صمته غارق في حديث نفس، يتساءل مع نفسه ولكن ليس هناك من مجيب، هل أخطأت حينما سعيت لتحقيق حلم الأكراد بتأسيس دولة لهم؟ وهل أخطأت حينما تشبثت برئاسة الإقليم وجعلت حكومته ملكًا لعائلتي؟ لماذا تخلت عني أمريكا وأنا الذي خدمتها في كل المراحل وأشدها صعوبة؟ ولماذا تخلت عني إيران وأنا الذي ساهمت في تمكين حلفائها من السيطرة على العراق؟ لماذا حاربني حلفائي من الأحزاب الشيعية وأنا الذي سكتُّ عن كل جرائمهم بحق العرب السنَّة ودعمت أشد حكوماتهم إجرامًا وبطشًا؟ وهل مساهمتي في إقصاء العرب السنَّة ينطبق عليها المثل الذي يقول “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”؟ وتتوالى الأسئلة التي لا يجد لها إجابة، لكن سنساعده بالإجابة عنها.
إذا كنت تقول لماذا يحق للعرب أن يكون لهم22 دولة ولا يحق للأكراد أن يكون لهم دولة واحدة؟ فأجيبك: وهل رأينا خيرًا من الدول العربية القومية؟
لقد تشبثت بحلم الدولة الكردية القومية في الوقت الذي تجاوز العالم المتحضر المرحلة القومية في بناء الدول، وإذا كنت تقول لماذا يحق للعرب أن يكون لهم 22 دولة ولا يحق للأكراد أن يكون لهم دولة واحدة؟ فأجيبك: وهل رأينا خيرًا من الدول العربية القومية؟ ألم يتجرع الشعب العربي أصناف الويلات من تلك الحكومات القومية؟ ومَن سبب تخلف العرب الآن؟ أليست ذات الدول القومية الجاثمة على صدره؟ وهل تعتبر الدول العربية القومية قدوة لك لتقدمها نموذجًا لشعبك الكردي؟
لكن الحقيقة أنك تعلم كل ذلك، لكنك لا تمتلك شيئًا تقدمه للأكراد وفقدت أنت وحزبك مبرر وجودك بالحياة السياسية الكردية بأفكاركم القومية، وبعد أن ثبت للشعب الكردي مدى تشبثك بالسلطة مع عائلتك، لجأت للتشبث في موضوع حلم الدولة الكردية لكي تطيل بقاءك بالسلطة ولتورثها من بعدك لعائلتك، في طريقة لا تختلف عما يقوم به أي حاكم عربي ديكتاتوري.
لقد تخلت عنك الولايات المتحدة الامريكية لأنها تدرك أنك لا تمثل إلا نفسك، وما بقائك بالسلطة إلا لأنك تحكم بالحديد والنار، تخلت عنك لأنها لم تجد فيك إلا زعيمًا لجماعة تعمل بالأجرة عندها، ولا ترتقي للدرجة التي تدعمك لتأسيس دولة، بل إنها تخلت عنك لأن هذا دأبها مع من يبيع نفسه لها، فعلت ذلك مع كل الرؤساء الذين أطاحت بهم شعوبهم سواء في المنطقة العربية أو أمريكا اللاتينية أو غيرها من البلدان التي كان رؤساؤها يدورون في فلكها.
وتخلت عنك إيران لأنك كنت مرتبطًا معها بحلف ضد بلدك، وفضلت التحالف مع أذنابها بعد الاحتلال في حرب العرب السنَّة، رغم علمك بأن إيران تكنُّ العداء لك ولشعبك بما لا يقل عن الذي تكنّه لكل عربي خاصة السنَّة منهم، استفردت إيران بأعدائها بالعراق بادئين بالعرب السنَّة وأمام ناظريك ولم تحرك ساكنًا، ظانًا إنها ستحابيك إذا أعلنت الاستقلال، وستحفظ لك خدماتك لها طيلة الفترة الماضية، لقد انتهت إيران من الانتقام من العرب السنَّة وجعلتهم مكونًا غير مؤثر في الساحة العراقية سياسيًا وعسكريًا، وجاء الدور عليك وعلى شعبك لتعيدكم لبيت الطاعة الإيراني، فقامت باستغلال استفتائك على الاستقلال لترجع شعبك لدائرة نفوذها ولتستبدلك بقادة أكراد أكثر ولاءً لها منك.
