لا يمكن اعتبار الأزمة المشتعلة حاليًا بين تيار المستقبل والجماعة الإسلامية في لبنان مجرد مناكفات انتخابية، بل انفجار جاء في موعده ليكمل حالة العناق المريبة بين المأساة والملهاة في المنطقة بأكملها، بعدما بات واضحًا أن الأجواء التى يجرى فيها التحضير للانتخابات النيابية اللبنانية لا تحرض إلا على الاستقطاب والغل السياسي، رغم كل ما يحدث في المنطقة من صراعات كارثية، دُمر فيها الحجر والشجر والإنسان، بسبب الانتهازية السياسية المفرطة والتناحر والبغضاء بين الخصوم السياسيين.
ماذا يحدث في لبنان؟
حرب بيانات مشتعلة منذ ما يقرب من أسبوع بين تيار المستقبل والجماعة الإسلامية، صوت الإخوان المسلمين في لبنان، ظاهرها الخلاف على التعريض سياسيًا بأحد أعضائها ويدعى أحمد الصغير الذي شمله مرسوم تعيين مجلس إدارة مستشفى سبلين الحكومي قبل أن يتغير القرار في اللحظات الأخيرة ودون تشاور مع الجماعة بقرار آخر نُشر في وسائل الإعلام، لتصدم جماعة الإخوان بوجود مرشح آخر من جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية المقربة من قوى الثامن من آذار الذي يقوده حزب الله اللبناني.
ما يزيد أجواء التوتر في لبنان أن الجماعة الإسلامية تعلم جيدًا حجم الضغوط الخليجية على تيار المستقبل، وخصوصًا بعد الأزمة الخليجية القائمة مع قطر للمسارعة في قطع العلاقة مع الذراع الإخواني في لبنان
أما باطن الصراع المشتعل فيكمن في تنافس قيادة الطائفة السنية في الانتخابات النيابية، المقرر إجراؤها في مايو المقبل، وأدى التصعيد الإعلامي وحرب التسريبات على الشاشات التي نقلت من مصر إلى لبنان بنفس معطياتها ومفرداتها البغيضة إلى زيادة حدة الاحتقان والتصلب في المواقف.
ما يزيد أجواء التوتر في لبنان أن الجماعة الإسلامية تعلم جيدًا حجم الضغوط الخليجية على تيار المستقبل، وخصوصًا بعد الأزمة الخليجية القائمة مع قطر للمسارعة في قطع العلاقة مع الذراع الإخواني في لبنان، وهو ما جعل الفتور يخيم على علاقاتها مع تيار المستقبل، لتنقطع سبل التواصل السياسي معه بشكل شبه كامل، وكلما اقتربت الانتخابات سخنت إنزيمات الكرامة والكبرياء السياسي في أوردة الإخوان لمباغتة تيار المستقبل بهجوم مضاد، حيث يجرى التفكير حاليًا وبقوة في رد صاعق، بترشيح أعضاء الجماعة على الدوائر التي جرى فيها تنسيقات سابقة وتم إخلاؤها لتيار المستقبل وخاصة “دائرة الشوف” في محاولة لإبراز أنياب جماعة الإخوان بقدراتها الحقيقية على المواجهة والفتك للتيار.
دوامات الغضب.. من المستفيد؟
الغضب المسيطر على الجماعة بالتأكيد ليس في صالحها، خاصة أنها تمضي في طريقها لمزاحمة تيار المستقبل في عقر داره ردًا على ما تراه إهانه لها، والقرار حاليًا في أعلى المستويات بالجماعة لإصدار تصور نهائي عنه، ويحدث ذلك في الوقت الذي يقر فيه لبنان قانون الانتخابات الجديد بالنظام النسبي لأول مرة في تاريخ قوانين الانتخاب بالبلاد، ويشمل مجمل عمليات الانتخابات سواء البلدية أو النقابية وغيرها، الأمر الذي يضع لبنان على الطريق الصحيح في كيفيات التمثيل بمجمل العملية الديمقراطية وليس فقط الانتخابات المقبلة.
ورغم خطورة القانون الذي ينسف النظام المعمول به في الانتخابات السابقة بكل تحالفاتها، فإن الجماعة لم تتفرغ لدراسته وتغيير خططها الانتخابية بدلاً من إسراف الوقت وإنفاقه على خدمة الكيد السياسي، والوقوع أكثر في براثن الغضب الذي يديره تيار المستقبل لصالحه بحرفية شديدة حتى الآن، بعدما استطاع بجدارة نقل الأزمة السياسية من الغرف المغلقة إلى الإعلام وبالتبعية إلى أنصار الفريقين، الذين كالوا الشتائم بكل صنوفها لبعضهم البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، رغم وقوف التيار والجماعة على قاعدة سنية وجماهيرية واحدة.
ختمت الجماعة بيانها بما تكنه الصدور معلنة بشكل واضح لا لبس فيه أنها ترى ما حدث سيكون له انعكاساته السلبية على العلاقات المستقبلية مع التيار
ورغم محاولة عقلاء الجماعة الإسلامية في جبل لبنان، لفرض تصور هادئ لإدارة الأزمة بشكل صحيح، فالجماعة تمادت في إظهار حنقها على تصرف تيار المستقبل، وظهر ذلك واضحًا في البيان الذي أصدرته للتهنئة بتعيين مجلس إدارة جديد لمستشفى سبلين الحكومي، وقالت فيه نصًا: “تتقدم الجماعة الإسلامية في جبل لبنان بالتهنئة لتعيين مجلس إدارة جديد ولكنها تتساءل عن سبب استبدال اسم أحمد الصغير بعد أن كان موجودًا في مشروع مرسوم التعيين الذي رفع إلى مجلس الوزراء للمصادقة عليه ونُشر في وسائل الإعلام لنجد أنه اُستبدل باسم مرشح آخر تابع لتيار معروف”.
وتابعت: “هل هذا الاستبدال يلغي حالة الإحباط التي يعاني منها أهل السنة في لبنان؟ وهل سيعيد لهم حقوقهم المهدورة وللرئاسة الثالثة هيبتها، أم أنه يعيد الثقة بالحكومة ورئيسها؟ وهل يعبر عن الشراكة بين أبناء المسلمين السنة بجميع مكوناتهم؟”، وأضافت: “نعيب على الأحزاب أحادية القرار فإذا بنا نفاجأ بممارستها علنًا ودون خجل”.
وختمت الجماعة بيانها بما تكنه الصدور معلنة بشكل واضح لا لبس فيه أنها ترى ما حدث سيكون له انعكاساته السلبية على العلاقات المستقبلية مع التيار.
المستقبل والإخوان.. من التحالف إلى التناحر
كانت الجماعة الإسلامية ترى دائمًا أن الأولوية في تحالفتها السياسية بعد الإسلاميين يجب أن تكون لتيار المستقبل، خصوصًا أنه الأكثر اعتدالاً والأقرب لها في التيارات المدنية، وكان الطرفان حريصين على خوض المعارك الانتخابية جنبًا إلى جنب في عدد من الدوائر في السنوات الماضية رغم الاختلافات السياسية، والتنافس على نيل ثقة الطائفة السنية.
حرص “المستقبل” على الجماعة كان واضحًا بشدة، خصوصًا في ظل تعرضه لاهتزازات تنظيمية بعد الانتخابات الحزبية الأخيرة، إضافة إلى المواقف الجديدة لزعيم التيار وتحالفاته غير المسبوقة، كانت الجماعة ترى حتى وقت قريب أن الحريري يمكن المراهنة عليه في ضمان تحالف انتخابي يؤمن الأهداف المرسومة لكليهما في الاحتفاظ بدوره في تمثيل السنة بمؤسسات الدولة.
اعتبر الحريري أن مصر نجحت في وقف مخطط جماعة الإخوان لتحويل مصر إلى دولة دينية، وهو المخطط الذي يراه الحريري كفيلاً بتبرير مساعي “إسرائيل” في الحصول على الاعتراف الدولي بفكرة الدولة اليهودية
كما كانت الخطط والاستعدادات تتجه لتفاوض بشأن صفقة انتخابية وفق القانون الجديد، إلا أن غموض آليات الحوار بينهما وحالة الصراع التي خرجت من سياقتها المعقولة بعد زيارة سعد الحريري رئيس الحكومة اللبنانية إلى القاهرة وتصريحاته خلال لقائه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي المعروف بعدائه للإسلاميين صبت المزيد من الزيت على النار.
اعتبر الحريري أن مصر نجحت في وقف مخطط جماعة الإخوان لتحويل مصر إلى دولة دينية، وهو المخطط الذي يراه الحريري كفيلاً بتبرير مساعي “إسرائيل” في الحصول على الاعتراف الدولي بفكرة الدولة اليهودية.
صدى تصريحات الحريري، تكفلت بضرب أي قاعدة للتحالف، بعدما تبادل جمهور الطرفين التهم والتخوين على الأرض، خصوصًا أن الحريري معروف بعلاقاته الوثيقة مع المملكة العربية السعودية ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبدا في هذه الأزمة أن التاريخ الطويل للإخوان مع البراجماتية السياسية لن يكون سندًا لها في تبرير انتهاك الخطوط الحمراء التي تجاوزها الحريري عبر المساندة العلنية لموقف القاهرة في محاولة اقتلاع الفكر الإخواني من الوجود، حسبما يسعى النظام المصري لترسية هذه الفرضية في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية.
ورغم مساندة الجماعة الإسلامية لموقف الإخوان في سوريا ومصر واليمن وما يحيط بهما من تشابكات إقليمية، فبراجماتياتها العتيدة احتفظت لها بعلاقة مميزة مع إيران وحزب الله وتيار المستقبل قبل الصدام الواضح والخطير معه بعدما منح الحريري قلادة الشرف السياسي للسيسي الذي قضى على الإخوان حسب رأي زعيم تيار المستقبل قربانًا لمقاومة المد اليهودي لـ”إسرائيل”.
والزج بـ”إسرائيل” في التصريحات النارية للحريري في القاهرة خلال تفسيره شأن عربي، لا سبيل لفهمها عند الجماعة قيادات وجماهير إلا أنها كانت مقصودة ومرتبة بعناية وليست وليدة لحظة ارتجالية حاول فيها الحريري مجاملة السيسي حسب تبرير بعض قيادات المستقبل لـ”ذلة الحريري”، الأمر الذي يؤكد أن التباين بالمواقف بين التيار والجماعة خلال عزل الرئيس السابق محمد مرسي، لم يكن موقفًا سياسيًا، بل كره وحقد أيدولوجي يجعل للتحالف بينهما من مستحيلات الواقع.