هل تنحيك من منصبك سيعفيك من المسؤولية بعد أن وضعت شعبنا الكردي في أصعب حالاته منذ 2003؟
ولنسألك هنا بعد أن خسرت كل شيء، ما ضرك لو أنك تحالفت مع شرفاء شعبك من العراقيين ووقفت ضد تغلغل النفوذ الإيراني في العراق؟ ما ضرك لو أنك وقفت بوجه الظلم الذي قامت به الحكومة الطائفية في بغداد ضد مكون أساسي في العراق؟ أما كان حريًا بالعرب السنَّة الآن يقفون معك لينصروك ضد اعتداء إيران ومليشياتها ضد شعبك لو أنك نصرتهم بأيام محنتهم؟ لكن من يشد على أيدي الظلمة ويدعم حكمهم، سيأتي اليوم الذي يلقى الظُلم نفسه، وقد كان ذلك مع الأسف.
هل كنت تعتقد أن كبت الحريات في كردستان ومحاربة أصحاب الرأي من المفكرين الأكراد، سيجعلك أكثر قوة أمام أعدائك؟ إن هذا الأسلوب بالحكم لا يفرز إلا منافقين يدورون من حولك ليزينوا لك أعمالك، للدرجة التي أفرزت لك مستشارين سياسيين لم تكن لهم الجرأة الكافية لجعلك تفهم حجم الكوارث التي ستحيق بك وبشعبك بسبب تصرفاتك، لا بل وصل الأمر بهم أنهم كانوا يحثّوك على سياساتك القمعية وعلى تشبثك بالحكم والإقدام على مغامرة إجراء الاستفتاء رغم كل الظروف المحيطة، حتى وقعت أنت وشعبك فريسة لمليشيات إيران.
أما كان عليك الإنصات إلى المواطنين الكرد الذي نصحوك بالحذر والتروّي، ورغبَ الكثير منهم بالبقاء بعراقٍ واحد؟ لقد قذفت تقديراتك البائسة الأكراد إلى مأزق عظيم وجعلت موقفهم ضعيفًا أمام إيران وأذنابها، فمن لهم الآن وأنت جعلتهم وحيدين في جزيرة محاطة بالأعداء؟
لقد كان الاستفتاء الذي أصررت عليه، حصيلة سوء حساباتك الاستراتيجية، وبدلًا من أن يلمّع أوراق اعتمادك أمام الآخرين، ويعزز نفوذ حكومة الإقليم، أسفر عن خسارة تلك الحكومة السيطرة على أراضٍ شاسعة بما فيها كركوك وحقول نفطها، وأجّجت الخلافات بينها وبين بغداد والدول الإقليمية، وزادت نفوذ إيران ومليشياتها، وسدّدت ضربات قاصمة لاقتصاد الإقليم.
هل سيحسم سياسيو العرب السنَّة أمرهم، بإعادة رسم سياساتهم وتوحيد صفوفهم ليتحالفوا مع قيادات كردية أكثر حكمةً ووعيًا بالتحديات التي يواجهونها، ليحافظوا على ما تبقى لهم من مكونهم وأراضيهم؟
هل تنحيك من منصبك سيعفيك من المسؤولية بعد أن وضعت شعبنا الكردي في أصعب حالاته منذ 2003؟ وبماذا سيذكرك شعبك وأنت تتركه فريسة لمليشيات إيران؟ وهل سيفهم الذي يأتي بعدك من قادة سياسيين كرد، أنهم سيكونون تحت رحمة إيران إذا لم يعيدوا حساباتهم ويتحالفوا مع العرب السنَّة باعتبارهم عمقهم الاستراتيجي ضد محاولات إيران لاحتوائهم؟
لم تكن الحكومات الموالية لإيران منذ 2003 في حاجة لدعم المكون العربي السني في تشكيل حكوماتهم باللعبة السياسية التي أسسها الاحتلال الأمريكي، بسبب دعم الكتل السياسية الكردية لهم، فهل سيكرر الساسة الكرد نفس الخطأ مرة أخرى ويتحالفون مع أذناب إيران؟
وهل سيحسم سياسيو العرب السنَّة أمرهم، بإعادة رسم سياساتهم وتوحيد صفوفهم ليتحالفوا مع قيادات كردية أكثر حكمةً ووعيًا بالتحديات التي يواجهونها، ليحافظوا على ما تبقى لهم من مكونهم وأراضيهم؟ مع شديد الأسف إننا نشك بذلك، فالذي واجهه العرب السنَّة من تهجير وقتل طائفي وتدمير لحواضرهم، ووقوف السياسيين السنة مكتوفي الأيدي لنصرة من يمثلونهم، سيكون حائلاً بينهم وبين حصد أصواتهم، بل حتى لو كانت للعرب السنَّة النية للتصويت لذات الرموز، ستحول ظروفهم التي يعيشونها في مخيمات النزوح بينهم وبين المشاركة الفاعلة في الانتخابات القادمة، وسيفوت العرب السنَّة مرة أخرى الفرصة التي تجعلهم بيضة القبان في تأسيس أي حكومة قادمة.